|
|
خطايا الانتقال أو عودة الفراعنة ؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
18/12/2012 06:00 AM
|
|
|
مصر ام الدنيا. عبارة مقتضبة توجز فخار المصريين بوطنهم، ومبالغات العرب في البيان، وحقيقة قديمة: ما يسود في مصر، يسود تدريجاً في العالم العربي. تمردت مصر على فكرة الخلافة عام 1924 بصدور كتاب عبدالرزاق، رداً على منازعات العرب على لقب «الخليفة» بعد إلغاء كمال أتاتورك المنصب. استشرى التمرد في العالم العربي كله، ولم يبق من حركة الخلافة سوى حزب يتيم في باكستان، وكان الاستثناء الوحيد هو «حزب التحرير» الذي اسسه القاضي الفلسطيني النبهاني، ولم يبق منه سوى الاسم وحفنة أنصار. ويوم انطلقت حركة «الإخوان» على يد حسن البنا في العقد الثالث من القرن العشرين، من ركام الطرق الصوفية في مصر، انتشرت في العالم العربي، وتحولت الى أممية واسعة. وحين انطلق «الضباط الأحرار» في انقلاب عسكري راديكالي، تلته سلسلة انقلابات تحاكي النموذج المصري، وتستلهمه، بصيغ متفاوتة، من العراق، الى سورية واليمن، مروراً بالسودان وليبيا والجزائر. حتى المغرب (والأردن) جرّب حظه العاثر في مساعي الانقلاب العسكري. واليوم، وللمرة الأولى، لم تكن مصر البادئة بالربيع العربي، تونس كانت السبّاقة، ليس فقط في ابداع الاحتجاج المدني، الجماهيري بحق، بل ايضاً في ابداع مسار الانتقال السلس. إسقاط الحكومات او رؤوسها، كما يبدو هو الجزء اليسير. الجزء الصعب هو ملء الفراغ الانتقالي، إلى حين إجراء الانتخابات التأسيسية. والجزء الاصعب هو تنظيم الصراع في المرحلة التأسيسية، حيث يجري وضع الدستور، وإرساء قواعد حكم تشاركي. كل حركات الاحتجاج ركزت، بصواب، على اقصاء القديم، واستعدت لملء الفراغ. الحركة في مصر ركزت بإفراط على التفكيك: اقصاء الرئيس ونائبه، ومجلسه الوزاري، وبرلمانه وحزبه. ولمّا كان الدستور القديم (المرجع القانوني الوحيد المتاح) ينص على حلول رئيس البرلمان او رئيس السلطة القضائية لسد الفراغ الرئاسي، فإن هذين الخيارين أقصيا، لأسباب وجيهة، من برنامج حركة الاحتجاج، وعقلها المدبر (مجموعة شباب الثورة في ساحة التحرير). وقد تجاوزت هذه المجموعة قيادات الأحزاب فطنةً وذكاءً وراديكاليةً. وبدت هذه القيادات مثل عجائز شكسبير، هياكل عظمية فانية، بلا روح. لكن راديكالية الشباب الجامحة، والرائعة ايضاً، غرقت في نشوة الظفر، خصوصاً بعد استقالة الرئيس العجوز، المعمر في مقعده، ونسيت اهم شروط الانتقال: حكومة موقتة للادارة الانتقالية، كما حصل في الغِرار التونسي (والعراقي على رغم اختلاف الظروف)، حكومة موقتة ضيقة الصلاحيات، مهمتها الوحيدة التهيئة للانتخابات التأسيسية. حصل مثل هذا الترتيب في معظم عمليات الانتقال التي شهدتها اميركا اللاتينية، وأوروبا الشرقية، في التسعينات، كما مرت بها دول من اوروبا الغربية في الإربعينات. وباتت مراحل الانتقال هذه ألفباء العلوم السياسية، وجزءاً اساسياً من مدونات الادبيات السياسية التي تدرس في الجامعات. حسبنا ذكر موسوعة خوان لينتز ولاري دايموند «الديموقراطية في البلدان النامية»، وموسوعة اودونيل وشميتر «الانتقال من الحكم السلطوي»، او موسوعة خوان لينتز الاخرى «انهيار انظمة الديموقراطية»، وهي غيض من فيض. لكن الإجماع فيها على ان الخطوة الاولى، الخطوة الكبرى، هي فك النظام السلطوي، اما الخطوة الاكبر فهي الفترة الموقتة والانتقالية الممهدة لبناء الجديد. لا ريب في ان تونس هي حالة النجاح الأبرز، ونموذج الانتقال في مصر هو مثال مهم على الفوضى. فقد حلّت المؤسسة العسكرية بدل الرئيس، بدل ان تحل محله حكومة موقتة للادارة الموقتة. وفي المرحلة التأسيسية، اي تأسيس دستور ونظام جديدين، التي تقتصر على مهمة واحدة ولفترة عام واحد، شهدت مصر انتخاب جمعية تأسيسية لعام واحد وانتخاب رئيس دائم (لأعوام عدة). لقد خطف «الإخوان» وحلفاؤهم المؤسسة البرلمانية، بغالبية كبيرة ناجمة، في جانب منها، عن تفوق القدرات المالية والتنظيمية، من دون التقليل من شأن نفوذ «الإخوان» في المجتمع المصري، بشبكات التنظيم الواسعة، والشركات، والتعاونيات، ذات التنازع المديد. وما بدا اكتساحاً اخوانياً في الانتخابات البرلمانية العامة، بدا تفوقاً جزئياً في الانتخابات الرئاسية. فثمة قوى اجتماعية واسعة تعترض، من مواقع فكرية او اجتماعية او غيرها، على فكرة الدولة الدينية، المتزمتة، مثلما ان هناك قوى اجتماعية اقتصادية، فقدت بزوال النظام القديم اداة لحماية مصالحها ولكنها فقدت بزواله ايضاً القيود التي تكبلت بها عنوة على يد قادة الدولة، في شراكة قسرية لاقتسام كعكة الاقتصاد الهزيلة. زوال التحالف مع النظام القديم، بهذا المعنى، حرّر هذه القوى، محققاً الفصل المنشود بين الاقتصاد والسياسة، الفصل الذي يفتقر إليه جل المجتمعات العربية، ويتعثر فيها التحول الديموقراطي بسبب هذا الافتقار عينه. ان قوى الشباب الحداثي، والشرائح العلمانية من الطبقات الوسطى، وقطاعاً واسعاً من رجال الاعمال، وقطاعات المرأة، والطوائف الدينية، فضلاً عن مؤسسات مؤثرة كالأزهر، تشكل جميعاً الوعاء الكبير للنشاط المدني المعارض، مثلما ان تعدد المؤسسات (القضاء، والجيش) يعرقل الاحتكار المطلق. الانتقال في مصر لا يزال في بدايته الاولى، وهيمنة «الإخوان المسلمين» الضاربة، على خلاف هيمنة العسكر، لا ترتكز على القوة السافرة والشرعية الذاتية «الثورجية»، بل تعتمد، بحكم طبيعة الانتقال، على التفويض السلمي، وهو، مثل اي تفويض، قابل للاستعادة. عودة الفراعنة هو اذاً طموح الحاكمين وحلمهم، اكثر منه بنياناً مؤسساتياً صلداً. وإذا غامر «الإخوان» بقضم البناء الديموقراطي او تقويضه، فإنهم بذلك يقوّضون اساس شرعية وجودهم في الحكم. المكسب الأكبر للربيع العربي هو فك النظام التسلطي ولا شيء آخر. ومن حسن حظ تونس ومصر، ان الدولة الريعية هزيلة، خلافاً لليبيا والعراق، والى حد ما سورية، حيث تتحكم الدولة بالاقتصاد كمالك للأصول، لا كناظم قانوني للنشاط، ما يفضي الى استعباد الطبقات الوسطى الحديثة، وتعميم العبودية السياسية. ومن سوء حظ الطبقات الدنيا، ان التيارات الاسلامية تفتقر الى برنامج اقتصادي- اجتماعي، وهي تعوّض عن هذه الرثاثة بالتستر وراء شعار «تطبيق الشريعة»، واتهام الخصوم لا بالعداء للتيار الاسلامي، كما هو الواقع، بل بالعداء للدين، لكأن الدين أو الشريعة، لا وجود لهما إلا عند «الإخوان»، ولكأن «الإخوان» هم الدين، والدين هو «الإخوان». لا مستقبل لمثل هذه القدسية المزيفة.
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فالح عبد الجبار
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|