الشاعر العراقي شاكر لعيبي في أحدث مؤلّفاته:الرحّالة يصف العالم.. والشاعر الرحّالة يصف الداخل الـمُثار بالمشهد المرئي
يعتبر شاكر لعيبي واحداً من أكثر الشعراء العراقيّين والعرب عناية بالبحث الأكاديمي، والانشغال النقدي والفكري بالنصوص السرديّة على وجه الخصوص، لا سيما النصوص الرحليّة التي نشط البحث فيها مع مطلع الألفيّة الثالثة، وقد زوّد الشاعر المكتبة العربية بعدد من أفضل المؤلّفات في هذا الحقل، وفي هذا السياق، قدّم تحقيقاً وإعادة تحقيق لجغرافيّين ورحّالة أساسيّين من أمثال: إبن فضلان وأبو دلف المسعري وإبن بطلان والمقدسي البشاري، وغيرهم من أساطين هذا الفن الأدبي في الثقافة العربية. مؤخّراً صدر لشاكر لعيبي كتاب تحت عنوان «المبهج المعرفي ـ شعريّات أدب الرحلة». «المشاهد السياسي» التقت الشاعر في حوار عميق انطلاقاً من أبحاثه التي ضمّها هذا الكتاب.
* أودّ أن أبدأ معك من حيث انتهيت أنت، من آخر كتاب لك صدر مؤخّراً تحت عنوان «المُبْهج المعرفيّ شعريّات أدب الرحلة» ما الذي أردت قوله في هذا الكتاب الشيّق؟ - بداية، دعني أشر إلى أن الدراسات التي يجمعها الكتاب ينتظمها خيط واحد، إنها تعيد فحص أعمال بعض الرحّالة العرب الأوائل بمناسبة إعادة الاشتغال، حتى لا نقول تحقيق أعمالهم ونشرها في السنوات القليلة الماضية. نلاحظ أنهم من أقدم الرحّالة المعروفين في العالم الإسلامي، فإبن فضلان قام برحلة في العام 921م، والمقدسي بين الأعوام 985ـ990م، وإبن بطلان في العام 1049م. سنؤجّل الحديث عن الأحدث عهداً من الرحلات المدروسة، وهي الرحلة المنسوبة للشيخ محمد بن علي بن زين العابدين إلى السودان. كل واحد منهم يقدّم دلائل على أهميّة تاريخية وأنثروبولوجية استثنائية مبكّرة، فإبن فضلان يُعدُّ مرجعاً أساسياً لدراسة تقاليد الشعوب في شمالي القارة الأوروبية، والمقدسيّ الذي نشرنا كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» تحت عنوان «رحلة المقدسيّ» هو رحّالة متفحّص، بأدوات شخصية، لبقعة جغرافية واسعة، وقد وقع استثناؤه ظلماً من صفة الرحّالة، ومُنح صفة الجغرافيّ فحسب، بسبب أن أدب الرحلة في زمنه لم يكن قد اعترف بهذا الأدب بعد بشكل كافٍ. أما إبن بطلان، الطبيب النسطوريّ، فقد قدّم رؤية ناضجة لوعي طبيّ، علميّ، تجريبيّ، عانى بسببه ما عانى من منافسيه بسبب روحه الرافضة للأوهام والخرافات. تقدّم هذه الرحلات مشكلات جمّة، وهو أمر يجعل من دراستها متعة بحثية كبيرة، لكنه قبل ذلك، يُعلي من شأن شعريّاتها، بالمعنى الذي نستخدم فيه مفردة الشعرية: دراسة الأشكال الأدبية، خصوصاً الأسلوبية، بجميع ما يطرحه المفهوم من إشكاليات معرفية أساسية، لا علاقة لها بفن الشعر المخصوص بالضرورة، أي في تفارُقه مع اللغة «العاديّة». أضف لذلك، أن الشعرية تختلط، في فن الرحلة، بمفاهيم تُبْعدها عن النثر المألوف، كالغريب والفنتازيّ والمحلوم به وغير ذلك. وتقدّم هذه الرحلات فراغات يتوجّب أيضاً تخيُّلها. فإن رحلة إبن فضلان تتركنا وشأننا بشأن وصوله من عدمه إلى تخوم البلدان الأسكندنافية، والمقدسي يشير إلى بقعة جغرافية واسعة من دون أن نعرف فيما إذا زارها، أو استلهم المعطيات عنها من مراجع سابقة له أو معاصرة أو شفاهية، وفي رحلة إبن بُطلان فجوات جغرافية واضحة عن طريق وصوله إلى مصر من بلاد الشام، ثم عودته إليها ومنها إلى أنطاكية التي توفّي فيها. يظلّ عمل الشيخ محمد بن علي بن زين العابدين المتأخّر، إلى السودان التي تشير ملاحظة في متنها إلى أنها قد وقعت في العام 1798م. وهي مثلها مثل رحلة محمد بن عمر بن سليمان التونسي المُسمّاة (تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) تبرهن على المساهمات الواضحة المتقدّمة في علمي الأثنوغرافيا والأنثروبولوجيا في العالم الإسلامي. ومن هذه الزاوية نتوقّف عندها. ويمكن تأويل أدب الرحلة بصفته أدباً يدفع بالمرء إلى المتعة والتخيُّل وأحلام اليقظة، مقدّماً في اللحظة نفسها الكثير من المعرفة. وبين هذين القطبين: (البهجة) الكبيرة و(المعرفة) الواسعة نتمنّى أن يتأرجح الباحثون والقرّاء. * من المعروف أنك قدّمت إعادة قراءة لرحلة إبن فضلان في القرن العاشر الميلادي من بغداد إلى بلاد الصقالبة.. وقدّمت ملاحظات على دارسي رحلته.. حدّثني عن هذه التجربة العلمية؟ - دعني أؤكد أولاً أنني نظرت الى هذه الرحلة على أنها أثر أساسي في أدب الرحلة، وأول من نبّهني إلى ذلك، وطلب مني أن أبحث في هذا الأثر هو «المركز العربي للأدب الجغرافي» الذي يشرف عليه الشاعر نوري الجرّاح، والذي يعنى بأدب الرحلة. والواقع أن هذه الرحلة التي قام بها صاحبها سنة 921م، والتي استحقّت عنايةً استثنائيةً من طرفِ الباحثين والمحقّقين، هي من أوائلِ الرحلاتِ العربيةِ التي وصلتْ إلينا. ومقارنةً برحلةِ أبي دُلَف سنة 942 ورحلةِ المقدسي سنة 985ـ990م، فإن رحلة إبن فضلان تظلُّ مشغولةً بهَمٍّ توثيقيٍّ صرفٍ، أكثرَ من اهتمامِها بالشأنِ الجغرافيِّ. إنَّها وصفٌ أنثروبولوجيٌّ يتمحور حول موضوعٍ واحدٍ محدَّدٍ لا يحيد عنه، رغم قصر النُّسخةِ الواصلةِ إلينا. وإبنُ فضلانَ انطلق يوم الخميس 11 صفر سنة 309هـ، الموافق 21 حزيران (يونيو) سنة 921م، برحلةٍ شائقةٍ، بتكليفٍ من الخليفةِ المُقْتَدِرِ العباسيِّ الذي طلب الصقالبةُ العونَ منه. واستغرقت الرحلةُ أحد عشر شهراً في الذَّهابِ، وكانت مليئةً بالمغامراتِ والمشاقِّ والمصاعبِ السياسيَّةِ والانفتاحاتِ على الآخرِ المختلفِ ثقافياً. والصقالبةُ، كما يعرف بعضهم، هم سكَّانُ شمالِي القارَّةِ الأوربيَّةِ، وكانوا يسكنون على أطرافِ نهرِ الفولغا، وتقع عاصمتُهم بالقربِ من (قازان) اليومَ في خطٍّ يوازي مدينةَ موسكو. وكان وفدُ الخليفةِ المقتدرِ إلى ملكِ الصقالبةِ، يتكوَّن من أربعةِ رجالٍ أساسيّين وبضعةِ مرافقين من الفقهاء والمعلمين والغلمان. مخطوطة يتيمة
* هل هناك أكثر من نسخة من هذه المخطوطة حتى أن تحقيقها اعتمد على نسحة واحدة فقط؟ - أبداً، وهنا المشكلة. هناك نسخة وحيدة للمخطوطة موجودة اليوم في مدينة مشهد في إيران. وقد صدرت الطبعةُ الأولى من «رسالة إبن فضلان» في دمشق سنة 1959، عن مجمعِ اللُّغةِ العربيةِ في دمشقَ بتحقيقِ الدكتور سامي الدهّان، مع تقديمٍ واسعٍ وشروحاتٍ ضافية. ثُمَّ صدرتْ طبعتُها الثانيةُ عن مديريةِ إحياءِ التراثِ العربيِّ في وزارةِ الثقافةِ والارشادِ القوميِّ السوريةِ في العام 1977. ثم صدرتْ لها طبعةٌ ثالثةٌ سنة 1987 عن مكتبةِ الثقافةِ العالميةِ في بيروت. وأوَّلُ من حقَّق مخطوطةَ مشهد وعلَّق عليها وترجمها هو الباحثُ التركيُّ وليد زكي طوغان، الذي قابلها على ما جاء عند ياقوت الحموي، ونشرها بالحروفِ العربيةِ والترجمةِ الألمانيةِ وطبعها سنة 1939. وفي السَّنةِ نفسِها، ترجمها المستشرقُ الكبيرُ كراتشوفسكي وكتب لها مقدّمة ضافية، وفي آخر دراسته نشر صورةً فوتوغرافيةً للرِّسالةِ كاملةً عن مخطوطةِ مشهد وبحجمٍ كبيرٍ. وإلى أساسِ هذه الصورِ الشَّمْسِيَّةِ التي نشرها كرتشوفسكي يستند التحقيقُ كلُّه الذي قام به د. الدَّهان، وبالاستعانةِ، كما أحسبُ، بطبعةِ وليد زكي طوغان العربيةِ ـ الألمانيةِ. قبل التوصُّلِ إلى اكتشافِ مخطوطةِ مشهد التي نشرها د. الدَّهانُ، فإنَّ النقولاتِ التي قام بها ياقوتُ الحمويُّ في (معجم البلدان) عن رحلةِ ابنِ فضلانَ، هي التي قادت المستشرقين والباحثين للاهتمامِ بابن فضلانَ، محاولين العثورَ على نسخةٍ من عملِه، وهو ما توصّلوا إليه أخيراً. يثبتُ د. الدَّهانُ أنَّ الإصطخريَّ وابنَ رسته والمسعوديَّ قد قرأوا رسالةَ ابنِ فضلانَ، ونقلوا عنه من دون أن يُثبتوا أنَّهم قد نقلوا عنه. لكنّ الرُّجوعَ إلى هؤلاءِ يُبرهن على أنَّ ما يذكرونه عن الروس والخزرِ والبلغارِ، لا يبدو كثيرَ التطابقِ مع رسالةِ ابنِ فضلانَ إلا عرضاً، وبنقاطٍ معلوماتيةٍ مُشاعةٍ، يمكن أن تتهيّأ لأيِّ جغرافيٍّ جادّ من دون أن ينقل بالضرورة عن غيره. قيمة الأثر
* ولكن ما هي الأهمّيّة الأساسية لرحلة إبن فضلان من وجهة نظرك كدارس صاحب باع في نصوص أدب الرحلة؟ - تقع أهميَّةُ رحلةِ إبنِ فضلانَ في أنَّها تُزَوِّدُ التاريخَ العالميَّ بشذراتٍ مهمَّةٍ عن أنماطِ معيشةِ شعوبٍ قلَّما سُجّلت. فإنَّها تسدُّ ثغرةً تاريخيةً في هذا المجالِ، وتُعتبر رائداً في الاشارة الى تاريخ الشعوب الصربيَّةِ، والروس منهم على وجهِ الخصوص. وإذا ما تتبّعنا الأماكن والمدن التي يذكرها إبن فضلان، فسوف نسجّلُ التالي: بغداد ـ النهروان ـ الدسكرة ـ حلوان ـ قرميسين ـ همذان ـ ساوة ـ الري (قرب طهران اليوم) ـ خوار الري ـ سِمنان ـ الدامغان ـ نيسابور ـ سرخس ـ مرو ـ قشمهان ـ آمل ـ آفرير ـ بيكند ـ بخارا ـ خوارزم ـ الجرجانية ـ جيت ـ بلد الصقالبة. وقد أثار هذا المسارُ الكثيرَ من النِقاشِ، فقد كان يتوجّبُ الحديث عن بلادِ الخزر قبل الحديثِ عن الروس، لأنَّ الطريقَ إلى الروس يمرُّ أولاً بالخزر. هل ضاعَ شيءٌ من المَخطوطةِ، كما يقولُ د. الدهان، أم أنَّ إبن فضلان نفسَه لم يكن مهتمّاً بأمرِ تسجيل شؤون الروس والخزر مثل اهتمامه بالصقالبة هدف رحلته، وأنه بالتالي، سجَّلَ انطباعاتِه كيفما اتّفق عن ذينك البلدين، أم أن مخطوطةَ مشهد نفسَها تعاني خللاً منطقيّاً ما بسبب ناسخها أو تلفِ جزءٍ منها، وإذا صحّتْ هذه الفرضية، فهل كانت النسخةُ التي وقعتْ بين يديّ ياقوت تعاني هي أيضاً الخَلل نفسِه؟ لا أظنُّ. وفي يقيني، إن إبن فضلان قد كتبَ المخطوطةَ بهذا الشكل الذي نعرفه، مُدْرِجاً انطباعات وقصصاً رآها أو سَمِعَها في البلدين المعنيّين. ولم يَزُرْ البتّة البلدانَ الإسكندنافية كما يزعم الكاتب الهوليوودي كريكتون ومثله د. غيبة، وتابعهما بذلك، على عجل لا يليق بالثقافة، د. عبد الله إبراهيم، ولو أنه فعل وزارها لنقلَ مَنْ نقلَ عنه شذرةً صغيرةَ، أعني ياقوت والقزويني، وبخاصة الأخير المولع بالغرائب من كلّ نوعٍ. العرب والآخر
* ما الذي تكشفه الرحلة هذه عن علاقة العرب بالآخر؟ وما أبرز ما تثيره من قضايا تتعلّق بنظرة العرب نحو الآخر؟ - لا تبدو علاقةُ العالمِ العربيِّ، أو أقلُّها ثقافةُ الناطقين باللغةِ العربيةِ، من عربٍ وغيرِ عربٍ، ممَّن كانوا يستخدمون العربية في حضارةٍ كانت هذه اللغة فيها شيئاً سامياً وضرورياً، بمثل استلابها هذا اليوم مع الآخر، وهو ما تبرهنه رحلةُ ابنِ فضلانَ. لم يكنْ الاختلافُ البديهيُّ بين الأنا والآخر ليتصاعد إلى المستوى الموصوفِ في كتاباتِ بعضِ الباحثين العربِ المعاصرين، ممَّن يصفون العلاقةَ مع الحضاراتِ الأخرى بمنطقِ الحذرِ والرِّيبةِ، بل إنَّ ثنائيةً نهائيةً ومطلقةً بين (دارِ الإسلامِ) و(دارِ الكفرِ) لم تكنْ تشتغل في الواقعِ العمليِّ كما تشتغل على الصعيدِ النظريِّ البحتِ، مثلُها مثلُ الكثيرِ من المفهوماتِ السائدةِ الأخرى. هذا ما تبرهنه الهجرةُ واسعةُ النطاقِ من طرفِ جغرافيّين وعلماءِ فلكٍ هنودٍ، وخزَّافين صينيّين وغيرِهم، قادمين كلُّهم من دارِ الكفرِ (الهند) و(الصين) للاقامة في (دارِ الإسلامِ)، بغداد العباسية. بإمكاننا الآن تِعْدِادَ العشراتِ من أسمائِهم. المخطّط الذي يبني عليه بعضهم تحليلاتهم المعاصرةِ، بشأنِ هذه الثنائيةِ، يبقى من طبيعةٍ تلفيقيَّةٍ محضٍ. على العكسِ من ذلك، يبدو إبنُ فضلانَ وصحبُه، وهو في موقفِ الواثقِ، إلى درجةٍ كان يأمر بها وينهي ملكَ الصقالبةِ نفسَه: «وبدأتُ فقرأتُ صدرَ الكتابِ فلمَّا بلغتُ منه «سلامٌ عليكَ، فإنِّي أحمدُ إليكَ الله الذي لا إلهَ إلا هو»، قلتُ: «رُدَّ على أميرِ المؤمنين السلامَ، فردّ ورَدُّوا جميعاً بأسرِهم». وثوقُ قادمٍ من ترسُّخِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ في العالمِ القديمِ وقوّتها. ومثلما لا يشعر الأميركيُّ اليومَ بالهيبةَ من حضورِ الآخر، فلم يكن العربيُّ والمسلمُ ليعانيان هذا الشعور. إن صراعاً كامناً كعِلّةٍ ضروريةٍ، وإن تناقضاً وجودياً نهائياً، بين الأنا والآخر، لم يكونا موجودين. ثمة بدلاً منهما الكثير من الانفتاح، وهذا الانفتاح بالأحرى هو العِلّة الضرورية والمحرّك الداخليُّ لأيّة حضارةٍ في لحظاتِ ازدهارها. وتعبّر خيرَ تعبيرٍ عن هذا الانفتاح مُفرداتُ المِطبخِ العباسيِّ، التي قلّما نلتقي فيها بطبيخٍ محليٍّ تام الأصالةِ. لقد اختلطت مفرداتُ المطبخ الهنديّة بالفارسيّة بالعربيّة أشدّ الاختلاط. الكلُ يأكل على مائدة الكلِّ في المأدبة نفسها، وإنْ بصعوباتٍ حقيقيةٍ في بعض الحالات بالطبع. يتّخذُ بعضهم من هذه الصعوبات الطبيعيّة قاعدةً لتفسيرِ العَلاقة بين الأنا والآخر بكثير من العَسَفِ. إلا أن جماعات العالم القديم وثقافاته، الأكثر والأقل تطوُّراً، كانت تعاني انكماشاتٍ على الذات، لأسبابٍ منها ضيْقُ فُسْحةِ الاتّصال وصُعوبةُ المواصلات. لم تكنْ مشكلةُ الهويّةِ بمعناها الراهن مطروحةً (فكرة الهويّة بمعناها هذا هي اختراعُ ثقافيٌّ معاصرٌ)، وربّما كان شيءٌ يشابهها يحضر لأسباب تتعلق بنظام القرابة ومواريث الأرض والنظام الاقتصادي لجماعةٍ من الجماعات الساعية لتحقيق اكتفاءٍ ذاتيٍّ. الآخرُ بعيدُ في الجُغرافيا، لذا فهوَ غامضٌ ومجهولٌ وسحريٌّ وموطنٌ للخُرافات. هذا النوع من إعلان (الغرابةِ) عن الآخر، هو الذي كان مهيمناً، وليس تلك التساؤلات ذات الطبيعة الفكرية المعقَّدة عن علاقة الأنا بالآخر. كلّما ضَرَبَ الآخرُ في الأقاصي والمجاهيل، كلما تصاعدتْ وتيرةُ الحكاياتِ غير الدقيقة عنه. هذا السبب البديهيّ لا صلة رحم له، بالضرورة، بمشكلات الأيديولوجيا: (دار الكفر) و(دار الاسلام). إن انفتاحاً مذهلاً، يَصِلُ إلى درجة الاحترام للآخرين المختلفين كان يحكم علاقة دار الإسلام بالحضارات الوثنية العريقة، الهندية والصينية بخاصّة (وهو ما يشرحه د. عزيز العظمة في أحد كتبه «العرب والبرابرة»). الأنا في الحقيقة متعدّدةٌ والآخرُ مندمِجٌ فيها، وهو ما تبرهنه طبيعةُ الوفدِ المُرافق لإبن فضلان. * أنتقل معك الى حيّز آخر من بحثك المتضمّن في كتابك الجديد، وأعني به مغامرتك وراء تحوّلات موقع الرحّالة من العالم والكتابة معاً، ومن فكرة الاستكشاف وبناء المعرفة، وهو ما أفضى بك إلى فكرة أساسية وهي الرحّالة الحديث ووظيفته؟ - دعني أقل أولاً إننا لن نأتي بجديد، إذا قلنا إن أدب الرحلة في الثقافة العربية الإسلامية يقدِّم، في الغالب، وصفاً لمجموعة من المعطيات الجغرافية والإثنية والمعمارية واللغوية لتلك البلدان والمدن التي جال فيها الرحّالة العرب. إن درجة الموضوعية تظلّ في حالات كثيرة موضع تساؤل مشروع، طالما أن الأمر يتعلّق بمستوى المعرفة العامة السائدة في حقبة محدّدة من التاريخ. ثمّة إذنْ (نسبيّة معرفيّة) إذا صحّ التعبير، يجب وضعها في الاعتبار عند قراءة أدب الرحلة العربي. لقد كانت الرحلات تتضمّن توقاً فردياً للانعتاق، وجموحاً داخلياً عند الرحّالة في جوبان الآفاق، أكثر مما كان يوجد سبب وظيفي مباشر، إلا إذا اعتبرنا فريضتي الحجّ والعمرة، اللتين انطلقت بسببهما الرحلة أحياناً، دافعاً وظيفياً. الرحّالة والشاعر
* ولكن ما الذي يختبره كل من الرحّالة والشاعر في سعيهما في مجاهيل العالم، وحيث (المعمورة) برمّتها حقل اختبارهما؟ - الفارق بين نصّيهما يقع في طريقة الوصف، ففي حين ينحني الشاعر على تقديم أشياء المعمورة المحسوسة بصيغ استعارية، مُقَارِباً الملموس باللامحسوس، محاوِلاً الاقتراب من جوهر المعمورة، من العمق العميق للعالم، ومن معنى العالم بالنسبة للبصيرة، فإن وصف الرحّالة يبقى في إطار لغة معقولة منذ البداية، لغة سرديّة مهمومة بالموضوعي المحسوس والمعنى العقلاني، وبتقديم المشهد كما يراه البصر قبل أن تتدخّل البصيرة في تأويله. نص الشاعر، إزاء نص قرينه الرحّالة، هو توصيفٌ للداخلي الـمُثار بالمشهد المرئي، في حين أن متن الرحّالة هو تقريرٌ لأوصاف الخارجي المبحوث عنه بشدّة، المشدودة الرحال إليه، الخارجيُّ المقصود قصداً من أماكن نائية. هذا الفارق يمسُّ فكرة (الخيال) نفسَها المعتملة في عملي الرجلين كليهما. فكلاهما يمتلك، في حقيقة الأمر، مخيالاً خصباً مُثاراً بالوقائع العيانيّة ومُسْتَفَزَّاً بمرأى المرئي. إذن، إن الفكرة الجوهرية لهذا المفتتح هي التالية: إن الشاعر والرحّالة المدفوعين بضرورات، خارجية وداخلية، قاهرة نحو كشف معرفي ما، يمتلكان مشتركاً ذا وسائل متباينة، ألا وهو امتلاك (مخيّلة) خصبة وحادّة ونفَّاذة. وإذا ما كانت (الاستعارة) ونتاجها المباشر، الصورة الشعرية الأداتين الرئيسيّتين اللتين نرى عبرهما كيف تشتغل (مخيّلة) الشاعر، فإن (التخيُّل) ليس بعيداً أبداً عن عمل الرحّالة العربي بل يقع في صلبه. لا نمنح التخيُّل هنا بعْداً تعميمياً عريضاً، ولا نعني به البتّة تلك القدرة الموضوعية على تخيّل المسافات، تقديرها وتقريبها، ولا نريد منه القدرة على التوقُّع والاستنتاج الحدسي بأدلّة طفيفة وبظروف قاسية، بل نريد منه تلك العملية الاستعارية ذاتها والمجازية نفسها التي تتطابق، قليلاً أو كثيراً، مع استعارة الشاعر الذي يكتب قصيدةً. نقول إن الرحّالة كان رجلاً يحلم كذلك، ويلقي نصّه ببلاغات واستعارات وخيالات كاملة، خصوصاً في أوائل الرحلات العربية المعروفة .
عن (المشاهد السياسي) |