المقاله تحت باب منتخبات في
02/06/2008 06:00 AM GMT
الروائي الأميركي بول أوستر معروف على نطاق واسع لدى القرّاء العرب، لكنّ أعمالاً قليلة له انتقلت إلى لغة الضاد. كانت هناك، حتّى الآن، «ثلاثية نيويورك» و«في بلاد الأشياء الأخيرة» (دار الآداب ـــ 1993). وها هي محاولة ثالثة لتعريب «ليلة التنبؤ» («سلسلة إبداعات عالمية»، الكويت ــــ ترجمة محمد عبد السلام هاشم)، تأتي لترسّخ حضور هذا الكاتب الخاص، في المكتبة العربيّة. يروي أوستر هنا حكايات مقتطعة، غير مكتملة، عن بشر تستحوذ عليهم سير حياة أشخاص آخرين. إنها لعبة الكاتب، أو لعبة الرواية داخل الرواية، وتأرجحها الدائم بين الواقع والخيال، بين التفكير العلمي وظلام التفكير البدائي السحري. على سبيل المثال: بعد أربعين صفحة يروي فيها قصة نيك بوين، يقرّر الكاتب سيدني، وهو الذي يروي الأحداث في «ليلة التنبؤ»، أن يتوقف عن الكتابة ويمزق ما سطّره، تاركاً بطله الذي استمده من ثيمة سائبة في رواية «الصقر المالطي» لداشيل هاميت (نقلها جون هيوستن إلى الشاشة عام 1941)، في ملجأ نووي تحت الأرض من دون أي أمل بالخروج. هكذا نجد أنفسنا أمام رجل متخيل، يروي قصة رجل متخيل آخر، في دوامة مستمرة من التفاصيل والمشاعر. كلا الكاتبين مريض، سيدني انهار فجأة وسقط على السلالم وظل في المستشفى أربعة أشهر... وهو يبدأ الرواية التي تجري أحداثها عام 1982 بالحديث عن يأس الأطباء من شفائه. أما جون فمقعد بسبب جلطة دموية في ساقه، تتطور إلى جلطة رئوية تؤدي إلى وفاته وحيداً في منزله، وقد ظل سنوات طوالاً على علاقة سرية بغريس زوجة سيدني، وإن كلا الكاتبين يفكر أو يروي خلال صفحات الرواية أفكاراً ووقائع سردية، لا تلتقي بسابقاتها، أو لا تنسجم معها. لعبة كتابية مستمرة، لا سبيل للإحاطة بكل أبعادها. يضيع القارئ في متاهة السرد واستطرادات لا نهاية لها، أحد مبرراتها أنّ الكتابة ليست مجرد تسجيل لأحداث الماضي، بل جعل أشياء تحدث في المستقبل. الأفكار حقيقية، الكلمات حقيقية وكل ما هو بشري حقيقي. نحن نعيش في الحاضر، إلا أنّ المستقبل موجود داخلنا كل لحظة. أكثر من ذلك، إن الكلمات يمكنها أن تقتل، يمكنها أن تغير الواقع. وداخل البنية الروائية المتشابكة القائمة على التشويق والسرد المحبوك، يدس أوستر دائماً أفكاراً وتلميحات عن القدرة التنبؤية للكتابة. تغدو بنية النص معادلة لشبكة العلائق الاجتماعية المعقدة المتحكمة في قدر الفرد التي تضعه تحت وطأة الخوف والسعي للكشف عما يكتنفه المستقبل. قراءة أوستر ممتعة، لأنّ رواياته حافلة بالدلالات والتساؤلات المعاصرة عن معنى الكون والإنسان. وهي تطرح، باستمرار، سؤالاً لا إجابة عليه، عن صعوبة الكتابة وسحرها معاً.
|