في عمان، حيث تنتشر السيارات الفارهة التي تحمل لوحات ارقام عراقية، تسمع تعليقات من اهل البلد، مثل «الشارع الأردني صار يتكلم عراقي» و«عدد العراقيين سيفوق عدد الأردنيين». واذا كان التعليق الاول يصيب زبد الحقيقة حيث ان بعض العاملين في المطاعم والفنادق الأردنية الراقية تعلموا الحديث باللهجة العراقية كنوع من المجاملة، فان الثاني أبعد ما يكون عن الواقع، اذ لم يتجاوز عدد العراقيين المقيمين رسميا وغير المقيمين ما بين 650 الفا الى 700 الف رغم ان هناك من يؤكد ان عددهم قد يبلغ مليونا. ويؤكد مسؤول أمني أردني انه لا توجد إحصائية رسمية للعدد الحقيقي للعراقيين ويجب العودة الى سجلات وزارة الداخلية للتأكد من ذلك.
وقبل الحديث عن تفاصيل حياة العراقيين في الأردن علينا ان نعرف من هم هؤلاء العراقيون وما هي انتماءاتهم وسبب وجودهم هنا.
ثمة مقاه ومطاعم في المناطق الراقية من عمان تزدحم أمامها سيارات فارهة وحديثة تحمل لوحات أرقام عراقية سوداء مكتوب عليها «العراق ـ فحص مؤقت». هذه السيارات تم تسجيلها في ملفات دوائر المرور العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين، والعراقيون سواء في الداخل او الخارج يسمونها سيارات «الحواسم». و«الحواسم» مفردة تسخر من التسمية التي اطلقها صدام حسين على المعركة الاخيرة ضد القوات الاميركية، لكن هذه المعركة التي كان يجب ان تحدث بين القوات العراقية والاميركية لم تحدث اصلا، وحمل لقب «الحواسم» اللصوص الذين هاجموا مؤسسات الدولة والمتاحف والبنوك العراقية وسرقوها وسرقوا سياراتها وصادروا ممتلكاتها.
وليس من الصعب التعرف على «الحواسم» بل حتى الأردنيون يتعرفون عليهم بسهولة، فهم من حديثي النعمة الذين يقودون سيارات فارهة ويبذخون الأموال بدم بارد. وغالبية من هؤلاء (الحواسم) اطلقوا على انفسهم لقب «شيخ»، وهنا من السهولة ان يتحول اي عراقي الى شيخ من غير مساءلة او محاسبة، ويجمع أي من «الحواسم» الذي يرتدي الدشداشة العربية والعباءة والكوفية والعقال حوله بعض الاشخاص الذين يرافقونه في المطاعم والنوادي الليلية وينعمون بالطعام والشراب الذي يبذخ على الموائد وكذلك ببعض المنح النقدية مقابل ان ينادوا صاحب هذه المنح بلقب «شيخ». وهكذا نجد ان عدد شيوخ العشائر العراقية في عمان صار يفوق العدد الحقيقي للعشائر العراقية نفسها.
وشجع على تكريس ظاهرة «المشيخة» بعض السياسيين العراقيين الطامحين في مناصب او مقاعد في البرلمان العراقي المقبل، والذين بذخوا هنا في الأردن، وما زال البعض منهم، الأموال على هؤلاء الشيوخ المزيفين طمعا في ضمان اصوات عشائرهم المفترضة. وبذخ احد السياسيين العراقيين عشرات الألوف من الدولارات على شيوخ آخر زمن مستقبلا اياهم في اجنحة فندقية راقية.
هؤلاء يمضون جل اوقاتهم في بعض المطاعم او المقاهي او النوادي الليلية حيث يجلسون محاطين بمرافقيهم وحراسهم الشخصيين، وحيث تصدح في هذه الاماكن اصوات ما يسمون انفسهم بالمطربين العراقيين الشباب، واغانيهم هي اقرب للصراخ والعويل منها الى فن الغناء، يرافقهم عازف اورغ (كي بورد). هؤلاء يغنون، أو بالأحرى يصرخون، ممجدين الرئيس العراقي المخلوع، مثل «هلا يا صقر البيدا» و«صدام حسين يلوك النه (يليق بنا)»، وفي مواويلهم يصفون «العوجة» مسقط رأس صدام، والفلوجة والرمادي باعتبارها قلاع المقاومة والوطنية. وما ان يبدأ هؤلاء المطربون بالغناء ذاكرين صدام حسين حتى تنهال عليهم المئات من الدنانير الأردنية من قبل شيوخ «الحواسم».
العوائل العراقية الراقية، وحتى العراقيون الذين لا يريدون تدنيس انفسهم بلقب «الحواسم» يبتعدون عن هذه المطاعم والمقاهي لسوء الممارسات التي تصدر من قبل هؤلاء. وغالبا ما تنتهي لياليهم بمعركة بسبب فتاة أو محاولة «شيخ» مزيف تظاهر بأنه أغنى وأهم من آخر مثيل له. وتطورت الامور الى ان يحجز كل «شيخ» مقهاه او مطعمه الذي يمضي فيه لياليه حتى الفجر مع مرافقيه من كلا الجنسين. ويكون عادة لهذا الشيخ او ذاك مطربوه وراقصاته المفضلون الذين لا يغنون لبقية الشيوخ مقابل ما يبذخه «شيوخ الحواسم» من دنانير اردنية.
احد هؤلاء المطربين الشباب يقيم في شقة راقية في عمان الغربية ويقود سيارة فارهة، هي هدية من أحد شيوخ «الحواسم»، قال «ما ذنبي انا، هم يدفعون المئات من الدنانير الأردنية مقابل اغنية او موال عن صدام حسين، فلماذا لا افعلها واغتني قبل فوات الأوان؟».
تقول لي زميلة صحافية اردنية «نحن نحب العراقيين، فمنهم المثقفون والاساتذة والفنانون وأبناء عوائل راقية نقلوا الينا تقاليد ثقافية راقية، ونعرفهم جيدا وهم أصدقاء لنا يدخلون بيوتنا ونتفاعل مع مشاكلهم كما انهم يشعرون بمشاكلنا لكننا فوجئنا بنوع جديد من العراقيين الذين فوجئنا بممارساتهم البعيدة عن الأخلاق والذوق التي اشتهر به أبناء العراق.. كيف وصل هؤلاء الى السطح وحصلوا على كل هذه الاموال التي يعتقدون انهم يستطيعون شراء كل شيء بواسطتها؟».
«الحواسم» رفعوا أسعار كل شيء في الأردن، وخاصة في عمان، وأهمها العقارات التي ارتفعت اسعارها الى اكثر من 45%، فهم لا يساومون سماسرة العقارات او أصحابها، فإذا كان صاحب العقار الذي يقدر سعره العادي بـ50 الف دينار اردني، فإنهم يدفعون له ضعف هذا المبلغ نقدا (اذ يحمل هؤلاء نقودهم بالجوال وهذه طريقة ما عرفها الأردنيون) من اجل الحصول على شقة او بيت. ومع ارتفاع أسعار العقارات ارتفعت اسعار الخدمات. وتقول الصحافية الأردنية «نحن كشعب او كموظفين أثرت فينا ممارسات العراقيين الجدد، إذ إني لا افكر حاليا في شراء شقة ببلدي بعد ارتفاع الاسعار، بل ان مالك الشقة التي نقيم فيها طالبنا بزيادة الايجار لان هناك من العراقيين من يدفع ثلاثة اضعاف ما ادفعه انا، وهذا يضر بي كمواطنة ويدفعني لأن اقف ضد وجود ما تسمونه انتم بالحواسم».
وتضيف زميلتنا ذاكرة حادثة بسيطة حدثت لها، قائلة «تصور أن بواب العمارة تعوَّد على غسل سيارتي بين يوم وآخر مقابل أجر زهيد أَمْنَحُهُ له شهريا، لكن منذ ان اشترى عراقي ثلاث شقق في عمارتنا؛ شقة له واثنتان لشقيقه وشقيقته، صار (البواب) يرفض غسل سيارتي او القيام بخدمات التسوق او غيرها لنا. وعندما سألته عن سبب هذا التمرد أخبرني بصراحة بأن العراقي يدفع له يوميا عشرة دنانير او أكثر مقابل ما يقدمه له من خدمات، بينما ادفع له انا دينارا واحدا او نصف دينار يوميا. وعندما راجعت نفسي اعتذرت للبواب الذي يحصل على ما مجموعه 400 دينار شهريا، وهذا الرقم يفوق راتبي الشهري».
العراقيون في عمان(2 من 3) ـ الأغنياء وكبار الأكاديميين العراقيين ينتقلون إلى الأردن هربا من الخطف والقتل
العوائل البغدادية تتمسك بتقاليدها وسهراتها التي يزينها صوت إلهام المدفعي
كانت الهجرات الاولى للعراقيين الى الاردن قد بدأت عام 1991 بعد توقف العمليات الحربية في «عاصفة الصحراء»، حرب تحرير الكويت والسماح للعراقيين بالسفر كشرط من شروط الامم المتحدة. وقتذاك لم تكن اي من البلدان العربية او الغربية قد فتحت ابوابها امام العراقيين سوى الاردن.
السلطات الاردنية سهلت منذ البداية عملية دخول العراقيين الى اراضيها من غير شرط الحصول على تأشيرة دخول (الفيزا)، ومنحتهم اذن بالاقامة الرسمية لثلاثة اشهر، يعتبر بعدها العراقي مقيما غير رسمي، وعليه دفع غرامة مقدارها دينار واحد، ثم ارتفعت الى الدينار ونصف الدينار الاردني عن كل يوم. وسعت السلطات الاردنية الى مساعدة العراقيين الذين يتجاوزون الحد الاعلى من فترة الاقامة، باصدار قرارات عفو عن الغرامات المتراكمة لدى بعض العراقيين لسنوات طويلة.
بعض العراقيين اتخذوا من الاردن محطة لهم للهجرة الى البلدان الاوروبية او الولايات المتحدة او كندا او استراليا، بعضهم حالفه الحظ وحصل على حق اللجوء عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للامم المتحدة، وبعضهم ما يزال ينتظر، وهناك من خانه الحظ من جهة ولم يحصل على حق اللجوء، وحالفه حظه من جهة ثانية فاستقر بالاردن.
غالبية رواد الهجرات الاولى كانوا من الطبقتين المتوسطة والفقيرة. جاءوا الى عمان للعمل في شتى مجالات الحياة، ومنها البناء والخدمات وبيع الدخان على الارصفة.
ووجد الاردنيون ان الايادي العراقية هي ايادي عمل رخيصة. فمثلا تتقاضى العراقية من حملة الشهادات الجامعية ما بين 60 الى 80 دينارا راتبا شهريا، عن عملها سكرتيرة في مكاتب الشركات الخاصة. وغالبية هذه الاعمال تتم بعيدا عن الشروط الرسمية والقوانين التي لا تسمح بعمل اي وافد من غير ان يحصل على حق الاقامة والعمل.
ويتخذ غالبية من العراقيين، الذين وفدوا الى الاردن في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، من احياء عمان الشرقية وفي المدن البعيدة، مثل السلط والكرك والزرقا محلات اقامة لهم، بينما اقام الاثرياء والمتمكنين منهم في الاحياء الراقية الواقعة في عمان الغربية.
وكان عدد كبير من المثقفين والفنانين والاطباء والمهندسين واساتذة الجامعات، قد نزحوا الى الاردن خلال سنوات عقد التسعينات، بينما بقي التجار العراقيون في بغداد لمواصلة اعمالهم والقيام بزيارات الى الاردن لعقد صفقات تجارية.
الهجرة الثانية للعراقيين الى الاردن، بدأت بعد الحرب الاخيرة، ودخول القوات الاميركية الى العراق، لازاحة نظام صدام حسين، وغالبية من نزح في عام 2003 وما يليه من سنوات، هم من الاثرياء والاطباء والاكاديميين المعروفين والعوائل الراقية و(الحواسم).
اسباب الهجرة الثانية عام 2003 كانت امنية، حيث انتشرت في العراق جرائم الاختطاف والابتزاز والاغتيالات المجانية. القادمون ضمن هذه الموجة اتخذوا من الأحياء الراقية للغاية في عمان مساكن لهم، حيث اشتروا شققا وفيلات في احياء عبدون ودير غبار والصويفية والرابية وام اذينة والجاردنز مستمتعين بالامتيازات السكنية التي توفرها هذه الاحياء.
في الهجرة الثانية اختلط الحابل بالنابل مثلما يقال، فقد جاء الى عمان الاكاديميون وكبار الاطباء والمهندسون والتجار، كما جاءها «الحواسم» واللصوص.
في هذه الهجرة وفد الى العاصمة الاردنية بعض كبار المسؤولين في نظام صدام حسين، سواء من العسكريين او كبار القيادات البعثية، وخير مثال على ذلك، اختيار رغد ورنا ابنتي الرئيس العراقي المخلوع، عمان مستقرا لهما مع ابنائهما. لكن السلطات الاردنية التي استقبلت ابنتي صدام حسين لدواع انسانية، لم تبق على اراضيها المسؤولين البعثيين والحكوميين العراقيين السابقين، كي لا تتحول عمان الى بؤرة لتجمعهم تنتج عنها مشاكل سياسية وامنية، الاردن في غنى عنها.
عراقيو الهجرة الثانية لم يحتاجوا العمل في المؤسسات الاردنية، بل اسسوا شركاتهم التجارية والصناعية، واستثمروا في قطاعات العقارات والمستشفيات الخاصة، مستفيدين من التسهيلات التي أبدتها الحكومة الاردنية للمستثمرين العرب والاجانب، ومن شعار رفعته القيادة الاردنية، يقول «الاستثمار بلا حدود» او «ليس هناك سطح للاستثمار»، بل ان القيادة الاردنية راحت بعيدا في دعم المستثمر العراقي عندما سهلت له في فترة من الفترات فرصة الحصول على الجواز الاردني ضمن شروط معينة، لتسهل له اجراءات الاقامة والسفر الى الخارج. القوانين الاردنية تتعامل مع العراقي شأنه شأن الاردني، في ما عدا ما يتعلق بشروط الاقامة والترشيح للانتخابات والانتخاب. والمراكز الامنية او دوائر الدولة لا تفرق بين اردني وعراقي في حالة مراجعتها لتقديم شكوى ما، او لتسهيل مهمة معينة، ذلك ان استقلالية القضاء الاردني تكفل لكل من يقيم فوق الاراضي الاردنية الوقوف سواسية امام المحاكم الاردنية، بل ان السلطات الاردنية تتسامح كثيرا مع العراقيين، باعتبارهم ضيوفا على المملكة، لكن القوانين لا ترحم من يتجاوز على أمن البلد او أمن المواطنين، وباعتراف مسؤول امني اردني، فان هناك عشرات من العراقيين المحتجزين لمخالفاتهم قوانين الاقامة ولتجاوزهم على الأمن الوطني، ويتم تسفير هؤلاء بالتعاون مع السفارة العراقية. اما من يقترف جرائم السرقة او القتل او اية جريمة اخرى، فتتم محاكمته امام القضاء الاردني، وربما يتم تسليمه للسلطات العراقية، حسب مذكرة تبادل المجرمين، التي وقعت مؤخرا بين وزيري الداخلية في العراق والاردن.
ونقل العراقيون تقاليدهم الثقافية الى العاصمة الاردنية عمان، فاقاموا صالات للعرض التشكيلي، مثل صالة الاورفلي في منطقة ام اذينة. وأدى تزايد أعداد العراقيين في الاردن، الى افتتاح مطاعم عراقية مختلفة لا تقدم الا المأكولات العراقية المشهورة، ومن بينها السمك المشوي على الطريقة البغدادية (المسقوف). وتختلف مستويات هذه المطاعم، وبعد ان كان هناك مطعم شعبي واحد وسط عمان الشرقية قرب الساحة الهاشمية، يقدم الاكلات العراقية الشعبية، افتتح مطعم سومر للاكلات العراقية، وهو اول مطعم يتم افتتاحه في عمان الغربية (دوار الواحة)، وتلته مطاعم أخرى، مثل الملح وزاد الخي، خان كباب، ضفاف الرافدين ومطعم القرة غولي.
العوائل العراقية لها سهراتها الخاصة في مطاعم ومقاه راقية، يغني فيها عادة المطرب العراقي الهام المدفعي، حيث يتحلقون حوله وهم يرددون معه الاغاني البغدادية، مثل «على شواطي دجله» و«جلجل علي الرمان» و«مالي شغل بالسوق»، وغيرها من الاغاني، التي يستعيد العراقيون من خلالها ذكرياتهم في نوادي الصيد ونادي العلوية وجمعية التشكيليين والجمعية البغدادية، وغيرها من الاماكن التي كانت تحتضن افراحهم وسهراتهم، فاضحت اليوم خالية يستغلها بعض السياسيين لاقامة الندوات والحفلات الانتخابية. كما تسهر العوائل العراقية في فنادق، مثل فندق لي رويال على موسيقى الجالغي البغدادي وفرقة الفنان العراقي نابليون، الذي يحيي حفلاته في قاعة الحرير في الفندق الكبير.
فنادق عمان ليست مخصصة لسهرات العراقيين فحسب، بل لاجتماعاتهم ولقاءاتهم السياسية، ففي الفترة التي سبقت تقديم القوائم الانتخابية وتشكيل الكتل السياسية، شهد فندقا حياة عمان وفور سيزن لقاءات للسياسيين الذين كانوا يجتمعون قبيل الاعلان عن تشكيلاتهم مستقبلين انصارهم في اجتماعات فئة الخمسة نجوم.
العراقيون في عمان ( 3 من 3) ـ هجرات معاكسة للعوائل العراقية من الغرب إلى الأردن بحثا عن الاطمئنان الاجتماعي
مسلمون ومستقلون يدعون أنهم مسيحيون أو بعثيون معرضون للاغتيال للحصول على اللجوء في الخارج.
في مقهى في حي الرابية الراقي في الجانب الغربي من العاصمة الاردنية عمان، التقيت بعائلة عراقية كان ابناؤها يتحدثون الانجليزية بلكنة اميركية. سألتهم ان كانوا عراقيين ام اميركيين، اجاب الاب «نحن عراقيون، لكن ابناءنا ولدوا وعاشوا في ولاية شيكاغو في الولايات المتحدة».
هذه العائلة العراقية وعوائل مشابهة اخرى، جاءت من بلدان اوروبا ومدن اميركا واستراليا وكندا، ليستقر افرادها في عمان، ممارسين الهجرة المعاكسة. بعض هذه العوائل كان ينتظر قبل سنوات في عمان لاصطياد فرصة للوصول الى اوروبا او الولايات المتحدة او استراليا. البعض الاخر من هذه العوائل العراقية، عاش عقودا طويلة في الغرب وجاء الى الاردن طلبا للاستقرار فيها. قال لي رب العائلة العراقية، ونحن نشرب القهوة، «صدقني اننا اشتقنا للعيش في العراق، بلدنا الذي تركناه منذ ما يقرب من 30 عاما، وكنا قد هيأنا انفسنا لبيع منزلنا ومحل تجاري كنت املكه في ديترويت باميركا للعودة الى العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، لكننا فوجئنا بالاوضاع الامنية الصعبة هناك، لهذا قررنا الاستقرار في عمان، بعد ان اجرنا المنزل والمحل التجاري».
وتضيف زوجته قائلة «نحتاج الى ان نعيش في بلد عربي نسترخي في اجوائه وبين اهله ونتكلم لغتنا ونعلم اولادنا اللغة العربية.. هناك كانت حياتنا عبارة عن ماكنة تعمل غالبية ساعات اليوم، وكنا نخشى على ولدينا من الضياع بسبب التقاليد الاميركية، لهذا اخترنا عمان التي تزدحم اليوم بالعراقيين، ثم انها قريبة من العراق ونستطيع استقبال اهلنا واقاربنا القادمين من بغداد هنا، ثم ان الحياة ليست غالية، رغم ما يقولونه هنا عن ارتفاع الاسعار. نحن اجرنا شقة تقع في حي راق ذات ثلاث غرف نوم وصالتين واشترينا سيارة ونعيش حياتنا بهدوء».
هذه هي الهجرة الثالثة للعراقيين، هجرة روادها قادمون من الغرب البارد، الى عمان الدافئة، باجوائها وحياتها الاجتماعية. نعم للاردنيين حياتهم الاجتماعية الخاصة، لكنها اخترقت من قبل العوائل العراقية، فامتزجت العادات والتقاليد واللهجات واندمج العراقيون بالروح الاجتماعية الاردنية.
صديقي انور الشيخلي، الذي كان يقيم في لندن منذ بداية الثمانينات، وله شركة تجارية في العاصمة الاردنية، ثم قرر فجأة العام الماضي الانتقال مع عائلته الى عمان، زرته قبل ايام في شقته بحي ام اذينة الراقي، سألته ان كان قد قرر الاستقرار في عمان ام العودة الى لندن، قالها بشكل قاطع «لن اعود للاستقرار في لندن، سازورها سنويا لكنني لن ابقى هناك طويلا، سارحل من هنا مباشرة الى بغداد، بعد ان تستقر الامور واستقر هناك الى الابد».
الشيخلي نقل اعماله التجارية الى عمان، وهو يتاجر بين دبي والاردن وبغداد، ويستفيد من فارق العملة وارتفاع بدلات الايجار في لندن، حيث اجر بيته هناك واشترى شقة في عمان.
هذه العوائل العراقية القادمة من الغرب، فاجأهم استرخاء الحياة في الاردن، فهم اليوم يتزاورون مع اصدقائهم، ولديهم الوقت الكافي لممارسة حياتهم الاجتماعية والذهاب الى المطاعم وسماع الاغاني العراقية. تقول رحاب زوجة انور الشيخلي: «هنا في عمان توجد انواع مختلفة من الاسواق والملابس المستوردة، موجودة في كل مكان وباسعار ارخص مما هي عليه في لندن. الاهم من هذا اني استطيع السيطرة على ابني وابنتي وتربيتهما وفق تقاليدنا الاجتماعية الصحيحة، ثم ان في عمان مدارس خاصة ذات مستويات علمية متقدمة، مدارس انجليزية واخرى اميركية وفرنسية، والناس هنا لا يتعاملون بروح عدائية، بل على العكس يتصرفون بروح الصداقة، وفي غضون عام تعرفت على عدد من الصديقات يفوق عدد الصديقات اللواتي تعرفت عليهن في لندن طيلة سنوات طويلة». وتضيف قائلة، «عندما اشتقت لاقاربي في العراق ارسلت في طلبهم وجاءوا الى عمان خلال ساعتين عبر رحلة جوية وجلبوا معهم التمر العراقي (الرطب) والقيمر، الذي لم اذقه منذ سنوات طويلة.. اعيش هنا وكأنني في بغداد التي اشتقت اليها».
مما يؤسف له انه لا توجد في عمان نواد اجتماعية خاصة بالجالية العراقية، بينما نجد هنا نوادي اجتماعية للجاليات السودانية والعُمانية وغيرها من الجاليات العربية والاجنبية، بالرغم من ان هناك عددا كبيرا من الاغنياء العراقيين القادرين على تشكيل مثل هذه النوادي. سألت مدير عام شركة عراقية، عن سبب عدم وجود مثل هذه النوادي فقال «لقد فكرنا بالفعل ولمرات عدة انا واصدقائي بتأسيس ناد اجتماعي، على غرار نادي العلوية في بغداد، وان نجعل بدل اشتراك له وينظم بدقة، لكننا وقفنا عند نقاط واقعية مهمة، مثل ماذا سنفعل عندما يغزونا (الحواسم) واصحاب المشاكل، اذ لا نستطيع ان نستثني اي عراقي في النظام الداخلي لمثل هذا النادي، عندها علينا ان نتحمل كما كبيرا من المشاكل اليومية التي نحن في غنى عنها». ويستطرد قائلا: لكننا نكاد ان نمارس حياتنا الاجتماعية في ما يشبه وجود النادي، اذ اننا نلتقي، كمجموعات عوائل من الاصدقاء، بصورة منتظمة، اما في بيوتنا او في مطاعم احد الفنادق الراقية او ننظم رحلات الى البحر الميت او الى العقبة».
ويرى رجل الاعمال العراقي علي شمارة انه «لا وقت لدي لمثل هذه النشاطات، فانا ادير عدة شركات في العراق، من خلال الكومبيوتر والهاتف، واتابع اعمالي التجارية ومشاريعي الصناعية، فكيف يتوفر لي الوقت لمثل هذه النشاطات». ويضيف شمارة قائلا: لكن هذا لا يعني انني وعائلتي بعيدين عن الحياة الاجتماعية العراقية، فانا التقي اصدقائي اما في المطاعم او في بيتي وهذا يكفي.
على العكس من هذه العوائل العراقية القادمة من الغرب لتستقر في عمان، هناك العوائل العراقية التي ما تزال تقف عند ابواب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة، في انتظار خبر سار يقول لهم تم توطينكم في اميركا او استراليا او كندا. بعض هذه العوائل ينتظر منذ خمس سنوات ولم يمل السؤال والاستفسار، خاصة بعد ان تم قبولهم كلاجئين من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لكن المشكلة تقع على عاتق السفارات التي لم تبت في امر قبول توطينهم في بلدانها.
يقولون ان «شر البلية ما يضحك»، وشر البلية هنا هو اسباب تقديم بعض العراقيين طلبات اللجوء والتوطين في بلدان الغرب، فبعد ان كانت غالبية الاسباب، هي اضطهادهم من قبل نظام صدام حسين، فان الاسباب تغيرت تماما، واصبحوا هاربين، لانهم بعثيون سابقون ومهددون بالقتل في ظل النظام الديمقرطي الجديد في العراق.
وبعد ان كان البعض من العراقيين يقومون في السابق باحضار وثائق مزيفة من بغداد، تثبت انهم كانوا معتقلين في سجن ابو غريب او سجن المخابرات او في سجون الامن العامة، صاروا يقدمون اليوم الى المفوضية السامية وثائق مزيفة هي الاخرى، تثبت انهم كانوا اعضاء في حزب البعث او يقدمون رسائل تهديد مزيفة ايضا صادرة من جهات مجهولة.
الصنف الاخر من العراقيين المتشبثين بالحصول على حق اللجوء في الدول الغربية، هم العوائل المسيحية، كونهم يتعرضون للاغتيالات من قبل جهات متطرفة في العراق. وحتى في هذا الموضوع قام بعض العراقيين بتزوير اوراقه الثبوتية واسماء عائلته لاثبات مسيحيته، بالرغم من انه مسلم شيعي او سني بحت، بل ان هؤلاء صاروا يحضرون القداسات في الكنائس الاردنية، وانتسب البعض منهم فعلا للديانة المسيحية للحصول على حق اللجوء في دول الغرب من جهة، والحصول على مساعدات الكنائس المادية من جهة ثانية.. ولله في خلقه شؤون.