أعوام الجمر والرماد:
عنوان كتاب جديد للروائي والمترجم العراقي حسين الموزاني صادر عن منشورات الجمل، كتاب
يحكي حياة ويوميات وتجارب المنفى كما يتناول الكثير من القضايا الثقافية والسياسية
والاجتماعية التي شهدها ويشهدها العراق، كتاب يسطر من خلاله الكاتب مواقف وإشارات متضادة
مع ذاته ومع هويته الثقافية التي جعلته لا يفقد البوصلة بين الواقعي والمتخيل، بين
الحلم والكابوس، كتاب يغوص في الحياة الذاتية لمنفي مأخوذ بالمعاناة والكوابيس والأحلام،
ويستعرضها بكثير من الغرائبية المتصلة بكوابيس الحياة والمنفى وحلم العودة إلى موطنه
الأول منذ خروجه من العراق (ووصوله إلى بيروت في الثامن من أيلول 1978) كما يشير حسين
في بداية الكتاب.
ثمة سؤال نقدي:
هل المنفى هو الجحيم واللاذاكرة واللايقين؟ سؤال حاد قد يخرج به القارئ وفي ذهنه أسئلة
أخرى لم يقبض على جمرتها بعد، وربما يحتاج القارئ إلى قراءة ثانية متصلة بالتجربة،
نفسها، كي تتضح الرؤية الموازية لطبيعة المنفى التي اتسمت بها تجربة حسين الذاتية والثقافية
والفكرية سواء في الكتابة، بلغتين، أو الترجمة ويمكننا الإشارة في هذا المقام المتعلق
باللغة إلى ما قاله الكاتب: (اللغة الحقيقية لا أمّ لها ولا أبّ، لقد اخترت لغة أجنبية
لكي أخفف من وطأة غربتي التي طالت وكذلك للتعبير عن آرائي وأفكاري).
لا يقترح حسين
الموزاني على القارئ في كتابه الجديد لغة مثقلة بالدلالات بل بالمعاني، فبعض فقرات
الكتاب (الهوية والثقافة، العودة إلى أرض السواد، جدران العزل الطائفي، المنفى واللغة،
رحلة إلى الجذور، أفول الشعر، وقفة أمام شاهدة الوطن، ما الذي بقي من بغداد اليوم وووو
…. ) وكأنها مكتوبة بناتج تجربة الكاتب وصدقه وتنوع قراءاته واحتكاكه المباشر بالأدب
الألماني وبأساليب كتابية تجريبية متنوعة، وكأنه أيضاً يطأ لغة مليئة ببذور كلمات أو
ألفاظ مختلفة، منحازاً بنحو خاص، إلى فضاء المعنى أو التجريب المتصل بالكتابة والذي
يعد من أصعب النماذج الكتابية الحديثة كما هو معروف.
أعوام الجمر والرماد:
كتابة مفعمة بالحنين وحيّوية الذاكرة وبساطتها المدهشة، وبرغم الوجع الذي يحيلنا إليه
عنوان الكتاب إلا أن صوت الكاتب يأتي هادئ النبرة، أحياناً، ومشبعاً بحشرجة الألم،
لنتأمل هذه الجمل: (تآلفت مع منفاي منذ زمن بعيد ورضيت به داراً وبديلاً لوطني واقتنعت
بأنني بتّ الآن يتيم الوطن)، وكذلك في قوله: (انتمائي إلى هذا البلد هو انتماء ثقافي
بالدرجة الأولى وليس انتماءً دينياً أو سياسياً) وأيضاً (ليس هناك فرق جوهري بين الأنظمة
الإسلامية التي حكمت العراق ونظام صدام حسين الذي حكم العراق بحد السيف)، وتكاد هذه
النبرة، أيضاً، أن تكون الثيمة الأساسية، لمجمل تأملاته النقدية، في الكتاب لما لها
من تفاصيل جانبية تتيح المجال للقارئ لصياغة أواصر روحية مشتركة، بينه وبين الكاتب،
تخرج المعنى المتصل بالمنفى وتداعياته من حيّز الذات إلى الآخر وتجعله أكثر اقتراباً
للمعاني المتناثرة في مجمل فقرات الكتاب التي أشرنا لها في بداية هذا المقال، ولعل
من اللافت في هذا الكتاب أن المعاني متحررة من سطوة العنوان وموزعة بتراتبية المنفى،
أعني لحظة خروج الكاتب إلى بيروت ومن ثم ألمانيا وعودته إلى العراق وخروجه مرة أخرى،
وهكذا سيظل القارئ متواصلاً مع عوالم المنفى وكوابيسه وتداعياته.
لا يميل حسين،
في كتابه، إلى التعابير المحايدة أو تلك المحملة ببلاغة مسرفة، أنه يشير إلى الفكرة
أو المعنى الموازي للتجربة بلغة نقدية واضحة غير مقنعة، لغة يتداخل فيها الكلام الفصيح
والعامي، أحياناً، وهذا الكلام العامي لا يُراد له أن يكون كلاماً بلا معنى بل كلاماً
من صلب الواقع العراقي ومن الحاضر الذي يتنكّر له البعض، هذا الكلام أيضاً يمثل الحاضر
السردي الذي يقف دائماً في قلب النص، خصوصاً الروائي، ويزوده بنبضه سواء لصيغ العمل
الفني أم لشكل الحوار، وبهذا سيكون للتعبير الدارج أو الكلام العامي وللإشارة النقدية
بناء جمالي ـ فني، وسيكون هناك معنى يتصاعد داخل الدلالة التي هي مكان الكتابة السردية
ومحورها الرمزي الذي يفصح، بدوره، عن البوح المكثف للكلمة.
اعتمد حسين التوازي
النصي كتقنية سردية في الربط بين الذاتي (تجربة المنفى) والتأريخي (تجربة العراق السياسية
والثقافية) فيتشكل الذاتي عبر تجربة لا ترى في المنفى حدثاً فردياً تنتهي به الحياة
بل وسيلة يواصل بها الكاتب حياته بطريقة متصلة باللغة، هكذا ظل شكل المنفى هاجساً مقيماً
في ذات الكاتب، أما التأريخي فقد تشكل على فعل الذاكرة وحركيتها، فهي البديل، كما يبدو
لي كقارئ، الذي هربت به الكتابة السردية من اللحظة الحاضرة، بما فيها من ألم، إلى الماضي،
بما فيه من تطابق، لتفتش في دهاليزه عن لحظة غائبة أخرى قد تخفف من وطأة المنفى والتأريخ
على حد سواء وصولاً إلى استعادة الحياة الغائبة، في المنفى، التي عاشها الكاتب فاكتشفها
عبر الكتابة والتجريب أو تجربته مع اللغة الجديدة.
يذهب الكاتب في
كتابه نحو أكثر القضايا المعقدة والمرتبطة بالاحتلال الأميركي للعراق، في دلالاته الرمزية
والتراجيدية بوصفه أعقد القضايا المطروحة على الوعي العراقي المعذب مفارقة وإشكالية
ومزيداً لأسئلته الموجعة والمعلقة في فضاء وجوده الإنساني، وفي مقدمة هذه الأسئلة أو
الالتقاطات الضمنية التي جاءت في سياق كلامه عن زيارته للعراق ومشاهداته للخراب الكبير:(عندما
أتذكر بعضاً من أصحاب المنفى الذين أصبحوا اليوم من أوائل المروجين للاحتلال الأميركي)
(أنها الواقعية الصارمة وقد تغلبت على السوريالية فأوقفت فعاليتها وتداعيات صورها)
(يا ليتني لم أكن قد اتخذت ذلك الموقف المؤيد لسقوط النظام عسكرياً والآن فإنني لست
نادماً فقط وإنما أعدّ موقفي موقفاً لا يمكن إصلاحه أبداً) (وكم تمنيت أن يقوم العراقيون
بتحرير أنفسهم من طغمة البعث من دون الاستعانة بالقوات الأجنبية). إن أهمية هذا الكلام
الذي يقوله حسين في كتابه تتأتى من صدقه المتصل برؤية مغايرة وبهاجس آخر هو هاجس المعنى
وعلاقة الكاتب به بصورة مجردة، حيث يجسد الصدق بعداً وجودياً وإنسانياً يختصر في بعده
الدرامي الموجع المشهد الدموي المفتوح على مأساة العراق وأهله وتراثه وثقافته وتأريخه،
هذا البلد المتروك لمصيره الكارثي تحت رحمة آلة الموت المجنونة المجانية المتملثة أيضاً
بالأحزاب الإسلامية العنصرية العقائدية، وهذا الصدق هو ما يبرر استدعاء الكاتب لشخصيات
تأريخية كالاسكندر المقدوني وغيره.
لا يمكن لقارئ
هذا الكتاب: أعوام الجمر والرماد، إلا أن ينحاز إلى ملاحظات الكاتب الدقيقة ويومياته
المنددة بالحرب والخراب والموت وبالقمع الذي تنتهجه ثقافة الصوت الواحد ورموزها المعروفة
والمستعادة والمتلونة، ولا يمكن للقارئ إلا أن ينصت لصدق المعنى الذي يبثه الكاتب بين
السطور خصوصاً وهو يستكمل حديثه عن مدينة بغداد بنحو عام وعن مدينته الثورة بنحو خاص
فيكتب بأسلوب يقترب من الشعر: (بدت بغداد طينية الملامح، غبراء)، وفي مكان آخر من الكتاب
يقول: (لم يكن هناك ما يشير إلى أن هذه المدينة هي بغداد نفسها، إنما وجه من الطين
مستسلم وحزين) (وكأن مدينة الثورة التي يقطنها مئات الآلاف من الناس بيتاً واحداً وليس
ثمانين ألف بيت). ومثلما تحدث عن الخراب الثقافي والعمراني والروحي يتحدث بالنبرة الصادقة
نفسها عن جدران العزل الطائفي، حسب تعبيره، المقيمة في الذهن فيقول: (فالجدار إذن يترسخ
في الذهن شيئاً فشيئاً وينتقل إلى الضمير الجمعي الطائفي)، إضافة إلى حديثه المحمل
بحميمية نادرة عن أمه: (وأنا لم أر أمي تضحك مرة واحدة في حياتها)، وكأن حسين يزن كل
كلمة يكتبها أو كأن المعنى مكتوباً بدقة عالية وهو ما يزيد من رغبة القارئ في التخيل
أو التدخل في صيرورة الحياة العراقية بشتى أقنعتها وتشكلاتها وتعقيداتها، ولعل هذا
ما يبرر أيضاً البساطة المدهشة والعمق المعرفي اللذين يجدهما القارئ في التفاصيل والأحداث
والمواقف المتصلة بتجربة الكاتب.
يمضي الكاتب في
سرد تفاصيل عودته إلى العراق، يستعيد المشهد من ألمانيا مروراً بعمان وصولاً إلى العراق،
وإذ يصل إلى العراق يراه محطماً ومنهوباً، لكنه أتى العراق كأنما ليتذكر ويفتح خزائن
الذاكرة المسلوبة، ويفتح عينيه من جديد، هذه العين التي لا تتوقف عن الرؤية والتذكر،
العين التي تختلط فيها منازعات النفس مع هول الوقائع والعنف الموزع في كل زاوية وشارع،
في الوجوه والملامح، العين التي تستعيد بمنتهى الوعي قراءة كتاب سلام عبود المعنون:
(ثقافة العنف في العراق) وملاحظاته النقدية المهمة، إضافة إلى طريقته في رثاء صديقه
هادي السيد حرز، أن أسلوبه في رثاء صديقه قد حدد جوهر العلاقة الإنسانية الخالصة، فالصداقة
بجوهرها وبشتى تحولاتها ستبقى قائمة بين اشراقات البشر العفوية وإضاءات الوعي المعرفي
والإنساني أو بين كل من الماضي والحاضر والمستقبل كمجرى نهر واحد في سياق صيرورة العالم
الواقعي والخيالي، ولكون المعنى الرمزي ـ النقدي، في كتاب حسين، يتخذ لنفسه ذلك المفهوم
المركب ـ البسيط، كان بدهياً أن لا يغيب عنه الحلم القديم، بـ (عراق ديمقراطي) الذي
بقي يدور في حلقته المفرغة معانياً مأساة الارتطام المستمر بجدار اليأس، فإن من البداهة
بمكان أن يكون المعنى النقدي في كتاب حسين معافى تماماً من وجع هذه المأساة العراقية
لكونه، سيبقى، يحلم بمستقبل يقع ضمن الممكن لا المستحيل، ومن أجل هذا المستقبل الممكن،
من أجل حلمه المستقبلي المحمول على أجنحة الخيال أو الأماني يتعامل الكاتب مع الماضي
والحاضر معاً من حيث يعي ويعلم أن التعامل معهما طريق إلى الحلم ـ المستقبل حتى ولو
كان مغموراً باليأس أو الخيبة.
|