|
|
2-الجنون والقادة : أمثلة على متلازمة الغطرسة |
|
|
|
|
تاريخ النشر
08/03/2015 06:00 AM
|
|
|
كنت قد أشرت في عدد من المقالات من العام الماضي الى جنون القادة ، جاءت أمثلتي فيها من العراق وقليلا من مصر . لكن وزير الخارجية البريطاني الاسبق الدكتور ديفيد أوين كتب كتابا كاملا بعنوان (المرض والسلطة) وأمثلته عن قادة اوربيين . بوصفه طبيبا متخصصا ، وسياسيا في مؤسسة عريقة ، احترس اوين من استخدام كلمة جنون بالمعنى المرضي . يقول إن (المجتمع الطبي ليس على استعداد لاضفاء طابع طبي"مرضي" على السلوك المتغطرس الذي يتحدث عنه العامة على انه شكل من اشكال الجنون والخبل). يشير كذلك الى أنه إذا كان المجتمع "الطبي" شديد الانضباط في استخدام اللغة، فان ذلك لا يعني أن لا تطرح هذه التساؤلات الا من قبل الفلاسفة والمحامين والاطباء. وهو يعترف أنه لم يعثر على إجابة قاطعة. أنا الآخر أوضحت أن الجنون الذي أعنيه هو بوجه عام السلوك اللاعقلاني " لا أقصد بالجنون وجود عوق عضوي، بل هو عوق مركب في وظيفة التفكير السليم" . لكني في المقابل تحدثت باختصار عن إمكانية أن يتحول هذا العوق الى ذهان نفسي "قد يتحول عوق الى ضرب من الذهان والشذوذ النفسي بسبب ثقافة منغلقة، عشائرية أو بدوية او طائفية ، تترابط مع استعدادات وراثية نائمة تنفخ تجارب سيئة في جمرها الخابي فتوقظها". ربط الفرويدون الجدد بين المرض النفسي والبيئة الثقافية ومركباتها السياسية والقانونية وطرق التنشئة الاجتماعية المعتمدة فيها. وأرى أن منطقتنا العربية الاسلامية تقدم أمثلة هائلة على مثل هذا التلازم ، فهي بيئة تتصارع فيها قيم متناقضة . إن اطروحة علي الوردي بالتناشز الاجتماعي تأخذ مبرراتها من هذه القيم المتصارعة والمتخالفة. إن تحفظات اوين في استخدام اللغة مفهومة ، بيد أنها تحتاج الى تعديل فيما يخص سلوك (العامة) عندنا وفي الوطن العربي ، فعامة الناس وإن كانت لديها فكرة عن الجنون واختلافه ودرجاته ومسمياته: "الرعيصة" ، "ابو راسين" ، "الخبال" ، "العته" ، فإنها بوجه عام تفرق ما بين الجنون والغطرسة العادية ، كما تفرق بين مستويات الجنون من خلال حكمها على الأفعال. ليس هذه هو المهم ، بل المهم أن (أبناء العامة) بلا حماية مؤسساتية ودستورية وثقافية وتعليمية تجعلهم بمنجى عن القادة المجانين او المتغطرسين ، من هنا سيكون تأثير القادة عليهم مفتوحا وميسرا جدا حتى في أقسى تطرفه ، فضلا عن أنهم مدعوون بشكل دائم ليكونوا جزءا من مختبر القسوة المجنونة ذات اللون الاحتفالي المدار من قبل مؤسسات الزعماء. يقال إن الجماهير هي التي تخبل القادة ، والصحيح أن القادة المخبولين هم من يخبل الجماهير، بمجرد أن يستدعوها في مهمات ديماغوجية ويعيدون توجيهها عاطفيا ونفسيا. إنهم هم أصحاب الدعوة ومنظمو احتفالات أعياد الميلاد والعبور ومعارك التنمية والحرب . كثيرا ما يضيع خبال القادة بخبال الجماهير الكاسح في ديماغوجية معممة تتحول الى سلطة سيئة تمشي في الشارع وتمارس نقل عدوى الحماقات والشراسة والتجسس بين الناس. يبحث الدكتور اوين في كتابه عن المرض العادي الذي تحوله السلطة الى سر من الاسرار ، أو اجتماع المرض والسلطة فيما يسميه بـ (متلازمة الغطرسة) الذي يميز القادة وهم في السلطة . إليكم أوصاف هذه المتلازمة الخاصة بالقادة باختصار : (الميل لرؤية العالم كساحة يمكنهم ممارسة السلطة والسعي نحو المجد فيه وليس مكانا يعج بالمشكلات التي تحتاج الى حل بطريقة براغماتية وبعيدة عن الانانية - الطريقة التبشيرية في الحديث عما يفعله والميل نحو تمجيد الذات - الصاق النفس بالدولة لدرجة اعتبار الامرين متطابقين "انا الدولة والدولة انا". الايمان بانه ليس محاسباً امام القوانين او الرأي العام، بل امام الله والتاريخ - الثقة المفرطة بالنفس وبالقدرة على الحكم على الاشياء وازدراء نصائح وانتقادات الآخرين - انقطاع صلته تماما بالواقع، الذي يكون مترافقا في العادة بالعزلة المتزايدة عن العالم - الاهتمام المفرط بصورته وطريقة عرض نفسه على الجمهور ...) في قائمة اوين المزيد . لكن لنتذكر أنه ، فيما عدا القادة الفاشيين والنازيين والشموليين ، ثمة قادة تحيطهم تقاليد ديمقراطية ، وبرلمان نشط يراقبهم ، وصحافة حرة تنشر غسيلهم القذر . إن واحدة من أمثلة اوين عن متلازمة الغطرسة هو الرئيس الفرنسي الاشتراكي ميتران الذي أخفى إصابته بسرطان البروستات عن الدولة وحزبه. يبدو هذا المثال إزاء ما يخفيه قادتنا حتى عن أنفسهم نوعا مترفا ، ففي أوضاع غير ديمقراطية ما أن يخطو القائد خطوتين حتى يتصور أنه مرسل من العناية الربانية ، وأنه غير مطالب بتقديم كشف في الحساب لأية سلطة رقابية في الدولة. الأمثلة العربية هائلة عن (متلازمة الغطرسة) حسب شروحات اوين. إن امراض قادتنا هي من القوة والالتصاق بحيث لا يمكن ان يشفوا منها الا بالكفن. فالأرقام القياسية في بقاء الحاكم في السلطة تجعل منه إلها ، صنما ، معبودا ، لا شريك له ، لا تناقش قراراته حتى لو قادتنا الى العدم. بعد الربيع العربي ، جرت في أربعة بلدان ، انتخابات ديمقراطية وأمكن صعود قادة جدد . فهل تغير الوضع؟ في الحقيقة بات الماضي يفيض على الحاضر، والبنى القديمة لقوى ما قبل الدولة أخذت تتحكم بالقادة ، والقادة يتبارون في إخلاصهم للقوى التي حملتهم الى السلطة. لكن ما هو أتعس أن قوى ما قبل الدولة راحت تفكك ما تستولي عليه من المؤسسات ، ما خلق حالة من التشرذم والاقتتال الداخلي ، وظهور قيادات محلية وطائفية وعشائرية تتصف بالتخلف والقسوة والفساد. في ليبيا الثورة جرى الحظر السياسي على نحو ربع السكان ، بينهم قادة أسهموا في الثورة ضد القذافي. مارس هذا الحظر فعله في تحويل ليبيا الى مدن وعشائر متقاتلة ، وبدلا من قائد مجنون ، ومعترف بجنونه، ظهر أمراء حرب يخربون كل شيء ولا أحد يردعهم. إن المثال الليبي يشير الى أن قيام قائد عصابي كالقذافي في حلّ الدولة وطيّها تحت خيمته ، أدى الى جنون شمل الجميع في طيّ مدنهم وقراهم تحت رايات أمراء الحرب. في العراق حدث ما يماثل ليبيا ، فبدلا من إنهاء الانقسام الداخلي وتعزيز الوحدة الوطنية ، صدر قانون الاجتثاث الذي جعل الكثير من الكفاءات تغادر وطنها ، كما أشعر عددا هائلا من موظفي الدولة بالتهديد الدائم ، في الوقت الذي غرق القادة الجدد بالفساد والسرقة. هذا القانون أشار الى أن القوى الجديدة تجاوزت بكثير ما يدعى بالعدالة الانتقالية ، وأنها غير معنية بعملية بناء الدولة ووحدة الشعب العراقي. ولقد ظهرت نتائج هذه السياسة جليا في بقاء الاحتراب الداخلي ووصول البلد الى الحرب الأهلية. لاحظ الصحفي المصري المعروف عبدالحليم قنديل علامات جنونية عند رئيس جمهورية مصر السابق محمد مرسي ، فالأخير وصف نفسه بعبارة' "أنا رئيس الجمـــــهورية" وكررها أكثر من عشرين مرة في حــــوار فارغ من المعنى والجدوى. "وقد لا نعلم شيئاً يقينياً عن الحالة الصحية العضوية للســـيد مرسي إلا كلامـــاً متواتراً عن عمليات جراحية في المخ، لكن الحالة الصحية النفسية للرجل تبدو ظاهرة للعيان فهو في حالة انبساط وانشكاح دائم، وكلما حلت مصيبة بالبلد زادت سعادته واتسعت ابتسامته، وقد تحتار في تفسير ضحكته فهل هي من نوع ابتسامة "الشرقاوي" الطيب البســيط؟ أم هي من نـــوع بلاهة جندي الأمن المـــركزي الذي يفـــتح فمه للعابرين؟ أم أنها نـــوع من الضحك المرضي المعروف في عالم الطب، والذي يبدو فيه المريض فاتحاً فمه كأنه يضحك مع أنه لا سبب للضحك ولا قصد فيه بل مجرد حالة عضوية مرضية..". وعلى ذكر مرسي نشير الى حصول اتفاق عفوي غريب بين السيدين المالكي ومرسي تلخص بمنح الوزارات مهلة مئة يوم من اجل تطوير انجازاتها . لقد فشل هذا الاجراء في مصر والعراق على السواء ، والاجراء نفسه عدّ مثالا على عدم فهم الحالة الراهنة ، ولا حركة السلطة ، وقدرة أدواتها على التنفيذ ، ولقدراتهما الخاصة كقادة ايضا. إنه أمر جنوني لشخص يقود بلدا معقدا في مرحلة صعبة يصنع مثل هذه الاختبارات الفاشلة والمضحكة. يشرح ديفيد اوين هذه الحالة بطريقة بارعة إذ يقول : (الاتصاف بما يشبه العجز في تنفيذ السياسات، وهو ما يمكن أن يطلق عليه «العجرفة العاجزة» أي اتجاه الامور نحو الخطأ بسبب الثقة الزائدة للقائد بنفسه تحديداً، وإحجامه عن مناقشة ايجابيات وسلبيات هذه السياسات). لعل المالكي الذي لم يعين وزراء الداخلية والدفاع تنطبق عليه هذه الصفة ، مع صفة أخرى هي عدم الثقة بأحد ولاسيما بمرشحي القوى السياسية الاخرى لهذين المنصبين ، بيد أن الوطيس الذي يخوضه هنا يذهب الى أبعد من ذلك ، فعدم الثقة تتصل ههنا بمقاييس طائفية خفية يجب أن تبقى طي الكتمان. إن طي الكتمان هذا طوى حتى هذه القضية السياسية – الادارية ولم يعد يتذكرها أحد ، الى أن باتت مشكلة تبحث عن مخرج في وزارة العبادي. من الأوصاف التي لم يذكرها وزير الخارجية البريطاني الاسبق في قائمة أوصاف (متلازمة الغطرسة) هي الكذب. في الحقيقة أشار اليها ضمنا في كتابه ولم يسمها باسمها الحقيقي ، لأن الكذب العلني سهل الكشف في الغرب ، من هنا فهو يقترن بأوضاع وممارسات وتقارير السلطة ، فقد كان بإمكان انطوني بلير أن يقول أمام البرلمان الذي وضعه في مساءلة ، إن المخابرات لم تسلمه هذا التقرير أو ذاك عن الحرب في العراق. بعض الوضعيات السياسية في الغرب تجري في سياقات معقدة ، والقادة يحترمون إذا ما التزموا بها ، بيد أنهم لن يبقوا طويلا على اية حال ، ولسوف ينتقم منهم الناخبون أو أعضاء حزبهم على قصورهم وكذبهم المبطن. لكن قادتنا يكذبون بصلافة ، فـ "الانقلاب العسكري" الذي قام به "فتية" في الكويت ودعوا الى تدخل الجيش العراقي هو مجرد كذبة بلقاء مكشوفة على نحو جنوني ولا أحد صدقها ، لكن إذا ما تسنى لكم تذكرها ، فتخيلوا الرئيس السابق وهو يستقبل مجموعة من البائسين الذين ارتدوا أفخر أردية خليجية ، وهم يسلمون أمانة الفرع الى الأصل : الابتسامات والخطب القومية مع ضحكة غير مسموعة من مخرج كان حاضرا يرقب هذا المشهد المسرحي المخبول. إن عدم احترام العقل في مسرحية مرت علينا مرور الكرام ، يسرت للقائد قيامه بمسرحيات ذات إحداثيات قاتلة ، مثل الانسحاب من دون غطاء جوي ، ووعد الناس بالديمقراطية ، ثم الحديث بعد عام أن الديمقراطية العراقية أفضل من الغربية : إن العقل يقتص من عروض اللامعقول التي تتصف بالفجاجة والانحطاط. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ سهيل سامي نادر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|