الأعزل . . . ح 1

المقاله تحت باب  رواية
في 
11/01/2007 06:00 AM
GMT



كان أول من عبر النهر في ذلك الصباح هو يوسف . لقد عبرنا النهر إلى الغابة. غابة كثيفة. غابة دغل وصفصاف وحلفاء وأحراش. كنت أرى الغابة عبر النهر. كنت أراها كسر من أسرار كثيرة تدور ولا أفهمها.لكن هذا الصباح لامست قدماي أرض الغابة .يا للفرح.
 
وقفت مبهورا وخائفا. كنت أخاف أن أضيع. لكن وجود يوسف معي يكفي لكي لا أضيع. كان حارسا لهذه الغابة. كان وحده يدير هذه القطعان السود وهي تلمع تحت الشمس مبللة وهي تعبر النهر نحو الغابة في ذلك اليوم المشمس من أول ايام الصيف. تلك هي عادتنا في بداية كل ربيع: الذهاب إلى البراري المعشبة كي ترعى القطعان إلى ان يبدأ المطر وتظهر غيوم الشتاء فنعود إلى البلدة.
 
كان يوسف قد وضعني أمامه على ظهر جاموسة يحبها كثيرا اسمها وردة هادئة لا تشبه بقية القطعان لا في قرونها العالية الجميلة المهيبة ولا في مشيتها البطيئة. كانت بالنسبة ليوسف أكثر من حيوان. أول خطوة على أرض الغابة جعلتني اشعر بشيء غريب لا يشبه أي شيء آخر أعرفه من قبل. الخوف نفسه توارى قليلا خاصة والدنيا نهار، وحل محله شعور بالزهو والدهشة كما لو أنني أمشي لأول مرة على أرض.
 
هذه هي الغابة التي طالما حلمت بها وسمعت حكايات عجيبة عنها.  هذه هي الأشجار العملاقة التي يقولون انها تتكلم في الليل وتفعل أفعالا لايفهمها كل البشر. هذا لايحدث إلا في الليل. في أعماق الليل. نظرت إلى الضفة الأخرى من النهر حيث البلدة تقع هناك وقطيع آخر يتهيأ للعبور. كنت أسمع صيحات ونداءات تأتي عبر النهر صيحات أليفة لأن بعض القطعان تعاني من متاعب العبور خاصة الصغيرة منها. وكانوا قد إحتاطوا لكل شيء بما في ذلك غرق العجول الصغيرة.
 
رأيت عبر الشمس ورذاذ الماء والدي يعبر على ظهر جاموسة. رأيت كذلك خنجر ثجيل يبرق ناقعا بالماء والشمس. ثجيل هذا أكثر ما يخيفني فيه عينه الحمراء وفمه المائل المعوج  نحو اليسار والذي يغطيه دائما باليشماغ. ثجيل يعبر لوحده مع قطيعه. هكذا هو دائما وحده في كل مكان نذهب إليه أو نعود منه. قليل الكلام ولا يشبه أحدا. لا يشبه إلا نفسه.
 
بعد ذلك توالى عبور القطعان حتى إكتمل العبور وصرنا جميعا على أرض الغابة التي يقولون ان أحدا من قبل لم يدخلها أو دخلها ولم يخرج. الغابة إسمها ربيضة. هذا الإسم أعرفه من زمان. رأيت مدهوشا ان الرجال إنتظموا في صف واحد وصلوا بخشوع خلف يوسف أكبر القوم سنا وخبرة. لم يطلبوا مني أن أصلي فصمت. بعد الصلاة سمعتهم يرددون كلمات وأدعية لا أفهم منها شيئاً لكنها كانت عن المطر والعشب والأمان. كانوا قد إعتذروا لها، للغابة، لأنهم داسوها بأقدامهم لكنهم ذكروا لها ان ذلك من أجل الخير. حين هبت ريح خفيفة عبر النهر وإهتزت رؤوس الأشجار برقت عيون الرجال ببريق حاد وعلى وجوههم علت بسمة فرح وإمتنان: باركتهم الغابة.
 
اقترح يوسف أن نقدم ذبيحة وهو تقليد شائع منذ قديم الزمان بالنسبة لسكان ضفاف نهر دجلة الذي إختلطت فيه عبر العصور الدماء والطين والجثث والشعر والحب والحكايات. نهر مقدس يسقي هذه المناطق بالماء والويلات والأفراح والفواجع. وافق الجميع. وقع الإختيار على عجل صغير فذبحوه وهم يهللون ويكبرون ويرتلون كلمات ووجوههم مكسوة بطين النهر ومسحة من الخوف الممزوج بإيمان مبهم لكائنات غير مرئية لدرجة انني تصورت ان اشياءً كثيرة ستقع هذه الليلة أو بعدها.
 
تلك كانت أول ذبيحة على أرض ربيضة العذراء كما يقولون بفرح وهم ينفضون الطين الذي جف من ثيابهم المرفوعة حتى الركب المتسخة والكثيرة الخدوش. لم تكن هناك ركبة واحدة بلا خدش ولا يد أيضا ومن العيب أن تكون.
 
بعد الصلاة والذبيحة أقاموا موقدا كبيرا ووضعوا اللحم  فيه بعد أن جلبوا أول الأغصان من الغابة. تلك كانت اول أغصان تحترق هذا الصباح. هذا اول لحم يشوى وأول كائن يذبح وأول مخلوق يصلي. يقولون ان الأشجار هنا تصلي. ربما مخلوقات أخرى سنتعرف عليها من بعد.
 
لم تعبر معنا ولا إمرأة  عدا فاطمة زوجة ثجيل. بقية النساء، ومعهن أمي، وقفن عند حافة النهر ملوحات بأيديهن وعدن إلى المنازل في اطراف البلدة. فاطمة لم تكن كبيرة ولا صغيرة. كانت إمراة. هي الوحيدة التي تقترب من ثجيل وتتحدث معه إضافة ليوسف. فاطمة شجاعة ولا تخاف كبقية النساء من ثجيل. أنا أخاف منه. ربما بسبب عينه وفمه المعوج وخنجره الذي لا ينزعه حتى في النوم، تقول فاطمة. ينام وخنجره في حزامه.
 
شعرت ان هذا الصباح جميل ويختلف عن كل الصباحات السابقة. شعرت أيضا بالزهو لأنني الطفل الوحيد الذي عبر النهر ورأى الغابة.كم هي كبيرة هذه الغابة ومدهشة.
 
بدأ الرجال يأكلون وفاطمة توزع عليهم الطعام. لكنهم وقبل تناول الطعام مدوا أنظارهم نحو هامات الأشجار وربما نحو السماء الزرقاء البعيدة صامتين ، متمتمين أدعية بصوت خافت متهدج. حين بدأ يوسف الأكل واصل الجميع تناول الطعام إلا فاطمة التي ركعت في مكان بعيد تصلي وهي تنشج.قال يوسف بخشوع: إنها تنشد بركة الأرض ودعوتها مستجابة لأنها إمرأة. انها، اضاف يوسف، تصلي للأرض.
 
بهذه الصورة مرت لحظات هذا الصباح جديدة، وحارة، وباهرة على هذه الغابة العذراء. بعد الطعام نهضوا جميعا للعمل. كان أول شيء بدأوا به هو إقامة مساكن لهم بين الأشجار. توزعوا بحثا عن الأخشاب وعيدان الحلفاء والدغل الكثيف الذي سيكون سقوفا يمزجونها بالطين كما تعودت أن أراهم في أماكن أخرى. كل واحد منهم إختار بقعة تناسبه وتناسب قطيعه لكنهم ظلوا متجاورين إلا ثجيل فقد إنفرد لوحده كالعادة في مكان منعزل في أطراف الغابة وكان ذلك غير مستغرب من أحد. في كل مكان نذهب إليه يفعل ذلك.
 
نظر يوسف نحو السماء عبر يديه المعروقتين: كانت صحوا مشرقا والهواء ناعم وعذب وفي الأفق شمس مشرقة. راح يقطع الأخشاب بفأسه بقوة تترك رنينا حادا في أطراف الغابة ولم يكن ذلك هو الرنين الوحيد الذي أخذ يتردد. إرتفع صوت القطعان من أماكن متفرقة. هذه الأصوات الضاجة كانت تجعل المعدان يشعرون بفرح خفي لأنهم تعودوا عليها في الأماكن الكثيرة التي ارتحلوا إليها في حياتهم الشاقة كما سمعتهم يقولون ورايت بعضها بنفسي.
 
كانت دقات فأس ثجيل تأتي بعيدة، ناحلة، من طرفها الأقصى. هناك سيقيم بيته المنعزل الذي سيكون لغزا. خفت أول الأمر من المشي وحدي في الغابة. بدت الأشياء كلها غريبة ومثيرة ولا أستطيع تفسيرها لكنني تجرأت وخطوت خطوات قصيرة هنا أو هناك ووجدت نفسي بعيدا عن الأصوات. وجدت نفسي لوحدي. يا إلهي. هذه هي الغابة. هذه هي الحكايات والألغاز. هنا الأسرار. وأنا وحدي تحت كثافة الأشجار العملاقة التي تحجب السماء وتعزلني عن العالم وعن يوسف خاصة.
 
فكرت بالعودة. لكني فقدت الدرب. الدروب غير واضحة هنا. بل لاتوجد، وخطواتي هي أول الخطوات في هذا المكان. آثار أقدامي بدت كأثر قديم لإنسان أو حيوان.إذن تهت في الغابة. رحت أردد مع نفسي وقلبي يضرب بعنف وخوف. تهت في الغابة .
***
 
بعد أعوام طويلة وقفت أمام غابة نرويجية في خريف متوهج ومشع بخضرة شاحبة لأعيش نفس الأحاسيس القديمة بدقة محيرة. غابة في بلدة أورستا orsta.
***
إهتديت إلى ضربات فأس. كان ثجيل عاري الجسد كأنه عجل ناقع بالماء والعرق والتراب. حين  رآني اشاح وجهه وإستغرق في قطع الأخشاب. ثجيل لا يكلم أحدا لكنه حشرج بصوته الشبيه بصوت ذبيحة هذا الصباح بأن أسلك هذا الدرب. أشار بأصبعه. تلك اول إشارة اصبع تشير إلى الدرب وتلك كانت آخر مرة يشير رجل حقيقي بإصبعه نحو الدرب الصحيح حتى بعد أن كبرت وتقاطعت الدروب.
 
جاء وقت الغداء وتحلق الرجال حول الموقد الذي لم ينطفيء بعد. شرعت فاطمة تخدم الرجال إلا زوجها المنزوي مع فمه وحوله وخنجره في دغل بعيد أو تحت ظل شجرة. كانت تعمل صامتة والرجال يتكلمون في كل شيء. كانوا متعبين.أبي كان معهم.
 
كنت ألوذ بيوسف وتحت معطفه ورغم مرور عشرات السنين فإنني أستطيع إستعادة رائحة ذلك المعطف الذي كان اخر معطف بشري شعرت تحته بالأمان والدفء قبل أن أهاجر إلى التيه والمدن الاسيوية الشاحبة ومدن والثلج والضباب. قبل أن أضيع انا الآخر وفي غابة أخرى لكنها لن تكون كغابة ربيضة.
 
***
 
 في صيف نرويجي نادر كنت في رحلة طويلة عبر الجبال والخلجان حتى وصلت حافة المحيط الأطلنطي في مكان يقال له  ستات وبلدة إسمها مولوي ، ورأيت للمرة الاولى هدير المحيط وسمعته بعيني وجلدي وتأثرت أكثر لوجود مقبرة قديمة شواهدها الحجرية تواجه المحيط الراعد وخلف المقبرة كنيسة تثقب ذلك النهار الصيفي النادر بقبتها الرشيقة كروح طالعة من الحجر. إستغرقني جدا تواجد هذه الكائنات الثلاثة في مكان واحد: المحيط والمقبرة والكنيسة. شعرت لأول مرة لا برغبة في الكلام ولا بعجز عنه بل وبلا جدواه أمام هذه الأبديات المتجاورة في سلام الأرض والبحر والموت. ولم أنبس بحرف واحد. هل كانت ذكرى الغابة تسرح في خاطري تلك اللحظة؟
 
***
 
شرب الرجال الشاي ودخنوا السكائر بعد أن لفوها بأيديهم وتمددوا على العشب . بعض تلك السكائر إسمها غازي ولوكس . تلك كانت أول مرة يتمدد رجال على أرض الغابة. يوسف وحده تمتم بشيء قبل أن يتمدد: كان يستأذن الأرض. يوسف هو قريبي. أكبر من جد.
 
اما الجاموس فقد إنطلق في المراعي العذراء المعشبة. شعر الرجال براحة داخلية وهم يرون قطعانهم تسرح وتمرح في هذه الأدغال العامرة الريانة. بين وقت وآخر يرتفع رغاء من هنا أو صرير إصطكاك قرون من هناك. تلك علامة إستقرار يعرفها الرعاة ويحبونها.تلك فورة حياة زاخرة بالطبيعة والعنفوان والوضوح.
 
كنت اسمع ان أحاديث الرجال المنطرحين على العشب تدور هامسة عن الليل. بدت لي كلمة ليل تشبه كلمة ضباع أو ذئاب وهي كثيرة في الغابة كما سمعت من قبل. لأول مرة تأخذ الكلمات معنى آخر غير الذي عرفته في حياتي السابقة قبل الدخول إلى ربيضة. صار الليل ليلا آخر، وصار الضبع ضبعا حقيقيا قد تواجهه في أية لحظة وخلف أية شجرة. الموت نفسه لم يعد إحتمالا بل صار واقعة. واقعة مليئة بالخيال والتحفز ومشاعر الخطر التي تجعل طفلا ينمو بسرعة في لحظات ويكبر على الأصوات السرية النابعة من الأرض ومن الظلام ومن المجهول.
 
سمعت يوسف يقول وهو منطرح كما لو انه يحدث نفسه: (عليكم بالنيران في الليل). لمع في خيالي ضبع في الظلام. سطع  فجأة سطوع البرق عبر الأشجار. كنت اسمع ان الضباع تخاف من النار أو الضوء. لكن من يؤكد ذلك  الآن؟ ضبع أو ذئب . لكن ضوء النهار لا يزال منتشرا رغم ان لون الغيوم آخذ في التبدل نحو اللون الأحمر الداكن. لون الغروب الصيفي على ضفاف النهر. إنه غسق آخر يختلف عن اي غسق آخر. غسق الأنهار العميقة الجذور. الأنهار التي تجري في دماء الناس هنا قبل أن تجري في التاريخ أو على الأرض. إنه غروب نهري فريد ينذر بولادة الحياة كما لو ان النجوم تشرق هذا المساء لأول مرة على البشر.
***
 
في بودابست كان نهر الدانوب أشبه بلقية مدهشة. تمشيت طويلا على إمتداد النهر الشهير ورايت الغسق ينبجس من خلف بنايات بودابست العريقة ولكنني لم أر غسقا مماثلا لذلك الغسق الساحر. غسق الطفولة المقصية . كنت ذاهلا ومتلاشيا وسط الأنوار والمياه المنسابة بهدوء عبر الدانوب. حين وصلت إلى جزيرة ماركيت وسط الدانوب شهقت دهشة: كانت ربيضة قد حضرت أمامي برائحتها، وعصافيرها، ونجومها ، وأعشابها.
    
***
 
غادر الرجال للعمل قبل هبوط الظلام. أنا تبعت يوسف. كنت أعرف ان والدي يخاف من الضبع لكنه لا يقول ذلك ويتظاهر بانه لايخاف. لم أكن مهتما. كان يوسف قد أكمل تقريبا بناء كوخ أو صريفة نوم. كان قد فرش الأرض بالعشب ثم بسط فوقها حصيرة وفوقها فراش نوم مهتريء لكنه نظيف مع وسادة طرزت عليها أزهار وردية. سد الثقوب في جدران القش كي لا يمر الهواء وعلق الفانوس في زاوية ووضع صندوقه الخاص في الركن وكنس الأرض. شمل المكان بنظر فاحصة وسمعته يهمس لي أو لنفسه: كل شيء تمام. لنذهب الآن ونجهز المرابط.
 
 العادة انهم يربطون الجواميس في الليل  بأوتاد يدقونها في الأرض كي لا تذهب بعيدا أو تتناطح. هكذا يفعلون في اي مكان.كان يوسف قد أكمل دق سبعة أوتاد في أرض صلبة وتأكد منها عدة مرات. كان يبتسم لي بين وقت وآخر. لم تكن بعيدة عن صريفته رغم كثافة الأشجار والليل الآخذ في الإقتراب. ليل كثيف لم أشهده من قبل.حين رفع رأسه نحو السماء رأيت حبات عرق ناعمة تسيل فوق جبهته وتنحدر نحو شفتيه ولحيته وتسقط أرضا. ركز بصره في الأفق نحو شيء بعيد، بعيد جدا، لم أتبينه وصمت طويلا: لا أدري هل كان يتمتم أم يفكر أم يصلي؟
***
 
تذكرت تلك النظرة قرب المحيط  الأطلنطي يوما وشعرت كم هو غريب ان اتذكر ذلك بلا إرادة. بلا إرادة حقا؟ رحت  أنظر بعيدا بنظرة ساهمة لولا ان صوتا جرني: ماذا جرى؟ تبدو ميتا؟
***
 
جاء الليل وتخاطفت أجنحة طيور في الهواء.هذا هو أول ليل  في الغابة. هجعت الجواميس بعد الحلب ثم جمع الحليب في دباب خاصة وأرسل إلى الضفة الأخرى من النهر بوساطة مشحوف حيث تكون النساء في الإنتظار. رايت بعيني كما لو انني أرى عجبا المشحوف وهو يتهادى على سطح نهر دجلة في سكون عميق وظلمة شفافة يتوهج  فوقها قمر يشرق بسطوع مثير كأنه أول قمر يشرق على الأرض وعلى الغابة. ربما شعرت في تلك اللحظة وأنا طفل كيف تكونت الحياة وكيف إنبثق الضوء من الغمرة والماء وكيف ولد القمر. شعور بوحدة الكائنات لم أحسه بعد ذلك إلا في لحظات نادرة وخاطفة كخاطر يتوهج وينطفيء.
                  
لم أكن قد رأيت صريفة أبي الذي جاء  بعد حلول الظلام. كان قد تقبل إلتصاقي بيوسف كأمر طبيعي ومريح فليس غيره بقادر على إطفاء هواجس طفل في غابة.  كوخ أو صريفة يوسف تتسع لبضعة رجال وقد تكون الأكبر من بقية الصرائف لأنه فكر ان الرجال سيسهرون عنده كل ليلة الأمر الذي كان يحدث في كل مكان. هاهم يتدفقون تباعا من أطراف الغابة بعد إنتهاء نوبة الحلب وربط جواميسهم وتناول العشاء. في وسط الصريفة موقد وفوقه إبريق شاي يغلي وحوله تحلق الرجال .كانوا جميعا معروفين لي. كنت أعرف إضافة إلى ذلك حكاياتهم الخاصة والعائلية وجراح بعضهم بالخناجر أو الرصاص من معارك قديمة. وجوههم مشدودة وصلبة وخشنة رغم ان فيهم من لا يزال شابا. الشخص الوحيد الذي لم يأت هو ثجيل. لم يسأل أحد عن ذلك لأنه أمر مألوف.
 
تحدثوا كثيرا هذه الليلة عن كل ما صادفوه وما لم يصادفوه ولم يخفوا قلقهم من المخاطر المحتملة من دون تسمية مراعاة لي، لكنه قلق رجال اعتادوا هذا النوع من المخاطر. اعتادوه لدرجة انه صار جزءا منهم. لكن الخشية على الحيوانات من غارة الضبع أو الجائف قد تكون ضارة مالم يحتاطوا منها.عدا ذلك تحدثوا  عن  أحوال جواميسهم ومن في طريقها للولادة ومن تحتاج إلى فحل ويسمونها (الضابع) أي التي دخلت مرحلة البلوغ وصارت جاهزة للحمل. الضابع تملأ الأرض رغاءً قبل ان ينالها الفحل. بعدها تصمت إلى ما بعد الولادة بأشهر حيث تضج فيها دماء الرغبة ونداء الغريزة ثانية الأمرالذي نفعله نحن البشر بسرية وخجل.
 
كان الدفء مسيطرا وحميميا تحت معطف يوسف وجوار أبي، وعبر ثقب صغير في جدار القش تركه يوسف للحراسة رأيت صفحة من السماء. تلك كانت أول مرة أرى فيها هذا الفيض الغامر من النور السماوي المنبعث من نجوم تغطي السماء تماما.كانت سماءً من نجوم. في البلدة لم أكن قد رأيت ذلك بمثل هذه الكثافة والوضوح والبريق.
 
لم يكن اي واحد منهم يحمل ساعة إلا ان أبي خرج لحظة وعاد وهو يقول: منتصف الليل. نجمة الثريا لا تزال عالية. ساعاتهم النجوم ودليلهم القمر ويسكنون الغابة قرب النهر ولا يخافون إلا الضباع والذئاب.
***
 
هؤلاء هم رجال غابة ربيضة التي إندثرت الآن بعد أن تحولت إلى منازل رمادية مبهمة للسادة الكبار الجدد الذين غزوا كل الأمكنة، محاطة بأبراج مراقبة وسيارات مسلحة كدوريات وانوار كشافة قتلت القمر والنجوم وسطوع النهر في الليل وحتى همس الأشجار. صارت ربيضة تشبه ثكنة مثل كل الأشياء، مثل طفولتي.
***
 
ضحكوا لحكاية كان يرويها يوسف لا أتذكرها حين عوى حيوان من قلب الغابة. ذئب.قال يوسف وهو يتأمل بندقيته المعلقة على جدار الصريفة بلهجة عميقة وحذرة. اما القطعان الهاجعة فقد تلقت العواء بالهياج والتحفز للقتال. ذئب واحد ليس مهماً . الخوف من هجوم قطيع  دفعة واحدة. كانوا قد تهيأوا للرحيل إلى صرائفهم وهم يعدلون وضع البنادق وخناجرهم تلمع أمام وهج الجمر. غادروا جميعا حتى والدي. اما أنا فقد دفنت رأسي تحت معطف يوسف ونمت. على تلك الرائحة الآدمية التي لم تستطع كل الروائح أن تنسيني إياها  رغم كثرتها.
 
أيقظتني ضجة العصافير في الفجر. زقزقة مشاكسة ،ضاجة، صخابة، شقت سكون الغابة. ذلك هو أول فجر يطلع علي وسط هذه الجوقة الصاخبة من عصافير الغابة. لم يكن يوسف موجودا لكن صوته يصلني من قريب وهو يحلب ويغني أو ينوح ذلك النواح الحزين الذي إشتهر به المعدان دون سواهم والذي شربناه مع الحليب فصار دما آخر، ومثلا يضرب:حزن معدان.حزن معيدي.لايأكل ولايشرب. الذكرى تظل عالقة في روحه وهو يتحرك في محيط واضح بسيط وغير كثيف كما يحدث لأهالي المدن الذين ينسون بسرعة.
 
النهار هنا لا يشبه أي نهار رأيته من قبل. كل شيء يغتسل بالماء: الأشجار والأعشاب والطيور والتراب والهواء والأيام والأحلام.كل شيء بدا كما لو انه ولد توا حتى الزقزقة المشاكسة بدت حديثة الولادة. حتى الفجر نفسه. الشيء الوحيد الذي أعرفه من قبل هو صوت يوسف وصوت الجواميس المألوف والغريزي في الفجر قبل الحلب.
 
بدت الضفة الأخرى بعيدة ونائية وغارقة في زرقة الفجر.لا شيء في الضباب يلوح أو يظهر من البلدة الواقعة أسفل النهر خلف الأشجار والسدة الترابية القديمة تخوفا من فيضان النهر وغضبه. يقول الناس ان دجلة يغضب بين فترة وأخرى من كثرة الظلم ويخرب كل شيء في طريقه ولكني لا أصدق ذلك. لوكان ذلك صحيحا لما بقت مدينة على ضفافه. اخذت الأشياء تبدو أكثر وضوحا كلما تقدم الفجر. خفقت في الهواء أجنحة طيور مذعورة، وفر طائر من شجرة قريبة، هرعت سحلية إلى جحرها، قفز أرنب بري أبيض وتوارى بين الأدغال. بدا كل شيء  مثيرا وحيا وضاجا. ظهرت جواميس يوسف بين الأشجار. من عادته أن ينادي جواميسه : فهذه مطرة وتلك وردة إلخ. يعرفهن جيدا ويعرف صفات كل واحدة ويعاملهن بإحترام طبيعي. بعد نهاية فترة الحلب تفك الحبال فينطلق القطيع في الغابة ثم إلى النهر في الضحى حتى المساء حيث تأتي فترة الحلب الثانية.
 
تشرق شمس على الغابة كما لو كانت تشرق لأول مرة. إنعكس نورها على الأشجار والنهر والضفاف فبدا كل شيء  يطلع  من رحمه أو ثقبه أو غصنه لأول مرة ليطل على حياة مليئة بالعنفوان والخضرة والنور والسكون الحيوي. جاء يوسف بقامته الطويلة، المنحنية، لكن القوة واضحة على حركاته فلا زال جسده مرنا وحيا رغم علامات الزمن.كنت لا أستطيع أن أتخيل الغابة بلا يوسف. كل غابة لابد ان يكون فيها يوسف آخر كي تكون غابة فعلا.
 
طفل في الغابة. ماذا يفعل طفل في الغابة؟ وبين رجال جاهزين للقتال والموت في اية لحظة؟ سمعتهم  يقولون همسا ليلة أمس ان كل شيء جائز هنا وعلى الرجل أن يكون يقظا دائما أو يترك الغابة.  لكن ماذا أفعل أنا لو هاجمني ضبع مثلا؟ سمعت يوسف يقول: تعال نفطر.
 
 
سالني يوسف عن أبي فقلت له لا أعرف مكانه فضحك ولم يعلق لكن أبي ظهر من بين الأشجار بوجه منهك  ونحيل ومن المحتمل انه لم ينم طوال الليل فليس من المعقول ان ينام على عواء ذئب في غابة تتواجد فيها كل أنواع الضواري. كان يوسف قد أضرم النار في موقد مجاور للصريفة. ليس هناك ألذ من الحليب عندي سوى النار في الصباح خاصة ونسائم باردة كانت تهب من جهة النهر. نسائم منعشة توقظ الحواس والجسد من خدر النوم. نقر طائر قريب من الصريفة كما لو انه فوجيء بوجودنا نقرا صاخبا وفر. كانت النار تعكس ملامح أبي وتظهره أكبر مما هو عليه. كان يجلس على مؤخرته كقرد في حين كان يوسف راكعا يصلي. الشمس تبزع بالتدريج عبر النهر محمرة، متوهجة، مشعة كقرص كبير ينبع من خلف الأشجار.
 
بعد الإفطار المكون من بيض مسلوق وخبز وحليب وشاي أسود ثخين قال يوسف ان لديه اليوم أشياء كثيرة يجب القيام بها. ان عليه، قال، ان يقوم بطلي الصريفة بالطين لأنه شعر بالبرد الليلة الفائتة. وافق أبي بلا كلام. تركتهم يحفرون  قريبا من الصريفة لإستخراج التراب وإنطلقت على غير هدى في دروب الغابة التي بدأت تتشكل من أقدام الرجال والجواميس. لا خطر في النهار كما سمعتهم يقولون على ان لا يذهب المرء بعيدا، أن لا يوغل في الغابة ويضيع كما ضاع كثيرون. كثيرون ضاعوا. الغابة مثل النهر تبلع الناس حينما تجوع أو تغضب. هكذا كان يوسف يقول لي ويضيف: إذهب وإلعب أكثر من اي طفل. أنت لن تظل طفلا أبدا. أمامك وحل كثير. وقال مرة: لم أر طفولة ولم ألعب. كبرنا بسرعة.
 
دهشت لمشهد الطيور الكثيرة التي لم أشاهدها من قبل. هي أيضا دهشت. هذا التعارف قد يحدث لأول مرة. من يدري لعلها رأت أحدا من قبل ولكن لا يبدو عليها ذلك لأنها تفر مذعورة وأجنحتها تضرب الأغصان بإرتباك. هل يبدو شكلي مخيفا إلى هذا الحد؟ إذن لماذا تفر؟ صادفت أبي يهرول خلف عجل ضل بين الأشجار.أشجار صفصاف مهيمنة وباسقة ومعمرة. يهرول أبي بطريقة مضحكة في حين لايكون العجل كذلك. إبتسم حين رآني وسألني مهرولا هل أعجبك المكان؟ أومأت برأسي باسما.
                   
أحب والدي ولا أخشاه فهو لم يضربني أبدا في حياتي كلها ولا أتذكر يوما أنه صرخ في وجهي. عدت إلى صريفة يوسف ووجدتها مدهونة بالطين من أركانها جميعا. صارت أكثر دفأ وأمانا وتشبه غرفة من غرف بيتنا القديم.
 
إلى جوار الصريفة كانا يوسف وابي قد تركا حفرة عميقة بطول قامة رجل لإستخراج التراب وعمل خميرة الطين الذي داسوه بأرجلهم حفاة طوال النهار ثم دهنوا جدران الصريفة. هذه الأرجل المعروقة رأيتها تخوض في وحول وأشواك وحفر وزجاج وأنهار وبحيرات قصب وحلفاء. اما الدماء التي تسيل منها فلا يهتم بها أحد. لا اتذكر ان احدهم فكر في الذهاب إلى مستوصف البلدة على أثر هذه الجراح. الوحيد الذي أضطر إلى ذلك وبعد ضغط وإلحاح  هو ثجيل على أثر طعنة (فالة) قاتلة ظلت نابتة في ساقه لأيام، ومع ذلك حاول إخراجها بالنار أو السحب فلم ينجح وأخيرا إنهار فحملوه وهو يزمجر ويلعن. لا أعرف حقا من أين جاء هؤلاء الرجال، من اي المدن، من اي صحراء، ما هو أصلهم؟ أرضهم الأولى؟
 
من النادر أن يتحدث أحد عن ذلك. ظهروا في عيني كمخلوقات جاءت من العدم وستذهب إلى العدم دون أن يتذكرها أحد حية أو ميتة. وقت الضحى تنزل الجواميس كالمعتاد إلى النهر وحتى المساء. مخلوقات لا تستطيع الحياة خارج الماء. الذين لايعرفون طبائعها يشعرون برعب منظرها المخيف وقرونها الحادة. لا يعرفون ان سعر الجاموسة يحدده قرنها أيضا. هناك قرون قبيحة وأخرى جميلة وهذه المقاييس لا يعرفها أو يهتم بها غيرهم. هناك قرون جميلة رشيقة تقف كقرون أيل. هذه محبوبة خاصة إذا كانت من أم مشهورة بالحليب أو من سلالة فحل عريق النسب. هناك أيضا قرون معقوفة بطريقة مخيفة ليست جميلة ولكنها مثل كل الجواميس ـ طبعا الإستثناء  يوجد في عالم البشر أيضا ـ حنونة ومسالمة وأليفة وتفهم إسمها وبضع كلمات من جراء التكرار المرتبط بالطعام.
 
كل واحدة تعرف، مثلا، صوت صاحبها في الغناء والكلام. إعتادت سماعه يوميا خلال تقديم العلف أو الحلب أوالنزول والخروج اليومي من النهر. ليس هناك أجمل من مشهد قطعان الجواميس  وهي تنحدر نحو النهر أو تخرج منه في المساء بضجتها المألوفة، الاثيرة ، المحببة.
 
هناك ضجة مصاحبة للعملية ولكن هناك لذة يعرفها المعيدي المرتبط بحيواناته إرتباطا حميميا أقوى من إرتباط الفلاح بالأرض، لذة أو متعة مشهد القطيع المنطلق فرحا نحو النهر أو القادم منه إلى المعالف حيث يتم تقديم طعام خاص مع العشب هو مزيج من التبن وحب القطن الضروري لإنتاج الحليب لدسامته إضافة إلى الجت ـ البرسيم ـ الذي لايتوفر في كل مكان  إلا في موسم الصيف. العودة إلى المدينة من البراري أو ربيضة يتم بعد هطول أول زخات المطر على البراري أو على غابة ربيضة الغافية قرب النهر الذي لا تشهد عليه الغابة بل هو، دجلة، الشاهد الأبدي على هذه الدلتا المليئة بالخضرة والمراعي والسهول الخصبة والحكايات ومشاهد الزواج والموت والولادة والعشق والجنون. دجلة شاهد على دم كثير سال منذ قرون ولا يزال يسيل حتى اليوم وربما بعده. هذه أرض القرابين والآلهة والذبائح.
***
 
في جزيرة ماركيت سألت ماريانا التي تعرفت عليها في المسبح التركي في بودابست  عما إذا كانت دماء كثيرة قد سالت على هذه الضفة وهذا المكان فهزت رأسها ضاحكة بلامبالاة. كانت أشجار ماركيت عملاقة ومعمرة لكن هذه الجزيرة بدت منظمة تنظيما دقيقا وتحتوي على مسبح وملعب وربما مدرسة وحدائق جميلة بدت مشرقة تحت شمس شتائية دافئة. بالقرب  منها بدا الدانوب الأزرق أقل توهجا من تلك الضفاف البعيدة. حتى النوارس كانت هادئة في طيرانها. كان مشهد تلاميذ المدارس بهيجا ومليئا بالحياة. وفكرت: هل يأتي يوم تتحول فيه ربيضة إلى ماركيت أخرى وأجمل؟ هل سأستطيع يوما حتى ما بعد الموت أن أحصل ولو على قبر في تلك الأرض المباركة؟
***
 
كانت الأكواخ أو الصرائف صغيرة كلها قياسا لصريفة يوسف. لكنها دهنت جميعا بالطين ، وتم حفر مواقد جديدة وجهز بعضهم عدته لصيد الطيور والسمك. كان هناك من بدأ ينظف مزماره ـ أو المطبك ـ ومنهم من حلق لحيته وعلق ثيابه على الأغصان، وأخذت المواقد تستقبل أطعمة جديدة وقدور أكبر لأن الإقامة هنا ستمتد حتى نهاية الصيف وموعد المدرسة.
 
تقع المدرسة قريبا من النهر الذي يرى من طابقها الثاني وهي قريبة أيضا من سوق طويل ومسقوف به محلات كثيرة وقهاوي ودكاكين خياطة وحلاقة وأقمشة ومرطبات وفواكه وخضروات ودكان لصناعة المساحي. سوق القصابين .مركز الشرطة. مبنى القائمقامية الكبير والمحاط بالأشجار والحراس.
 
لم تكن الشوارع تحمل اسماءً يومذاك بل يسمى الشارع او المنطقة باسماء عاهات أو مهن الناس الذين يسكنون فيه أو قربه. هذا شارع العميان، وذاك  فرع الحائك وتلك دربونة الأرملة وهذا شارع الاسطة خزعل، هذا شارع الأعور، وتلك حارة الصيراوي صاحب الخان الشهير. جوار مبنى القائمقامية نادي المشروبات. قبالة النادي يوجد الجامع.
 
مركز الشرطة يقع في قلب البلدة وقربه مستوصف وفي نهايته مشرحة كثيرا ما استقبلت قتلى غسلا للعار أو الثأر او على الأرض من قرى مجاورة . بعيدا عن المستوصف بقليل مقبرة أطفال تسمى  قويدر. دفن فيها ثلاثة اخوة لي. البلدة كلها محاطة بالبساتين بحيث تبدو من بعيد غابة كبيرة. في أعماق الليل كنا ننام على أصوات الثعالب وحكايات المواقد والآمال الطافحة بالبراءة. اما الغابة نفسها التي عبرنا إليها صباح أمس فهي لغز محير.
 
ها هي الظهيرة تحل والشمس في قبة السماء ترسل أشعتها التي تخترق الأشجار وتنفذ إلى الصرائف. لكنها أيضا الساعة التي تأتي النساء لجلب طعام الغداء وإستلام حليب الصباح والعودة مساءً للغرض نفسه وجلب طعام العشاء وفطور الصباح التالي وبعض لأشياء الخاصة.
 
حين إنحدر المشحوف نحو ضفة النهر المقابلة كان يوسف قد شرع في التكبير للصلاة. صوته يخترق الأشجار والسواقي ونباتات الحلفاء الكثيفة ويتسلق الصفصاف المعمر المطل على النهر والحقول البعيدة الممتدة على مدى النظر.
 
يوسف شيخ قومه بلا مشيخة وسيدهم بلا تسلط . تواضع لا ينبع من  إزدراء بل من روح هائمة بين الصحارى والسهول العشبية والركض بحثا عن ينابيع الماء أو السواقي أو المراعي صيفا وشتاء ، نهارا وليلا. نموذج بشري لتلقائية الطبيعة هو الذي قضى هذه الأعوام المديدة فيها كروح هائمة بين الظلام والنور وبين الشفق والغسق والشمس والقمر والمخاطر. حياة منذورة للمواجهة كل لحظة. التكرار فيها هو تكرار الخطر أو الإحتمال. عنف وحشي يولد رغبة حارة تكاد أن تكون شهوة عارمة للحياة. لاسأم. السأم يولد من الضجر والفراغ والعطل والذبول. الضجر الوحيد هنا في ربيضة هو الخوف من تجدد الخطر وبروزه فجأة من خلف شجرة أو من الظلام. إنه ضجر شراسة الحياة لا سكونها. هذا هو الفرق الواسع بين ربيضة وماركريت. بين دجلة والدانوب. بين فاطمة وماريانا.
 
هذا الشيخ الضخم الجثة، قامة الصفصافة، المعروق، الملتحي، إبن الستين عاما، لا أحد يعرف إلا القليل عن حياته الخاصة وأحزانه. عكس سلوك المعدان الذين لا يوجد في حياتهم المشتركة والمكشوفة والعلنية حتى في جوانبها الجسدية ما نسميه بالحياة الخاصة إلا في حالات إستثنائية نادرة.كل شيء مكشوف، وعلني. يوسف لغز الغابة. رغم كل هذا الوضوح تكمن في القيعان أسرار عميقة، ومثيرة،  وجروح.                                                           
 
 ينادونه أبو يعقوب ولم يكن يعقوب موجودا وربما لن يكون، وكان قد عثر في غسق مسائي قديم على صبية مجهولة الاصل ظهرت من البرية اسمها صٌفيّة وعاشت معهم في البيت مع أمه وزوجته عليّة.
 
تلك واحدة من أحزان يوسف السرية لأنه في أعماقه يشعر بقرب الإطلالة على مغيب العمر ولا يريد لإسمه أن يندثر  ويتلاشى من هذه الحياة  بأمل أن يعيش مرة أخرى في دماء أخرى. ان السلالة قيمة نفسية وعاطفية وروحية كبيرة.
***
 
 بعد ان إندثرت ربيضة وتحولت إلى أرض قفر إلا من الأشواك والنباتات البرية القصيرة، وقبل أن يسكنها السادة الجدد، وبعض زهور متناثرة تنفح عطرها في الريح والليل والزمن حيث  لا أحد إلا حطام الأشجار العملاقة وهي ترفع أغصانها اليابسة إلى السماء كأصابع غاضبة، صارت مرتعا للعزاب بعد حلول الظلام. العادة أن يسافر شخص ما إلى بغداد التي تبعد 60 كم عن البلدة، وبعد إصطياد بنت ليل يتم الإتفاق على أن تأتي معهم.
 
حدث هذا معي مرتين خلال فترة حرب الخليج الأولى وإشتداد أيام القرف واليأس وسيطرة مشاعر العدم والعبث الذي صار المتجول الوحيد في حياتنا، أن سافرنا صديقي وأنا بسيارته إلى بغداد لجلب واحدة. تعرفنا على فتاة سمراء ريانة. الطريق  العام إلى البلدة يتواصل اما نحن فنندفع  قبل الجسر في طريق فرعي يؤدي إلى بقايا غابة ربيضة المندثرة الآن. طريق مبلط بطول 9 كم شعرت به كسكين في خاصرة في الليل المعتم والكئيب قبل ان يستولي السادة الجدد على المكان ويصير مصيفا ساحرا ومنتجعا للهو. أوصلنا صديقي إلى أقصى ركن في ربيضة  وقال انه سيأتي بعد الثالثة ليلا  ليأخذنا إلى مكان آخر بعد هدوء حركة الناس في البلدة. أضاف مازحا: لاتقلق. لن أتركك وحدك. ومضى. كنت مشتاقا حتى الموت لكي أشرب وغادرني حماسي للفتاة بعد أن صارت حقيقة واضحة ومحصورة معي في هذا المكان المنعزل والمهجور، والذي تجهل هذه الفتاة بالتأكيد ماذا يعنيه عندي. شربت عرقا حارا  من فم الزجاجة في جو يشع لهبا ورطوبة وبخارا. ليل صيفي من ليالي آب المحرقة.
 
مع العرق صار الجو لهبا. مع أول الدبيب، أول الزحف تحت الجلد ، أول التنمل، أول لطمة على العقل، ظهرت الغابة في هذا القفر الذي يشرق فوقه قمر شاحب. قمر عراقي لا صلة له بزمن ربيضة. قمر الخرائب والنواطير والحروب وغلق الأبواب. ليس قمر الثعالب،  والسهر في الشوارع في الأعياد حتى الفجر، بل قمر القتلى، والمشنوقين، والفارين، والمداهمات. كنت أنظر إلى الغابة المندثرة تنهض في هذا الليل كغابة مسحورة في قاع الماء.كانت الفتاة تحاول القيام بكل شيء لإسترضائي. خلعت كل شيء ورقصت على حافة النهر حافية لكن روحا قديمة قد تلبستني وصارت أكبر مني، روح عشرات الناس الذين إختفوا الآن بلا ذكر،بلا قبر،بلا ذكرى.عاشوا وماتوا. كأنهم ماولدوا. وجدتني أجوس في الأماكن القديمة التي أستطيع تمييزها ولو كنت أعمى رغم الأعشاب والدغل الناعم وبقايا الجذوع المقطوعة  والحفر المملوءة بالأشواك. وكما يطل الإنسان على داره بعد سفر، أو كما يقف الإنسان في لحظة تجلي عند قبره، وقفت حالا وبدون بحث طويل أمام بقايا صريفة يوسف. بقايا موقد الفجر. الحفرة التي إستخرجا منها التراب، هو وأبي. كل  الحفر كانت مليئة بالعشب والشوك وضوء قمري ينفذ في أعماقها ويعريها من الموت والإندثار والنسيان والزمن.
 
كنت ذاهلا ونائيا. كنت مقتولا  لولا أني سمعت صوت أنة خوفا أو حاجة أو قلقا وحين إلتفت رأيتها تبول جالسة في حفرة موقد الفجر.حين جاءت وقفت قبالتي. قالت بجدية وثقة: أنت تبكي؟ دهشت حقا لأنه لم يكن هناك أي دمع. حينئذ شعرت نحوها برغبة إنبثقت من جملتها الأخيرة التي لوحدها إستطاعت إقناعي أن هناك أعماقا صافية فيها لم تلوث بعد . كان القمر مشعا على بقايا الصريفة وعلى الحفرة وفي قلبي المنسحق.
***
 
قلت لماريانا: لاتوجد حفر كثيرة في ماركيت؟ أجابت دهشة: لا أعرف عن اي شيء تسأل؟ لم أجب. لم أجب أبدا.
***
 
كانت الشمس، عبرالأغصان، تنعكس على سطح الصريفة، فتنتشر في الجو رائحة تراب رطب وعشب مبلل وروائح عطرة لأزهار برية وزنابق، فيضج المكان بكل ماهو حي ومندفع في تيار الحياة بعنف فطري مثير. عاد المشحوف حاملا الطعام وبعض الثياب والحبال والحاجيات الأخرى المختلفة. لكن أكثرها إثارة للإهتمام هو الراديو. نعم راديو كبير الحجم يعمل على بطارية كبيرة خارجه.  أول راديو في هذا المكان. مرايا أيضا. مرايا كبيرة ، وبخور.تطلع يوسف إلى السماء ورأيت بوضوح عينيه المرهقتين ووجهه المتغضن وقامته المشدودة .سمعته يقول: نأكل؟ وافق أبي حالا وكنت جائعا جوعا واخزا.
 
الغداء هذه المرة سمك مشوي بالتنور مع مرق ورز وخبز.كان الخبز لا يزال حارا لأنه لف بقماش سميك. جلسنا قريبا من الموقد نأكل بصمت لا يقطعه أحيانا غير رغاء الجواميس أو صيحات طائر مشاكس فوجيء لرؤيتنا، أو اصوات الرجال عبر الغابة. لم يعد الصمت كما كان يوم أمس. الغابة نفسها تبدلت فيها إمور كثيرة. في كل يوم جديد، أوشيء يشق أو يحفر،الدروب أخذت تظهر بوضوح.
 
بيننا وبين الضفة الأخرى عالم آخر مختلف ، ومتناقض. أكاد أقول هنا عالم آخر لاصلة له بعالم ماوراء النهر. زرت صريفة أبي فوجدتها جحرا مغطى بالأحراش والأغصان والأعشاب. لابد انه فكر بطريقة يتجنب فيها خطر مصادفة قاتلة مع ذئب فابتكر هذا المخبأ. لكن الرائحة الآدمية التي يشمها الذئب ، كما يقولون، من مسافة بعيدة ستكون مشكلة أخرى ولا أظن ان ابي لديه فكرة عنها من حسن حظه وربما يكون هذا مصدر شعوره بالأمان الزائف.
 
بعد الظهر والطعام والدوار والتعب هجع الرجال في  قيلولة يسمونها "كسرة". يسود السكون إلا من صيحة مباغتة لطائر مستفز أو مدهوش تخدش وجه السكون العميق. عدا ذلك نسيم بارد يأتي من جهة النهر. أحيانا يكون الهواء محملا بروائح أعشاب أو خشب أو وربما رائحة زيت أو رائحة عفنة لطحالب نهرية في الصيف.
 
المساء يزحف ونجمة ذهبية تلوح في الأفق الشرقي المحمر ضاحكة في القبة السماوية المتوهجة. إنها نجمة المساء التي يحبها الرعاة في البراري. تلك النجمة البعيدة الضاحكة والساحرة لم أر مثلها ابدا في اي مكان آخر شرقا وغربا لأن ذلك الصفاء العميق ، السكون الضاج، تلك الحياة الضاجة، البراءة البدائية للطبيعة والناس ، لم تعد قائمة الان وربما إلى أمد طويل.
 
غروب لكنه فوق الغابة شروق آخر. شروق كائنات سرية هنا في الأرض أو في السماء. صرير جنادب وضفادع. نجوم كثيرة، متراصة، متلامعة، تومض في البعيد. تخرج الجواميس من النهر لامعة تحت ضوء القمر. يرتفع الرغاء ويقترب وقت الحلب. ترتفع نداءات الرجال بين بعضهم أو بينهم وبين جواميسهم. تضج الغابة بصياح العصافير المرعوبة وتتحرك مخلوقات بين الأعشاب خلسة أو بفزع. بعد نهاية نوبة الحلب يتحرك الزورق/ المشحوف ( يتناوبون عليه) إلى الضفة الأخرى حاملا كالمعتاد دباب الحليب وبعض الأواني والطلبات ثم يعود بالعشاء وأشياء أخرى.
 
هكذا تبدأ ليلة جديدة في غابة ربيضة تحت نجمة المساء وقمر يسطع في السماء كأنه ولد توا من خلف الأشجار. قمر مبلل بالضوء. نجمة ضاحكة. تذكرت جحر أبي فضحكت. إرتفع باكرا صياح الثعالب. لست أدري هل هي تعوي على القمر أم على تلك الأسراب المتلألئة في أعماق السماء من النجوم البعيدة ؟
 
ثعالب وقمر ونجوم ونهر وطفل وغابة ورجال : تلك هي كائنات هذه الليلة التي لا إسم لها ولا تاريخ. مثل كل ليلة في صحراء أو برية أو غابة. مثل أعمار هؤلاء الرجال ، مثل موتهم.
 
عاد الزورق من الضفة الأخرى يدفعه طاهر الأشقر الشبيه بثور أشقر. طاهر جثة ضخمة يستطيع بها أن يطرح ثورا.ذراعان تصلان الأرض كذراعي غوريلا لكن بوجه صغير وطفولي لوحته شموس المراعي ورياح السموم في براري كثيرة . منذ طفولته وحتى اليوم وهو يكدح كبقية الاطفال  الذين يولدون غالبا في الحقول أو حافات الأنهار أو على أكداس التبن. نولد في البراري كالأزهار أو الفطر وننطلق نحو هذا العالم الغريب كي تسحقنا المدن.
 
زورق طاهر الأشقر أو طاهر الانكليزي كما يسميه راجي ساخرا يشق مياه دجلة الساكنة على قمر ريان يشرق بسطوع باهر فوق النهر فيظهر جسده العاري  ماردا نهريا خرج من النهر أو إنشقت المياه ليخرج جسدا عملاقا يقطر ماء وعشبا.
***
 
انطلق قارب كريستينا الأبيض يشق مياه الخليج الهادئة في صباح نرويجي مشمس ومفتوح على كل الإحتمالات. نهار طليق متوثب كصدر كريستينا المندفع فوق مقود القيادة في هذا الخليج الذي تكلله جبال لا يزال بعضها مكسوا ببقايا ثلوج الشتاء الماضي.كريستينا عارية تماما يقطر الماء من جسدها أو يقطر جسدها من الماء، ويشرق حقل حنطتها المثمر الضاج بسكونه المثير والمعتم. كانت ترقص وتقود ورائحة جسدها الذي اختلط بالشراب اليوناني الذي جلبته من رودس في زيارتها الأخيرة يعبق ويوقظ حواسي ويفجرها. هذه الملعونة تعرف كيف تخلق من هذا الحطام أو المحارب الهارب عيدا ونهارا ضاجا بالحياة والشهوة. تختلط روائح لايمكن تحديد مصدرها من روائح أعشاب الخليج إلى روائح الأزهار المائية إلى الشراب. لكن الرائحة الأكثر إثارة للدم هي رائحة جسد كريستينا الذي يبرق تحت الشمس كبروق صخور الخليج  تحت الماء وتحت العشب وفوق الجبل.
 
رائحة هي أكبر من رائحة إمراة شبه عارية. رائحة كل الرغبات المحبوسة من أزمنة متفسخة. رائحة تجتذب إليها في هذا النهار المشع كل الكائنات وتربطها في آصرة واحدة . رائحة عطرية لجسد طليق متحرر. هذه الرائحة لا يمكن أن تنبع من جسد مقموع أو خائف. هذا التوازن الراسخ أمام المقود والقارب المنطلق هو توازن روح طليقة وحرة. كانت واقفة خلف المقود كغزال بري هائج، وشعرها يلامس وجهي فأشعر بالعطر المسكر، المثير، المخدر، المهيج. سألتها: إلى اين نمضي؟، ضحكت وهي تقول بلا مبالاة: (طز حياة). ضحكت أنا. من بين جميع الكلمات التي حاولت كريستينا أن تتعلمها مني تمسكت بشكل عجيب بجملة: طز حيا . تلفظها بعربية دقيقة وحارة. إلتفتت نحوي بعينيها المثيرتين لتقول: ـ لو كنت سألت نفسك هذا السؤال من قبل لما وجدت نفسك تلهث  خلفي كجرو.
 
كانت تنطلق بأقصى سرعتها في إتجاه جزيرة منعزلة تغمرها أشجار السرو والصنوبر وتبدو من بعيد صخورها تلمع تحت ضوء النهار . يبدو دائما مشهد الجزر البعيدة الغارقة في النور والسكون مثيرا فتخلق  أحاسيس أقرب ما تكون إلى الأحاسيس الدينية. هدوء داخلي يكاد أن يكون صلاة غامضة أو ذكرى. أعرف نزواتها الغريبة ومزاجها المتقلب السريع العطب كزجاج هش. خطر لي انها إختارت هذا المكان لأن فكرة جهنمية تدور في رأسها وتفوح من جسدها الأشقر، وحقول حنطتها تنعكس فوقها ظلال الجبال في الممرات وأشعة الشمس وعتمة الحافات الصخرية المطلة على الخليج في بعض الأماكن.
 
قمم صخرية مهيمنة على الخليج كشاهد على أبدية الزمن. لكن كريستينا لاحت لي في تلك اللحظات قمة صخرية أكثر وعورة وعنفا. كانت أكبر من إمرأة وأقل من جبل. كائن قادر في عريه البسيط والصعب على أن يخلق كل لحظة شيئاً، ولذة، بلا تهيب وبتلقائية مذهلة.
 
كنا نقترب من الجزيرة الأشبه بغابة صغيرة. خففت من سرعة المحرك واستدارت نحوي بنظرة أنثى أو حيوان صغير مستثار. عرفت حينئذ انها جاءت هنا لتنفذ واحدة من رغباتها الغريبة وسأكون شريكا في مخطط شهواتها الذي لاينتهي ومزاجها المتقلب.
***
 
 أذرع الغوريلا تسحب الزورق إلى اليابسة كما لو انه يسحب حبلا صغيرا بكتفه المتهدلة، تحلق حوله الرجال لإستلام حاجياتهم ووصاياهم من زوجاتهم عبر النهر. ها هو القمر يشرق ثانية على هذا المكان الذي أخذت تدب فيه حياة جديدة لم يألفها من قبل. عدا صياح الثعالب وضجة الجنادب والضفادع فإن كل شيء يبدو هادئا في هذه اللحظة الشفافة من المساء. عبر النهر لاح شعاع مصابيح البلدة صاعدا نحو السماء. لكن النجوم هنا ظهرت بغزارة متراصة، متلاصفة، والقمر بينها يتهادى في إنزلاق لين في إطلالة بهية على الأرض.
***
 
حين قضت الفتاة حاجتها في حفرة الموقد  القديم ملأ ضوء القمر الحفرة بنور كثيف. ربما هو نفس النور في تلك الليالي الغاربة قرب كوخ يوسف الذي لم يعد موجودا إلا كحفرة وإمرأة  ملتقطة تضع حدا لتاريخ تلاشى عطره. سألتني فجأة: ما الذي يجعلك تركز على هذه الحفرة؟ لم أقل شيئاً ابدا. لكنها قالت: أنت تبكي؟
 
مدهش انها عرفت ذلك رغم انني لم أكن كذلك في الظاهر. كنت سارحا ومنسحقا ونائيا. كنت بمعنى أدق: كئيبا كآبة أسد هرم في قفص. حزينا، ومقتولا، ومرميا، فوق العشب.
***
 
تقاطر الرجال بعد الإنتهاء من أعمالهم المعتادة إلى صريفة يوسف من بينهم أبي. سألني ان كنت مرتاحا فأجبته برأسي. سألني عما إذا كنت أرغب في العودة فنفيت برأسي أيضا.نار الموقد كالعادة، الشاي، أحوال الجواميس، الذئاب، البرد في الليل، اطلاء الصرائف، أخبار الأهل، البلدة. قال طاهر الاشقر وهو يلثغ دائما :ـ نجمة على وشك الولادة.
نجمة هي جاموسته الأثيرة.قال يوسف:ـ الأفضل أن لا تذهب مع القطيع إلى النهر.
قال والدي:ـ وعندي واحدة ضابع تحتاج إلى فحل.
 
كان صوت الرغاء يشق أحيانا سكون الغابة. انه صوتها، صوت دمها وغريزتها وشهوتها وهي لن تكف إلا عند قدوم الفحل.قال طاهر: ـ سأطلق عليها الفحل .
رد والدي وهو يقلب الجمر:ـ الصباح رباح.
 
إرتفع، فجأة، عويل إمرأة من أطراف الغابة كما لو انه نبع من الأشجار. عويل طويل، وناحب، ومكسور.ركز يوسف سمعه ناحية الصوت. هز رأسه بأسف:ـ هذه فاطمة. وهذا ثجيل. وأطرق رأسه محدقا في النار:ـ هذا يحدث في كل مكان نذهب إليه. هكذا هو ثجيل دائما، وفاطمة صابرة.
 
نفخ طاهر الهواء من صدره وهو يلثغ: ـ هذا لايجوز. أجاب يوسف بتسليم:ـ زوج وزوجته.
 
تلاشى العويل وإرتفع العواء من جهات الغابة كلها. ومعه دوي جواميس مجفلة أو مستثارة. إندفع الرجال سريعا وخناجرهم تبرق تحت ضوء القمر وعيونهم جمر مشتعل من الحذر والغضب. قال يوسف محذرا:ـ هذا قطيع ذئاب..لنسرع.
 
رغم سطوع القمر وكثافة النجوم والسماء الصاحية إلا ان الغابة معتمة من الداخل لأن الأشجار تهيمن على المكان بقوة. تفرض الغابة وجودها الليلي وأسرارها ومخاطرها. تسيطر بظلامها وضواريها وشياطينها المختبئة في كل مكان. لكن هؤلاء الرجال هم أيضا طبيعة تتفجر بكل أشكال العنف والإستجابة للمخاطر والرد السريع. طبيعة تواجه نفسها في صراع البقاء. المخالب والخناجر.الأنياب والبنادق. التربص والحذر. إنتشرت الفوانيس طاردة العتمة والأشباح. هدأ ضجيج الجواميس المستفزة. لكن صرخة حادة ندت من طاهر:ـ لا.
 
كان القطيع قد هاجم عجلا صغيرا منفردا وكاد أن يفترسه لولا إندفاعة مستميتة من جاموسة قريبة منه كانت كافية لأن تفتك بكل القطيع المهاجم. جرح في عنقه.زمجر طاهر: ـ هذه مرت بسلام. لكن الذئاب ستعود.
 
كنت أراقب والدي جيدا. كان الأكثر هلعا وهو يدخن في الظلام وسيجارته ترتعش. سألني وهو يحضنني بحنان:ـ هل أنت خائف؟قلت:ـ نعم.
ـ إذن إذهب إلى يوسف.
 
كان يوسف يعالج العجل الصغير الراعش، المبتل من العرق والخوف والدم. سمعت يوسف يقول: جرح بسيط. وتابع وهو يوجه كلامه للجميع: ـ المشكلة انهم ذاقوا دم الحيوان.
 
إزدادت رعشة سيجارة أبي. قال يوسف: ـ علقوا الفوانيس الليلة على الأشجار. الضوء عدوهم الوحيد.
 
قفلنا راجعين إلى الصريفة ورايت أبي يجرجر جسده إلى صريفته كما لو انه يمضي إلى مثواه الأخير. ساد سكون صلب أشد صخبا من كل ضجيج. سكون الغابات والجزر المنعزلة وهي تواجه لأول مرة أقدام البشر وآمالهم وإصرارهم على الحياة في قلب الخطر والليل والغابة والعزلة.
***
 
لو ان كريستينا ضربت نهدها بالحجر لتكسر الحجر.كانت ترقد عارية على عشب مشتعل تحت الشمس. مجنونة بالشمس والبحر والعري واللذة والجنون الطاريء ،المؤقت الذي يصيب الناس هنا في فصل الصيف القصير والساحر بعد ثلوج أشهر طويلة تدفع الناس إلى البقاء في منازلهم لمواجهة عزلة قبيحة، وشرسة.
 
كنت منطرحا قريبا منها تصلها يدي، اطراف أصابعي، مشعة، ريانة، ناحلة بإمتلاء، جاهزة للحصاد كحقل حنطتها المبعثر بأناقة مثيرة فوق  فتحة المغارة التي لا قاع لها.أصابعها تطلبني. أصابعها وهي منطرحة بدأت تلامس شعر يدي. أشتعل ولا أتحرك لأنني أعرف مواعيد إنفجار براكينها وخمودها غير المتوقع. تركتها تنضج على جحيمها المستتر. تواصل موتها العذب قبل الإنفجار. حركة طائشة مني قد تفسد كل شيء. ليس صعبا عليها وهي في هذه الغيبوبة المهلكة من أن تتركني بلا سابق إنذار وتركب القارب لأواجه مصيري كأي جربوع صحراوي ملقى على جزيرة مهجورة. خلسة كنت أراقب تموجات صرتها إنذاري المبكر في هذه الملمات. كانت تموج بحركة خافتة تحت الشمس والسكون والحرارة. كانت تنضج أو تهذي. سمعتها تفح: ـ تعال.
 
 تداعت. فوق ذلك البياض الثري ، فوق تلك البراري الشقر المشتعلة، كان الرمح الآسيوي ينغرز في مغارة اللحم الشهي، الحار، اللدن، وهي تئن وتتأوه وتهذي بلا لغة. كانت تحتضر تحت الشمس. كنت فوقها أو تحتها حاضرا حضور الرماد المشتعل أو مزروعا فيها كرمح بابلي متوهج.أخيرا سمعتها تقول ضاحكة وقد عادت من الموت: طز حياة.
 
مدت لسانها نحوي وأنا هامد همود الرماد والقمم الصخرية تدور حولي كما لو انني أستيقظ لأول مرة بعد دوار عاصف.كان عطرها، قد إنغرز في حتى الاعماق.
***
                        
قُتل الملك.
أحدهم أطلق هذه العبارة وأنا بين النوم واليقظة. أي  شيء يعني؟ وكيف عرف؟ ومتى؟ ولماذا يقتل الملك؟ غادرت الصريفة إلى الجمع المحتشد قرب موقد يوسف  والسنة النار تتصاعد مع الدخان الأبيض الذي  يتصاعد إلى ما فوق هامات أشجار القوغ  والصفصاف والصنوبر. كان ثمة هواء بارد يهب من ناحية النهر، ممتزجا برائحة روث الحيوانات وعرق الرجال وثيابهم.كانوا يتحلقون حول الراديو الزاعق بما لا أعرف من كلام وأناشيد وموسيقى صاخبة. موسيقى عسكرية مشؤومة كأي شيء يأتي من الحكومة، كالأخبار،كأنباء المظاهرات، والفارين.
 
يوسف اكتشف وحده  هذا الخبر العجيب لأنه لا يقتل في كل يوم ملك، كما قال طاهر الانكليزي ،عدا موت الملك غازي الذي ظل لغزا، يقول يوسف. من يدري ما هو الصحيح وماهو الخطأ خاصة من راديو لا نعرف الناس الذين يتحدثون منه. لكن الأحاديث هنا تقول أشياء أخرى. تتحدث عن مقتل الأسرة الحاكمة والبحث عن رئيس الوزراء الهارب.
 
ضحك طاهر الاشقر بكل فمه على فكرة أن يكون رئيس وزراء جبار، هارب من فراشه بين ليلة وأخرى ولا يدري حتى الشيطان أين يختبيء. الدخان الأبيض يهبط ويتلاشى ويومض جمر متوهج يتناسب وإبريق الشاي، ومع هبوط الدخان راح الجمع الذاهل يبحث عن جواب لكل هذا الذي يجري. يوسف بحكمته وعمره الطويل كان قد رأى وسمع وشاهد الكثير من هذا الذي يجري في أوقات سابقة. لا يبدو شديد الإهتمام لهذا الصخب والحيرة والإضطراب. ملك قتل مع اسرته في العاصمة. لن يكون لهذا الحدث أي أثر على مخلوقات ربيضة. الملك حين كان حيا كان ميتا هنا. لا احد هنا أو في أماكن أخرى من براري شاسعة يعني موت الملك شيئاً بالنسبة لهم. موته كحياته. لكن الراديو يزعق بأخبار كثيرة وغير مفهومة.
***
الزعيم.
هذا الإسم بدأ يتكرر كثيرا. زعيم جديد، يقولون، عاش في بلدتنا . لكن هذا لم يتضح بعد. ذكروا إسم الزعيم الجديد وقالوا ان إسمه عبد الكريم قاسم. صرخ طاهر كالملدوغ: أعرفه وقد عبر النهر معي يوما وكاد أن يغرق فساعدته. تهامس الجمع، ضاحكين . كيف يمكن أن يكون الزعيم الذي قتل الملك صديقا لطاهر؟ وانقذه من غرق؟ ان زعيما بهذا المستوى لن يحترمه أحد هنا، فيما لو صحت حكاية الإنقاذ اللعينة هذه. يقسم طوال الليل والنهار بكل مقدساته ومقدسات غيره بأن ماقاله كان صحيحا. لكن أحدا لم يصدقه أو حتى يخطر بباله أن يصدقه. لو كان الأمر كذلك فانه سيكون شخصا مهما في الحكومة . لكن هذا ليس مهما الآن، يقول طاهر بثقة، إنتظروا وسترون ذلك.
 
حين جاء طعام الغداء كان الجمع مشغولا بصداقة طاهر للزعيم الذي لا أحد رأى وجهه وربما حتى هو نفسه قبل الآن. لكن أخبارا عجيبة ومختلطة وصلت مع الزورق تقول ان الزعيم هو فعلا من هذه البلدة ، بل ان أمي أرسلت خبرا تقول انها تعرف أمه.حينئذ فقط ركز يوسف بصره في السماء كعادته في مثل هذه الأحوال وقال كأنه ذاهل أو يحدث نفسه: وعنده أخ إسمه حامد وأعرفه جيدا.
 
 شع وجه طاهر بسرور خفي وهو يرنو الىالجمع بنظرة عتاب وظفر لكنه لن يقنع أحدا بحكاية إنقاذ الزعيم. إذا كان هناك من يعرف أمه وشقيقه فلماذا لا يكون هو قد عرفه يوما وأنقذه؟ انه قادر على إنقاذ حلبة ثيران من الغرق فلماذا يكون ذلك صعبا مع الزعيم؟
 
لكن المحير هو: كيف يستطيع طاهر الألثغ، الأطرش قليلا، الأعشى، ان ينقذ زعيم يقول انه أنقذ البلاد؟ تفرقوا بعد لحظات إلى قضية أهم: جلب الفحل لجاموستنا التي ترغي ليل نهار من صراخ الدم. دمها يوجعها، قال يوسف.
 
يوسف رابط قرب الراديو وهو يزعق بما لا نعرف من أسماء وكلمات وموسيقى . أطل ثجيل. شم في الهواء رائحة ضجة الغابة المكتومة فجاء يخطو في مشية صقر هرم، منزعج بطبيعته، عابس،ليجلس بعد السلام بصمته المعهود. صمت رجل اما انه قال ما عنده او انه لا يعرف ماذا يقول. ليس ذلك مهما هنا بالنسبة لأحد.تنحنح. .قال يوسف:ـ لعلك سمعت؟
ـ بماذا؟
ـ مقتل الملك وعائلته.
قلب ثجيل يده بلامبالاة ، وأردف بنفس اللهجة الجافة:
ـ إلى جهنم .
ـ لكنه شاب.
فرد ثجيل بغل مكبوت:ـ ماذا أفادنا غيره؟
 
فتح كيس دخانه وشرع يلف سيكارته ورأسه في الأرض كالعادة ليخفي فمه المعوج وجحوظ عينه ووجهه العابس.فوقه تماما وقف طائر زاهي الالوان وأطلق صيحة طويلة حادة جعلت ثجيل يضرب الأرض براحة كفه غاضبا. قال:ـ والذئاب؟
ـ جرحت عجل طاهر.
لأول مرة أسمعه يضحك: ـ طاهر نفسه عجل .
ضحك يوسف وضحكت لكن ثجيل إلتفت إلي فجأة:ـ ماذا تفعل انت هنا؟
قال يوسف ليغير الحديث:ـ كيف هي حال فاطمة؟
 
ركز ثجيل عينه المحمرة في وجه يوسف وقرأ المغزى البعيد من السؤال. أجاب:ـ تريد العودة.
ـ إتركها تعود.
ـ وأنا؟
ـ مثل حالنا.
ـ ليس الأمر كذلك.
أومأ يوسف برأسه قائلا: ـ هذا صحيح .
وفتح الراديو الزاعق.قال يوسف: ـ الزعيم الجديد من بلدتنا.
بلا أدنى إهتمام سأل ثجيل:ـ من؟
أجاب يوسف:ـ إسمه عبد الكريم قاسم. هل تعرف هذا الإسم؟ ضيق ثجيل عينه المحمرة قائلا: ـ إين كان يسكن؟
أشار يوسف عبر النهر:ـ قرب السوق وأمام مدرسة الأولاد.
ـ لا أتذكر . ما أهمية هذا؟
ـ لا أدري. يقول طاهر انه أنقذ الزعيم من الغرق يوما.
رد ثجيل: هذا الثور أنقذ ثيرانا من الغرق فلماذا لا يكون ذلك  صحيحا مع رجل؟
 
ضحك ضحكة جعلت جسده يهتز وصدره يسعل  وهو يحدق في الأرض. تكرر إسم الزعيم مرات ومرات هذا النهار وطاهر يدور في الغابة ويروي قصة إنقاذه الزعيم على الجماعة ، الحائرة، من كل هذا الذي يدور، وهذه المعلومات المختلطة التي داهمت خلوتهم وعزلتهم في هذه الغابة: ملك يقتل. زعيم يأتي. الزعيم صديق طاهر. هذا أنقذ الزعيم من الغرق. الزعيم أنقذ البلاد. المنقذ الآن ينام في صريفة. لو لاه لما قتل الملك وصارت جمهورية.
 
إذا كان حلم الزعيم قد تحقق فإن حلم طاهر قد بدأ الآن. ظل يحلم طويلا بأن يقوم الزعيم بزيارة لرد الجميل لإنقاذه من الغرق. إنتظر طويلا سواء على ضفة النهر أو في داخل الغابة أو في البلدة في أن يتحقق هذا الحلم العصي.
***
 
يوم مقتل الزعيم، بعد سنوات، كان منظر طاهر وهو يخوض بين الجموع كمنظر ثور نصف مذبوح فهو لا يتكلم أن تكلم بل يشخر دما ونارا ولهبا. حاول أن لا يصدق الخبر كغيره لكنهم حين سحلوا نصب الزعيم المرمري القادم من إيطاليا من ساحة البلدة المقابلة لمركز الشرطة تأكد له يقينا أن المصيبة قد وقعت فعلا. لم ييأس في تحقيق جزء من حلمه القديم. ظل يتربص بهم إلى أن تركوا النصب فوق مزبلة خارج البلدة فتسلل بعد منتصف الليل وقطع جزءا منه خلسة وحمله إلى المنزل. بهذه الطريقة رد الزعيم الجميل وحقق حلمه المضني. اما الجثة فقد ألقيت في النهر الذي طالما تمنى لو ان الزعيم عبره يوما شاكرا له ذلك الجميل الذي صار سرا لا يمكن لأحد أن يثبته أو ينفيه.
***
 
المساء نفسه. نجمة المساء. نوبة الحلب الأخيرة. رحلة الزورق. المؤن. الأخبار.ربط الجواميس.الشروع ليلا في بناء معالف. تعليق الفوانيس في الأشجار. هذا الإجراء الأخير جعل الجنادب تصاب بالخرس قبل أن تواصل مع الضفادع نقيقها. الأحداث اليوم تركت لغطا لكنها ستضيع في عالم المعدان.عالم المفاجأة والمداهمة والطوارئ. المعيدي رجل مسلح بيقظته ولا يموت إلا بفقدانها. الصلاة. ركوع يوسف. عواء الثعالب. القمر. ظلال مقتل الملك. الزعيم. حكاية الغرق المثيرة. أضواء البلدة خلف النهر عبر الأشجار.
 
يوسف في صلاته يركز بصره  نحو نقطة لا مرئية في سماء نائية. التمتمة الخافتة والخاشعة. المناجاة الحالمة. الدعاء والرجاء.حين يفيق يوسف من صلاته يبدو شخصا آخر. حل في كائن آخر. أكثر قوة، يفور بالصحة وطراوة الوجه والإشراق رغم تجاعيد السنوات الصخرية.
 
يوسف بلا ولد. تلك واحدة من أكبر مآسيه .عنده بنت إسمها مريم. يحبها كثيرا لكنها ماتت. حلت صفية التائهة قادمة من البراري محلها. يحلم بولد يحمل دمه وروحه وهمه. هو الان مشرف على الستين قضاها في الصحاري المحرقة على ريح السموم أو في الحقول المائية والمستنقعات.
 
عليّة زوجته عقرب بشري صار إمرأة. تطرد القريب والبعيد، الصديق والغريب، السائل والمحروم. مشكلتها انها تغار غيرة قاتلة :ـ طلقها أبو يعقوب فهذه عقرب لا تليق بك.
مرة قال ثجيل بعد أن نفدت شحنة صبره.
ـ و مريم؟ رد يوسف.
ـ لاتخف عليها. البنت ريح. الولد وتد. غدا تتزوج وتتركك. والعمر ينحدر.
 
لكن أحداثا سريعة تدفع المشكلة إلى الظلال البعيدة. ما أكثر الأحداث والمفاجآت في عالم الغابة. الفوانيس في هذه الليلة ترسم على الأشجار مشاهد شبحية عابرة. مرور طائر. أرنب ينط. ميلان جذع. لكن الرائحة الآتية من جهة النهر لاتخلق إلا الخدر والنعاس والإسترخاء. روائح أعشاب طافية أو طحالب أو تراب مبلل أو نسيم عليل يمر عبر أشجار رطبة.لقد إعتدنا مشهد الفوانيس وهي معلقة في ظلام الليالي في شوارع البلدة حيث يأتي كل مساء أبو الفوانيس ليشعلها حتى الفجر قبل مجيء زمن المصابيح.
***