المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
30/03/2008 06:00 AM GMT
مسرحية (أيها السيد شكسبير لقد قمت باغتيال شقيقتي) هي غزوة ثقافية على تقاليد تبرر الجريمة
ستوكهولم: حين قلت لمخرج العمل المسرحي د. أياد حامد، إن عنوان المسرحية طويل جداً (أيها السيد شكسبير لقد.... إلى آخر المعلقة)، فأننا قبل أن نكمل قراءة عنوان المسرحية، تكون مشاهدها قد انتهت وبدأ الجمهور بالتصفيق ومغادرة الصالة! قال: هذا اعتداء صريح. ومسرحيتك عنيفة أيضاً. يمكن أن أطلق عليها تسمية غزوة، وأنت تقول هي رسالة. وبالفعل فإن هذا العمل هو غزوة للعقل السويدي الذي يناقش التقاليد الشرقية، دون الانتباه للإيجابي منها، الذي تفتقده حياة الغرب، وللعقل الشرقي الذي ترعبه فكرة انتشار الفضيحة أكثر مما يرعبه الفعل المباشر المؤدي إليها. وعلى أساس ذلك يتخذ وينفذ قراره برد فعل مباشر وعنيف. تسويق الفعل، وليس الفعل ذاته هو ما يخيف العقل الشرقي، فيقطعه بجريمة القتل غسلاً للعار. أي أن هدف هذه الجريمة إسكات الأصوات ومنع الشائعة من الانتشار، وليس معالجة الفعل نفسه. هذا النوع من الجرائم، أي حوادث غسل العار وتزويج الفتيات بالإكراه، كان الأوربيون يقرءون عنه، أما اليوم فقد أصبحت هذه الجرائم حقيقة واقعة ترتكب على الأرض وأمام أعين المجتمعات الأوربية. لذلك انتشرت أخبارها وتفاصيلها عبر وسائل الإعلام مع صور وأسماء ضحاياها من الفتيات المراهقات وكذلك صور وأسماء الجناة، مما أتاح مادة مهمة لأطراف عنصرية لترويج دعايتها ضد الأجانب، لذا صار لابد لمثقفي الشرق المقيمين في السويد من الرد. إذن فهي غزوة كما أشرت، والدليل على ذلك، أن امرأة شرقية علقت بعد العرض بالقول: (أشعر أن هذه المسرحية موجهة ضدي شخصياً)، في حين وصفتها صحفية سويدية: (إنها أفضل عمل مسرحي شبابي يعرض في السويد منذ فترة طويلة)، وعلق فنان مسرحي سويدي بالقول: (إنه عمل شكسبيري قوي). أمر آخر من المهم الإشارة إليه بدقة هو فعل الجريمة. لماذا لم يصف العمل الجريمة بالقتل، وإنما وصفها بالاغتيال؟ أعتقد أن وصف الفعل يخرج بالجريمة من إطار القتل المحدود الموجه ضد الجسد، ويتعداه إلى اغتيال حلم ومستقبل وثراء واسع من الأمنيات.
الممثلون والمخرج إن قلنا غزوة، وهذا هو الرأي التوصيفي الأول الذي علّمتُ العمل به، فإن المخرج أياد حامد قد غزا المسرح بعشرة من الشباب الذي يشاركون حرفياً في أول عمل لهم. نصف الممثلين من الفتيات. هم طلبة وطالبات فرع الدراما في إعدادية (شارل هولمن) في ستوكهولم. أعمارهم تقل عن 17 عاماً، أي في سن الضحايا. ينتمي الممثلون إلى خليط من ثقافات متباينة: عربية، كردية، تركية، سويدية، فنلندية، أورغوانية وتشيلية. لكنها مجموعة كانت متجانسة في الهدف وفي التحضيرات والتدريبات الطويلة والشاقة لثلاثة شهور، هدفها الوصول بالعمل إلى ذروة النجاح. أما المخرج فهو يصرّ على أنهم ناقلون أحياء حمّلهم رسالة هدفها مزدوج، إلى السويديين وخاصة السياسيين منهم، لاتخاذ قرارات وإصدار قوانين لإنقاذ الفتيات، وإلى الأجانب أن لا يتقبلوا المديح والإطراء على جريمة غسل العار، وعدم اعتبار مرتكبي هذه الجريمة أبطالاً ذوي رجولة متميزة. سواء كان العمل غزوة أم رسالة، فإن الممثلين العشرة أنجزوا ستة عشر مشهداً مسرحياً متميزاً نصاً وإخراجاً، تناوبت بين مشهد واقعي وآخر حُلُمي في خط إخراجي بذل المخرج والممثلون في قراءتها والتدريب عليها، وأخيراً تقديمها أمام جمهور كبير زاد عدده على عدد مقاعد الصالة في مبنى الشعب في (رنكبي)، بذلوا جهوداً كبيرة. فالمشاهد الواقعية مأخوذة من واقع فاعلية الأجانب في المجتمع السويدي، وأول بيئة يتم فيها الاختلاط والحوار أي المدرسة. أما المشاهد الحُلُمية فهي مأخوذة من أعمال شكسبير الأكثر شهرة (هاملت، حلم ليلة صيف، ماكبث وروميو وجوليت). يكون المشهد الأول فيها استهلالياً واقعياً يُظهر هجرة الأجانب إلى السويد، عملية التعارف التقليدية فيما بين الطلبة أنفسهم يعطي انطباعاً عن شخصية كل ممثل، يفرّق بين الجاد والهازل، الهادئ والعنيف، ولمحة عن ثقافته، ولا تخلو عملية التعارف الأولى من بوادر صراعات حضارية، كذلك يُبرز مشهد التعارف تناقضاً في ميول كل واحد أو واحدة منهم، كيف يفكر ويرى المستقبل، فالميول تقع بين الانفتاح على الحياة واقتناص منحة الحرية والتمتع بالحياة الجديدة وبين التطلع إلى فرصة للتطور العلمي، أو الاكتفاء بميل الاستقرار، البحث عن الشريك، والانشغال بمهام البيت وإعداد الطعام كما قالت بطلة العمل. إن الانتقال من مشهد شكسبيري حالم، كُتب أواخر القرن السادس عشر، إلى مشهد واقعي حدث وكُتب في بداية الألفية الثالثة، أي الانتقال من حلم ضارب في القدم إلى واقع معاش، ثم التأقلم درامياً ونفسياً بينهما هو الإنجاز الحقيقي المبهر في العمل ذاته، أي إنجاز المفارقة، إذا ألقينا نظرة مهنية على العمل، إضافة إلى أن فكرة المشاهد غير المألوفة (لا أعني هنا الصورة المتجسدة للمشهد على المسرح، بل أعني الحلم كفكرة)، فالحلم هو دائماً صورة مرتجاة للمستقبل. أما أن يكون الحلم مجلوباً من ماض بعيد، ومن نص كلاسيكي رفيع لنقد تقاليد معاصرة فاعلة، فذلك نمط من الدراما الجريئة، ونموذج من المسرح التجريبي الذي يغامر بتغريب الفكرة في متاهة تاريخية، ومن المسرح المراهن على مواد أولية صعبة المزج هي النص والممثل، أما عوامله الفاعلة المساعدة فهي الإضاءة التي رسمها ونفذها الفنان المسرحي العراقي (ضياء حجازي)، والموسيقى التي اختارها الفنان الإيراني (أحماديوس). وبين مشهد واقعي وآخر حلمي، ثمة مشهد يحرّض مشهداً. يتصاعد الفعل الدرامي ليصل إلى ذروته في المشهد الأخير، كذلك فإن ثمة تحريضاً آخر يأتي من خارج المشهد، يستخدم المخرج الهاتف في رسائل تحريضية حاسمة تأتي من بعيد، توجه بأسلوب الأمر العسكري المباشر، تأمر الشقيق بتنفيذ جريمة القتل، في حين يبرز المشهد التحريضي مشاعر الحزن والحيرة على الشقيق، وهو إحساس داخلي بالرفض، ينجح الفنان والمخرج في إظهاره، لكن قوة التحريض تنجح وتنتصر لتدفع بالشقيق بعد تردد قصير إلى طعن شقيقته بحركة مفاجئة صادقة. هنا يلمح المخرج إلى أن عملية القتل هي اندفاع يمليه الكبار والتقاليد، وهي بؤرة العمل برمته، لم تأت إلا بعد موجة شديدة من التعنيف والوعيد بالاحتقار. ثم أن عبارات التحريض لا تتوجه مباشرة إلى علاقة الحب التي ربطت الفتاة المهاجرة بشاب غريب، وإنما جاء التحريض على شكل أسئلة مريرة من قبيل، ماذا سيكون وضعنا أمام الناس؟ كيف نواجههم وما الذي سيقولونه عنا؟ أما الأخ الشاب فلم يلعب سوى دور الناقل للإدانة والترهيب إلى الفتاة. المشهد التحريضي هو من أصعب مشاهد المسرحية وأقساها ضغطاً وزعيقاً، وهو مشهد واضح ومنظم تماماً بهدف الوصول إلى فعل الانتقام في تصعيد مستقيم وزمن قصير. هذا ما نجحت المسرحية في إيصاله.
تمرد الإخراج الديكور هو أول عنصر ملموس في المسرح يملأ البصر، وتُكمل الموسيقى صنع الصور للحواس، خصوصاً في الأعمال المسرحية التي شاهدناها في بغداد خلال فترة السبعينات، مثل مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) ومسرحية (الحصار) وكذلك (الدبخانة) و(البستوكة) وغيرها. المخرج أياد حامد هو أحد تلاميذ ذلك الجيل المبدع الذي صنع وقدم تلك الدراما الحافلة بالحياة، الحاضرة في أذهاننا من فترة كان المسرح العراقي في أنصع درجات تألقه. أما في هذا العمل فيسجل المخرج أول تمرد على عنصر الديكور بإلغائه. لماذا؟ يجيب د. أياد حامد بالقول: إنه الميل إلى وجهة نظر (بيرغمان) القائلة: ليكون هناك مسرح، نحتاج إلى ثلاثة عناصر فقط، وهي النص، الممثل والجمهور. النص كان للدراماتورغ السويدية (سيسيليا بيرشون) مكتوب بلغة سويدية عالية التقنية. لكن النص لم يكن وحده الأساس في العمل، فهناك جسد الفنان وملامحه التي تم تسخيرها بتطويع ودربة لخدمة العمل. ثمة حركة للجسد استخدمها المخرج –نأخذ نموذجاً- في مشهد اكتشاف الشقيق باسم أن جميع زملائه يعرفون بحقيقة علاقة شقيقته سميرة بزميلها أندش. أثناء تحقيق الشقيق مع زميله واستجوابه يقف الباقون خلف باسم وبمواجهة الزميل يلوحون له بالصمت، وما أن يلتفت الشقيق إليهم حتى تتحول الحركة إلى رياضة توحي بأمر آخر. هذا التغيير المفاجئ في الحركة ووظيفتها تفرض على العمل مسحة من الكوميديا القصيرة استجاب لها الجمهور. الجمهور الذي خرج بعد العرض بين مبارك ومتحمس للعمل وبين محتج ومتذمر من فكرته، أو محايد متفهم للفكرة، لم يكن جمهوراً عادياً. فهو إضافة إلى الآباء والأمهات، خليط من مهاجرين عرب وغيرهم، بينهم مسرحيون وتشكيليون وأدباء وصحفيون، ومن سويديين، فنانين ومثقفين وتربويين وإداريين في دائرة الهجرة ودوائر البلديات. الجميع استلم الرسالة برضا أو تذمر.
الإضاءة والموسيقى لعبت الإضاءة دوراً مهماً في هذا العمل في تغطية المشهد ومتابعة حركة الممثلين وحواراتهم، وتجسيد جو المشهد واقعياً كان أم حُلُمياً، هادئاً أم صاخباً أم متوتراً، ثنائياً أم جماعياً، أو هو مشهد الممثل الواحد. وغالباً ما يحتوي المشهد الواحد على منظرين منفصلين يخدمان فكرة واحدة، مثل المشهد الذي احتلت فيه الفتيات طرفاً من مقدمة المسرح، والفتيان الطرف الآخر. كان على الفنان ضياء حجازي أن يتابع نص الحوار، ويجعل الإضاءة تنزلق بين مجموعتي الممثلين برشاقة، أو يجعل خطوات الضوء تتحرك مع خطوات ممثل ما يتحرك باتجاه البطل ليقول كلمة يتبعها بدائرة ضوء أخرى من نقطة أخرى على المسرح لحركة ممثل آخر، خصوصاً أن المخرج لم يترك رقعة من المسرح في عمقه وجوانبه إلا وأضاءه أو ملأه بحركة مسرحية، ولتقديم صورة مركزة. إن الممثلين هم الفتيان الخمسة ومثلهم من الفتيات الذين يصعب تأطير نشاطهم وحماسهم وفتوتهم في مشاهد مركزة وتصعب ملاحقتهم ببقع الضوء في مسرح معتم تماماً، لابد أن تكون للإضاءة استجابة بقدر نشاطهم، أي لابد للإضاءة أن تمثل بدورها. أما الموسيقى، فقد اختار الفنان (أحماديوس) إضافة إلى الموسيقى التصويرية المعبرة عن كل مشهد على حدة، اختار موسيقى سريعة في مشهد الديسكو، وموسيقى راقصة لأغنية عربية حديثة في مشهد الحفل الذي ينتهي بجريمة القتل.
أي أثر سيتركه العمل؟ قبل ذلك من المهم الإشارة إلى تعامل المخرج مع الديكور بأسلوب الإلغاء، فلدى المخرج هدف عملي إضافة إلى هدفه الفني الذي أشار إليه عبر ميله لرأي بيرغمان في التركيز على مثلث الممثل، الجمهور، النص. الهدف العملي هو سهولة حركة الفرقة في تنقلها في المدن السويدية، حيث تم العرض في ثلاث بلديات، وهناك سبع بلديات أخرى تناقش دعوة الفرقة لتقديم العرض على مسارحها. أما الأثر الذي تحاول المسرحية تركه لدى المتلقي فهو سلسلة من الأهداف: - تكريس حقيقة أن جرائم القتل لغسل العار هي جرائم نادرة. - إنها ظاهرة أقدم من الديانات. - خلق إشكالية أخلاقية تهيئ لإشكاليات سياسية. - دعوة لالتقاء الثقافات وتمازجها، أي زيجات ثقافية. - وهدف بعيد هو خلق قرابة بين المجتمعات. هذه القرابة ستمنع الحروب مستقبلاً.
|