|
|
الليل بالباب |
|
|
|
|
تاريخ النشر
28/10/2013 06:00 AM
|
|
|
انقطع التيار الكهربائي فجأة وتعطلت القنوات التلفزيونية عن العمل وشح الماء في الحنفيات، توقفت المراوح عن الدوران وحلت العتمة في المصابيح وأنابيب النيون، ثم انضم الهاتف الى ذلك الاضراب المفاجئ عن الحرارة فتعطل هو الآخر عن العمل، وحل الصمت والظلام التامان في أرجاء المنزل وأصبح بلا صوت ولا ضوء ولا ماء ولا كهرباء ولا صور ملونة مسافرة من الفضاءات البعيدة لتصل إليه . قال الأب : - افتحي المذياع .. لعلها حرب جديدة . قالت الأم : - لا توجد بطاريات . انحشرت الصغيرة في حضن أمها وكان الجو حاراً بعض الشيء فشعرت الأم بالعطش ، الماء موجود في (سراحية) داخل الثلاجة .. وقليل منه في إبريق الشاي .. وفي قدر صغير على الطباخ . إلا إن الأم وجدت إن من الأفضل ادخاره لأطول فترة ممكنة . قال الأب للصغيرة : - عطشانة ؟ قالت الصغيرة : - كلا ، خائفة . أعطتها أمها قليلاً من الخبز وقالت : - كلي قالت الصغيرة : - لا أريد . ثم وضعت إبهامها في فمها وتكورت على نفسها فأصبح وضعها يشبه كثيراً ما يحدث للأطفال وهم أجنة داخل أرحام أمهاتهم . قالت الأم : - أسمع صوت إطلاقات نارية بعيدة . قال الأب : - لا أسمع شيئاً . قالت الأم : - ألن تفتح الباب ؟ صمت الأب ولم يجبها، ثم ترك الأريكة وجلس على الأرض ومدد رجليه إلى أمام، وراح ينود بحركة رتيبة لا يفهم معناها أحد سواه .. ظل هكذا لفترة طويلة من الوقت دون أن يراه أحد وعندما استبد به العطش قال : - ماء . نحت الأم ابنتها جانباً.. حملت الفانوس وذهبت به إلى المطبخ ثم مدت أصابعها تحت فوهة الحنفية المفتوحة فوجدتها جافة تماماً ، فتحت باب الثلاجة وقربت الفانوس إلى صندوق التجميد في داخلها، فوجدت إن أكياس الأطعمة قد ذابت قليلاً ، وإن الجليد الذائب قد اختلط بالدم المتسرب من أحد الأكياس وأخذ يقطر ماءً أحمر إلى الأرض . عافت الصندوق وحملت قليلاً من الماء إلى الأب. قال : - هذا الماء مج . قالت الأم : - كان عذباً . ولم تشأ إخباره عن قطرات الدم التي سقطت في سراحية الماء داخل الثلاجة، إنما أخذت قدح الماء منه واكتفت بالصمت . قال الأب : - لا أريد . ندت عن الطفلة آهة صغيرة وكانت لا تزال متكورة على نفسها وإبهامها في فمها . سألتها أمها : - هل أحملك إلى الفراش ؟ قالت الصغيرة : - أريد أن أنام على الأرض . قال الأب : - هل لدينا ما يكفي من المؤونة ؟ قالت الأم : - نعم . قال الأب : - والماء ؟ قالت الأم : - لا أدري . ثم أضافت : - ولكن ماذا تعتقد أنه يحدث ؟ قال الأب : - لا أدري . ثم صمت قليلاً وقال : - ألا يوجد شيء يؤكل ؟ نهضت الأم مرة أخرى .. حملت الفانوس إلى المطبخ وفتحت الثلاجة وأخرجت منها قليلاً من التمر ، لاحظت الأم أن جدران المطبخ أصبحت أشد تقارباً إلى بعضها البعض وأن السقف أصبح أوطأ من ذي قبل ، ولم تتبين بريق السيراميك الأبيض الذي يكسو جدران المطبخ من جهاته الأربع. عزت ذلك كله إلى الظلام وتوقفت بحذاء النافذة قليلاً لتتبين ماذا يحدث في الخارج . كان القمر معلقاً في السماء كطبق مدور من قشطة الحليب ، إلا إن ضوءه الأبيض الحاد كان يكشف تحته عن مساحات شاسعة من الأراضي الجرداء التي قد تمتد في شتى الأنحاء بدون أن تفصل بينها شوارع أو جدران أو بيوت . جعلها ذلك تتوهم أنها لا تقف داخل مطبخها وإنما في الفناء الخلفي للبيت حيث اعتادت أن تنشر الملابس آخر المساء وهي تسرح ببصرها إلى مساحات مديدة وشاسعة من الأرض خالية من البنايات ومشغولة بأجمات عملاقة من الأشواك والعاقول . وبالأمس وبعد أن انتهت من نشر الملابس على الحبل الطويل الممتد بين قضبان نافذة الحمام وقضبان غرفة النوم ، لاحظت أربعة أقمار صناعية تزحف حول الجهات الأربع من الفضاء، ضوءها الساطع يجعلها تبدو في الليل كنجوم طبيعية كبيرة لولا حركتها البطيئة الزاحفة في أرجاء السماء. نظرت إليها من خلف الستارة قبل أن تنام فوجدتها لا تزال تزحف. أقفلت الستارة بأحكام وقررت أن لا تستبدل ثيابها أمام المرآة بعد ذلك، لأنها تخيلتها مفخخة بآلاف النقاط والخلايا الضوئية التي تنقل صورتها من غرفة النوم إلى العالم عبر الأقمار الصناعية مباشرة . حملت الفانوس إلى غرفة المعيشة ، فبدا لها أن سقف الغرفة أصبح مقبباً وأن الأثاث تحول إلى شيء قميء وداكن وشبيه بأجداث الأشجار والنخيل اليابس .. إبنتها كانت لا تزال متكورة على الأرض وقد أصبح رأسها صغيراً واختفت ملامحها في الظلام . قال الأب : - أين كنت ؟ قالت له وهي تنظر عبر النافذة المفتوحة : - يحدث شيء غريب في الخارج . إنمحت الجدران والشوارع والبيوت .. وأصبحت الأرض مستوية تحت ضوء القمر . قال الأب : - الظلام حالك .. إنه يضللك . قالت : - إنها ليلة مقمرة . تعال وانظر . لم يشعر الأب برغبة النهوض، إلا إنه تململ في مكانه قليلاً ثم قال : - أنظر ماذا .. هل تمزحين ؟ قالت : - أقول لك .. إنمحت البيوت حولنا . قال لها بلا حماسة : - هات الطعام . وضعت أمامه طبق تمر بيد والفانوس على الأرض بيد أخرى، فمر الضوء الأصفر بوجهه مروراً خاطفاً ولم تلحظ الأم أن وجه الأب قد تغير وأصبح شبيهاً بالجمجمة . ثم رفعت الفانوس مرة أخرى ووضعته على رف الجدار المجاور للباب . قالت للصغيرة : - لماذا تنامين هنا ؟ نظرت الصغيرة إلى الباب ثم قالت واصبعها لا يزال في فمها : - إني خائفة . قالت الأم : - يا إلهي .. ما أن يحل الظلام حتى تشعرين بكل ذلك الخوف . ثم رفعت الصغيرة من على الأرض ووضعتها في حضنها مرة أخرى فبدا على الصغيرة أنها شعرت بشيء من الأمان .. ولكنها ظلت ملتفتة الى الباب . قالت : - متى يضيء البيت ؟ قالت الأم : - لا أدري ماذا يحدث ، كل شيء تعطل فجأة .. كل شيء ! قالت الصغيرة وهي لا تزال ملتفتة إلى الباب : - أريد أن أفتح الباب . قالت الأم : - إشش .. نامي .. قالت الصغيرة : - هل أذهب وافتح الباب ؟ قالت الأم : - كلا .. هيا اسكتي ونامي . هبطت الصغيرة من حضنها ثم هرولت باتجاه الباب لتفتحه .. لبثت هناك لحظة أو بعض لحظة ثم قالت : - ولكن أين الباب . لا يوجد باب . قالت الأم وهي تنهض من مكانها : - تعالي يا حبيبتي .. أين ذهبت؟ لا أراك. ثم التقطت الفانوس من الرف، فمر ضوءه بشكل خاطف على وجه الأب قبل أن يستقر على وجهها ويحولها إلى شيء شبيه بالجمجمة. قالت الصغيرة وقد أصبح وجه أمها في الضوء : - ماما .. إنك تشبهين الماعز . ضحكت الأم بصوت عصبي وحاد ثم لاحظت أن ابنتها تنحف في ظل الضوء الأحوى إلى مخلوقة شبيهة بدودة القز . حملت الفانوس ودارت به داخل الغرفة فوجدتها وقد تحولت إلى جدران غير مستوية تنشأ عنها قضبان كثيرة ويظللها سقف واطئ مليء بالخروم السود . تحسست بيدها الجدران ثم مضت بحذر إلى حيث كانت النافذة مفتوحة قبل قليل فلم تجدها بل استطاعت بالكاد أن تعثر على فتحة أشبه بثقب في مغارة .. خفضت رأسها قليلاً لتنظر من خلال ذلك الثقب إلى الخارج فوجدت السماء وهي تبدو قريبة جداً إلى الأرض يتوسطها قمر واحد مكتمل وثمة أربع أقمار صناعية تزحف تحته مثل ضباع جائعة تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض . |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ ميسلون هادي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|