أقام بيكاسو في باريس عام 1907 حيث التقى براك. وحتى اندلاع الحرب عام 1914، طوّر فنانا التكعيبية البارزان نوعاً من رسوم ( الحياة الساكنة ) Still Life، بدأه سيزان وماتيس وفان كوخ في مرحلة الكلاسيكية الجديدة. ما تبقى من آثار هذه الحياة لوحات سيزان (التفاحات) وماتيس (الأسماك الذهبية) وكوخ (ازهار الشمس)، التي أضاف إليها براك (الكمان والجرّة) وبيكاسو (المصباح والجمجمة).
ما تبقى من انطباعية الريف اللونية البهيجة، وتوازن الأشكال وانسجامها، نظرة التقطت بقايا الحياة التافهة وأحاطتها بهارمونية الحس الجمالي الرفيع، في أثمن تجارب الفن التشكيلي المعاصرة. خفتت نزعة تصوير الحياة الساكنة في ذروة التعبير عن العاطفة البشرية المحطمة بعد الحرب الأهلية الإسبانية، لكنها اشتعلت من جانب آخر في تجارب التجهيز السوريالية، وبلغت غايتها في فن (البوب) السلعية، ثم انحدرت إلى فضاء البنائية التجريدية، وتعبيريتها الذهنية السوبريالية.
فرعت التكعيبية من لوحات سيزان الساكنة فرعين: الأول متناغم ومركز وهندسي الخطوط، سار عليه براك، والثاني مجمع وناشز ومتفاعل، اتخذه بيكاسو. نهج براك منهج (العدم الفكري) الكامن وراء انسجام الأشياء فيما بينها، وبينها وبين نفس الفنان، أما بيكاسو فقد استعمل الأشياء في لوحاته الساكنة بما تملي عليه عاطفته المتفجرة بالضوء والصهيل: (المصباح) المرفوع في وجه (المينوتور)، ونواح (الجمجمة) المنبعث من جيتار لوركا: ((أوه أيها الجيتار، أنت قلب جُرح عميقاً، بخمسة سيوف)). بينما يدفن براك صوت الكمان في نظام لوحته الجامدة.
كتب كوكتو عن بيكاسو )): إن ساحر الأشكال هذا، إنما يتخفى في زي ملك جامعي الخرق الذي لا يني يكنس الشوارع في سبيل الحصول على شيء يفيد منه )). ماذا تبقى من خرق بيكاسو وأوراق صحف براك وتصاميم أرنست وتجهيزات دو شامب وقناني وارهول ؟ ماذا تبقى من حذاء جندي مقتول على جبهة الحرب وغليونه وساعة جيبه ؟ لا مراء في أن هذه الأشياء التي التُقطت من قمامة العالم الصناعي ونُظمت في لوحات حياة ساكنة، وتجهيزات حاضرة ready made، شكلت الديكور الجمالي الذي ظهرت إلى جواره أحدث حركات القرن العشرين الفكرية والأدبية.
نقل الفنانون العرب المبعوثون إلى أوربا تقليد رسم الحياة الساكنة من محيطه الصناعي الغربي وحشروه في أجواء الصالونات الشرقية الارستقراطية، فلاقى هوى عند النفوس المثقلة بعاطفة استعمال الأشياء الحميمة، الجرار والأقداح والأزهار. عُرضت لوحات الحياة الساكنة التي رسمها فنانون كلاسيكيون من مصر والعراق والشام لشخصيات المجتمع البرجوازي وسيدات المنازل الفاتنات، إلى جانب التماثيل النصفية للقادة العسكريين وشهداء الحرية ومفكري النهضة والشعراء. فماذا تبقى من أشياء السكون المعلقة في ردهات القصور الملكية، وظلال المقاهي الأدبية. ماذا تبقى من متاحف الأمس ؟
ماج المحيط، وانقلب البصر، وانتهى عصر الدعة وراحة الضمير، وكنست رياح التغيير وأمواج الهجرة الفنية ذلك التقليد الرومانسي الجامد، وجُهّز المحيط البيئي والمعماري المتسع على امتداد السواحل المتوسطية والخليجية بخامات نقية ووظائف مستحدثة للعرض البصري.
وإلى جوار هذا المحيط المجهز بمواد صلبة ومبهجة، وموضوعات محفزة لتوليد المفهومات الرسموية والفضائية، دفعت الأجواء الأطلسية والبحار المائجة، بتجهيزات الغزوات ونفايات المصانع إلى سواحلنا. وأضاف المحيط المحلي تجهيزات قاتمة، فأصبحت العين الرائية الحائرة تجول في مزادات الأرصفة وأسواق الجمعة كيما تحصل على عرض حر، متوازن ومنسجم، يجمع في بؤرته الساكنة حذاء وجمجمة ومصباحاً زيتياً تصارع الإهمال في ظل جدار ملطخ بالرسوم والخطوط والملصقات.
وفي هذه الآونة، كان كاتب النثر يتبع فنان التجهيز الباحث عن متاع أسواق الجمعة. كان الفنان يزاحم سماسرة الأشياء التافهة، وكان الكاتب يتبع الفنان ويزاحمه في تجهيز لوحاته من سقط المتاع المسروق من البيوت المهجورة والمتاحف المنهوبة. وكما تابعت جروترود شتاين عمل بيكاسو التكعيبي في نص نثري متعدد السطوح والزوايا، فإن كاتب النثر يثقل نصه بعاديات المفردات وأسقاط العبارات.
كتبت شتاين عبارة واحدة مفككة مكررة المفردات: ((كان إنساناً كامل السحر، ذلك الذي كان بعضهم يتبعه. من كان يتبعه بعضهم كان إنساناً كامل السحر. كان بعضهم يتبع يقيناً وكان على يقين بأن من يتبع آنذاك كان إنساناً يعمل وكان إنساناً يعطي من نفسه شيئاً ما آنذاك. كان بعضهم يتبع يقيناً وكان على يقين بأن من يتبع آنذاك كان إنساناً يعطي من نفسه شيئاً سيصبح شيئاً كبيراً، شيئاً صلداً وشيئاً متكاملاً)). ويستمر النص على هذا المنوال.
أزعم أن فنان التجهيز قد أنجز (شيئاً كاملاً ساحراً)، توليفات أجزاء متفرقة على سطح حياة صلدة. أزعم أنه أجاد عمله، وأعطى من أعماقه شيئاً سيصبح شيئاً كبيراً. أستطيع أن أؤكد أنه اطّلع على صورتين منشورتين في مجلة ( نيوزويك ) بالطبعة العربية، تظهران جانبين متقابلين من دراما الفاجعة العراقية، فقابلهما بما يملك من يقين وما بعثره على سطح حياته الساكنة، حياته الملصقة على سطح ساكن.
وإني هنا أتابع قصاصات صوره الملصقة على سطح حياته، وأكتب مقطعاً إلصاقياً على سطح حياتي الساكن. أزعم أن ما يعمله بعضهم في محترف حياته الساكنة سيصبح شيئاً أكثر صلادة من الحياة المتحركة التي استقى منها تجهيزاته. وأزعم أني أعمل بما تجهزه الحياة الساكنة من أفكار. نشرت (نيوزويك) الصورة الأولى على صفحات تحقيق عن حادثة التدافع والهياج التي قتل فيها ألف شخص على جسر الأئمة في سبتمبر 2005.
تظهر في الصورة جرافة ضخمة تزيح الأحذية والخفاف التي لفظها آلاف الهاربين من تحذير كاذب بوجود انتحاري في وسط الموكب المتجه لزيارة الحضرة الكاظمية المقدسة، وأولئك الذي انبعج حاجز الجسر بضغط أجسادهم فقذفوا إلى النهر، والآخرون الذين ديسوا بالأقدام بعد أن خارت قواهم. وعلى الجانب الآخر البعيد من الأطلسي، عُرضت صفوف طويلة من أحذية الجنود الأميركان المقتولين في العراق على بساط عشبي أخضر، عُرّف كل فرد منهم ببطاقة متدلية من ثقب حذائه. كان هذا فحوى الصورة الثانية لمجلة (نيوزويك).
قص فنان التجهيز الصورتين وخلط بين فكرتيهما بإضافة رسائل الجنود على خلفية كوفية مرقطة وعباءة سوداء. أزعم أن الفنان أنشأ موضوع لوحته من ضم جناحي مفارقة ساخرة وجدت لها متنفساً في تقليد انسحب من مفارقات الحياة وانزوى في حياديته الساكنة. أزعم أن فنان التوافه قد أنجز عملاً قيماً، وإني أتبعه. أزعم ولا أطيل، أزعم من غير مزعم، كما يقول المثل. إن حياة ساكنة قد لا تكون أكثر من حياة ساكنة في لوحة مجهزة بتلصيقات حياة ساكنة. |