اجرت الحوار فاطمة عطفة:
شاعر عربي له حضوره المضيء في المشهد الثقافي والإبداعي، انطلق من بغداد مزودا بتراث الرافدين وحضارتهما العريقة، لينغمس في غنى اللغة الفرنسية وثقافتها، كتابة وترجمة. إنه الشاعر شوقي عبد الأمير. ولأنه غني عن الاستفاضة بالتعريف، فلا يمكن أن ننسى إنجازاته في الشعر والترجمة معا، وهو يرى أن روائع التراث الشعري والملحمي والصوفي هي نصوص معاصرة وإن كانت من إنتاج زمن مضى. ومن هذه النظرة الجمالية المرهفة يرى أن القصيدة لا ينبغي تصنيفها حسب اختلاف الزمن أو الموسيقى والإيقاع. وكان له الفضل السباق والدور الفعال في تأسيس مشروع 'كتاب في جريدة'. هنا حوار معه:
* سننطلق من العراق وصولا إلى الجزائر وفرنسا، حدثنا عن تأثيرات هذه الدول الثقافية والتاريخية على الشاعر وإبداعاته؟ - في الواقع كانت بدايتي الشعرية في كلية الآداب وكانوا يسموننا شعراء الكلية، وكنا نكتب القصائد العمودية. بعد تخرجي من كلية الآداب، عينت مدرسا في مدينة الهور في العراق. ذهبت إلى هناك فلم أستطع البقاء. كنت في مطلع العشرين فتركت وسافرت للجزائر وفرنسا ولدول عدة. وأنا أعتقد أن اليوم الذي أخذت به طائرة وغادرت العراق، هذه الطائرة هي القابلة لجنين جديد يولد، وهو الذي ترينه الآن كشاعر ودبلوماسي ولي عمل في العلاقات الدولية وكل ما استطعت فعله خلال الأربعين سنة. أنا لست ممن يتحدثون عن الغربة بمرارة، فأنا إحساسي بالغربة بجمالها وبتحدياتها، وكنت أشعر أنها في كل مرة تدفعني نحو تجاوز التحديات والحواجز التي أشعر بها. وكل المدن التي ذكرتها هي عبارة عن صفحات تحديات في كل مرة أدخل، وفي كل مرة أواجه مدينة جديدة. وأنا أعشق هذه المدن وأكتب عنها دوما بسرعة ما أتلاءم وأتواءم مع المدينة قبل أهلها، وهذا ما جعل لدي نوع من الخصوصية حتى ان صديقي الشاعر آلان جوفروا في فرنسا عندما قدمني في احدى الندوات قال كلمة صادقة ان 'شوقي عبد الأمير هو في بيته'، فعلا أنا لدي هذا الإحساس. فأنا في بيروت أو فرنسا أو في اليمن أو هنا في أبوظبي وغيرها.. أشعر أني في بيتي، ربما لأني أؤمن بالعمق. هناك قصيدة بابلية عظيمة، وهي عبارة عن أربعة أسطر، وأعتقد أنه لم يكتب مثلها في موضوع المنفى والغربة، وهي في حقيقة الأمر تؤسس لمفهومي لهذا الشيء. ماذا تقول هذه القصيدة التي ترجمها طه باقر ونشرت في مجلة سومر، وأعيد نشرها في مجلة شعر 69 في العدد الأول في بغداد، ماذا تقول؟ 'لقد نفتنا الآلهة غرباء حتى مع أنفسنا/ نجوش أزمنة الماضي والآتي دون قيثارات/ هكذا كان حكمنا الأبدي/ ورحلة بحارة يعشقون النبيذ'. أولا، المنفى لم يكن في المكان بل هي غربة النفس، وليس غربة مع الآخر. ثانيا نجوش أزمنة الماضي والآتي يعني الغربة في الزمان وليس في المكان، الأرض للإنسان وأن تنفى لبلد آخر، هذه أرض البشر وليس هناك مشكلة، اللغة تتغير هذه لغة البشر وتستطيع تعلمها، لكن المنفى الحقيقي هو أنك أنت موجود ولست حاضرا. واستعمل فعل تجوش، تجوس للأفكار وتجوب للخطى، أما تجوش أزمنة الماضي أي جالس تتأمل بما فعلت في الماضي والآتي، ماذا سأفعل في المستقبل؟ أي ليس له حاضر. والمنفى هو إلغاء الحاضر، ولهذا يمكن أن تجدي شعوبا كاملة تعيش على أراضيها، ولكنها منفية مثل العراق، الشعب العراقي منفي لأنهم صادروا حاضره. * هل هذا يعني مقاطعة للتراث؟ وكما تعلم الكثير من الشعراء تطرقوا لموضوع التراث ومقاطعته أو متابعة هذا التراث، أنت كشاعر مع أي نظرية تسير خاصة أنك تعمقت بشعرك في المكان، فمثلا كتابتك عن مصر وتاريخها؟ - علاقتي بالتراث علاقة وطيدة وأنا لا أؤمن بكلمة التراث. مثلا أنا قرأت لك الآن قصيدة عمرها 5000 سنة، وأنا أعتبرها معاصرة وأفضل من المعاصرة. وأنا أحفظ نصف قصائد المتنبي، وعندما أنفرد بنفسي وأحب أن أشدو أشدو قصائد المتنبي، وأنا أعتبرها معاصرة وليست تراثا. امرؤ القيس بنظري هو أعظم شاعر عربي، قصائده حاضرة. وكل النصوص التي كتبت في الأزمنة السابقة والتي تتواجد في ذهني أتعامل معها كما أتعامل مع قصائد السياب، مثلا، وغيره من الشعراء. فكرة التراث وكونها محجوزة ضمن حيز منغلق، وكأنها مزهرية قديمة نعتني بها، لا أؤمن بها. فالتراث حي، واليوم على أي حال الوطن العربي ككل أبطاله في الحياة هم أغلبهم منذ آلاف السنين، فأنا أذهب لبغداد وأرى صورة علي بن أبي طالب وكأنه مثلا قائد سياسي خرج من قاعة الاجتماع، أنا لا أسميه تراثا بل كتابة تمت في الأمس أو في الزمن القريب فقط. هناك فرق زمني، المكان بالنسبة لي هام، وقد كتبت قصائد عن بغداد تتعدى الأربعمئة صفحة. أما الديوان الذي كتبته عن مصر فلا يتعدى ستين صفحة، وكان هذا آخر ديوان لي. أنا أحب مصر القديمة والحضارة الفرعونية، وأعتقد أن الفراعنة حققوا إنجازات في العمارة والفن التشكيلي، وفي العلاقة مع الموت وفي أشياء كثيرة. لقد كانوا مذهلين، وأنا مسحور بهذا. المكان بالنسبة لي هو صفحة يجب اكتشافها، أي أن أي مكان أدخل إليه.. له أسرار ورموز وآثار.. وله لغة خاصة به، فأنا أقرأها وأعيد كتابتها بطريقتي. أعتبر أن الشعر هو إعادة بعث وكتابة لكل هذه الرموز، ففي أي مكان تدخلينه وتتأملين فيه ستجدين رموزا ومفاتيح ومفردات وأشياء كثيرة، هذه الأشياء ممكن أن تكتب شعرا وممكن أن تكون ملهما للشعر. * رؤيتك للنيل كهيكل عظمي، طبعا أنت تتكلم عن تاريخ بدء كتابة القصيدة، كيف ترى النيل اليوم.. وما يحدث في مصر وانعكاساته؟ - هناك سؤالان في هذا السؤال: صورة النيل كهيكل عظمي، تعلمين أنه في مصر كانت هناك مجاعات، وفي إحدى تلك المجاعات التي قرأت حولها كانوا يحضرون لزوجة الحاكم الطعام في طبق مخصص للأطفال. هذا المشهد أخافني من كتب التاريخ، وكتبت المشهد كما ذكر حرفيا دون أن أضيف عليه. المدينة الوحيدة في العالم المقبرة هي حي شعبي وتدعى الترب في القاهرة، وقد ذهبت وزرت قبور المماليك والتي هي عبارة عن بيوتات فيها غرف، وهناك أطفال يلعبون بين شواهد القبور لعبة الاختباء، وكأن هذه المدافن تشكل حدائق بالنسبة لهم كالحدائق التي يحظى بها الأطفال في العالم. هذا المشهد هزني جدا، وما زلت أراه. ولهذا تحدثت في مصر عما أسميه اللحظات القصوى التي قد نعيشها في العواطف والآلام، وأنا أدركت هذه اللحظة القصوى في مصر وكتبت عنها. أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك، أنا أعتقد أنه في مصر كما في تونس وفي الدول الأخرى التي عاشت مخاض ما يسمى الربيع العربي، أعتقد أنه تحقق كل بطريقته وبسيناريو بلده. إن مصر تحقق أول تجربة في تاريخ العرب، ففي كل مراحل تاريخنا نحن العرب لم نعرف الديمقراطية ونحن لا نفقه شيئا بالديمقراطية، نحن اليوم من هذه الأبواب ندخل إلى العصر ومعنا خلفية من الدمار والعنف والتخلف، كلها ستدخل معنا فلا يتصور أحد أننا سنخلع جلبابا ونلبس آخر في ميدان التحرير أو في غيره، فهذه عملية طويلة. أنا كتبت مقالا حول هذا لم أنشره بعد، وسيصدر قريبا أسميته العرب بين الديمقراطية والدينوقراطية. كلمة الديمقراطية مكونة من مقطعين: ديموس باليوناني القديم تعني (شعب) وكراتوس تعني (السلطة) أي سلطة الشعب هذه الديموس كراتوس. هناك سلطة أقوى منها وهي سلطة الدين. نحن اليوم لا نستطيع كشعب القفز على الدين كي نصبح شعبا يقود السلطة، فما زلنا أسرى الدين. لذلك سيمر الشعب في مرحلة الدينوقراطية كي يصل للديمقراطية. هذه التجربة موجودة في مصر والتي بها طرف ثالث وهو العسكر الذي حمى الثورة وساهم في إسقاط النظام السابق، لكن الآن لا نعرف ماذا يريد: هل يريد أن ينسحب ويترك أم يبقى. لا يمكن أن تستقيم ديمقراطية والعسكر يقود، فالعسكر يبقى في معسكراته ويحمي الدستور الذي يصوت له الشعب. * ماذا عن تأثيرات مصر على العالم العربي والثورات الأخرى؟ - مصر هي الأكبر تجربة، لكن أشك أن تكون الأكبر تأثيرا. ربما هناك آخرون يؤثرون بشكل أكبر لأن تجربتهم أقرب للآلية الناجحة وأكثر سهولة أيضا. لا يوجد بلد عربي بكثافة 80 مليونا. فيما يخص التحولات نحن ننظر لليمن ولسوريا كنماذج، إنما بهذا الصدد أود أن أقول كلمة خاصة: إنني اليوم أسمع في المجلس الوطني السوري وبحماس بتدخل الأمم المتحدة وعمل مناطق نفوذ محرمة، هؤلاء هم أصدقائي في باريس وأنا أعرفهم، كانوا أشد الناس عنفا في اتهام العراقيين بأنهم أتوا بالأميركان، وأن الأمر في العراق كان يجب أن يبقى عراقيا. وأنا اليوم أراهم يلهثون وراء التدخل في سوريا، وهذا الأمر يدفع المرء للتأمل وعدم التسرع في إطلاق الأحكام. أنا قلت لهم ان العراقيين وصلوا للموت مع صدام حسين، وكانوا سيقبلون بأي بديل له، ولم أفكر يوما بأن النظام السوري سيدفع السوريين إلى الموت ليفكروا بأن يأتي خلاصهم من الخارج. * هؤلاء الذين يعيشون في الخارج ويطالبون بالتدخل الأجنبي في سوريا، بعضهم يتلقى تمويلا خارجيا لتنفيذ غايات دول ومشاريع استعمارية، فهل يحق لهؤلاء أن يتحدثوا ويطالبوا بالتدخل الأجنبي؟ - المسألة لا يمكن إسقاط نظام دون التدخل الخارجي، وهذا حلم العذارى بالأمير. هذا الكلام ليس له وجود خاصة اليوم. في السابق عندما كان العالم مشطورا لعالم شرقي وغربي، كانت الانقلابات إما أن يحتضنها الاتحاد السوفييتي فتكون شيوعية، ماركسية، اشتراكية.. أو أن يحتضنها الغرب فتكون رأسمالية إمبريالية. اليوم الخارج هو الموجود ممثلا بالدول الخمس التي تسيطر على مجلس الأمن والتي تملك حق الفيتو، وهي التي تحل محل المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وهذه الدول هي التي إذا دعمت- مثلما حصل في ليبيا- التحول الذي يجري فإنه سيحصل بأي شكل، وإن لم تتفق كما هو الآن في سوريا لأن هناك اختلافا روسيا صينيا من جهة وأمريكيا فرنسيا وبريطانيا من جهة أخرى، فإن الدم في الداخل سيسيل لرغبة معينة. الجهات التي تدافع عن السلطة كروسيا والصين سيقولون لقد انتهى، عندها سينتصر الداخل. إذاً هي عتلة بين الداخل والخارج، ولا يمكن أن تكون بشكل آخر. * الشاعر شوقي بدأ بالقصيدة العمودية والتفعيلة، نظرتك الشعرية لما يوضع الشعر في هذه القوالب، كيف تنظر للقصيدة؟ - القصيدة قصيدة، فأنا بنظري لامرئ القيس اليوم أبيات مذهلة (سموت إليها) من من شعراء الغزل ذاهب إلى موعد غرامي يقول سموت إليها هذا امرؤ القيس (سمو حباب الماء حالا على حال). هذا شاعر معاصر، هذا امرؤ القيس أول شاعر عربي. هناك قصيدة للسياب تسمى (أم البروم) وقد أبكتني عندما قرأتها. وأم البروم هي مقبرة في البصرة يريدون إزالتها لإقامة حي مكانها، فجاء السياب يرثي المقبرة والموتى الذين يريدون إزالتهم. هي قصيدة مذهلة، أنا أكاد ألغي كل الصفات في الشعر فلا قديم ولا حديث وأجنبي ولا عربي ولا تفعيلة ولا نثر، فكل الصفات تسقط أمام القصيدة. * علاقة القصيدة بالموسيقى والشاعر والشعر بالموسيقى؟ - هناك نوعان للموسيقى: موسيقى تفعيلية دعينا نسميها النوطات، حيث جاء في يوم من الأيام الفراهيدي الخليل بن أحمد وكتب لنا 18 نوطة وأعطانا إياها، وهذه المسألة غدا لها 1300 وبعد 1300 سنة جاء أشخاص وقالوا دعونا نفكك هذه النوطات ونوجد نوطة خاصة بكل قصيدة، فغدا هناك نوع خاص من الإيقاع لكل قصيدة، أي انتقلنا مما يسمى بالنوطات الحرفية إلى ما يسمى بالموسيقى إيقاعات. أنا أؤمن أنه في كل قصيدة ناجحة هناك نجاح لشكل موسيقي ما، وليس بالضرورة أن يخضع لفعولن ومستفعلن، ولكن هو توزيع موسيقي خاص بالمفردة. وأنا أحيانا عندما أقوم بكتابة القصيدة أحتاج لتوزيع خاص، فأضع في سطر كلمة واحدة عندما أعتقد أن هذه الكلمة لا يجب أن يوضع قربها أي كلمة، وأحيانا أضع ست كلمات. هذا التوزيع، وهذه الحرية التي يمنحها الشعر الحديث للشاعر مهمة في إعادة التوزيع الموسيقي، ولكن عندما نقول موسيقى يجب أن نفرق بين التفعيلة والموسيقى بالمعنى العام، لأن التفعيلة بحد ذاتها موسيقى وقد تطرب الناس. * أستاذ شوقي، جائزة نوبل طموح يتطلع لها الكثيرون، ولكنها حجبت من أيام نجيب محفوظ عن العرب، هل الشعراء العرب سيطول انتظارهم لهذه الجائزة؟ والشاعر شوقي هل يشغله هذا الهاجس؟ - جائزة نوبل مقصرة بحق الشعر العربي، وأنا قلتها منذ أيام اختيار نجيب محفوظ ليس لأنه لا يستحقها.. لا، ولكن يجب أن يكرم الشعر قبل النثر، لأن الشعر هو الإنتاج الأعظم في التاريخ العربي الأدبي. فإذا أردنا أن ننصف أهم الإنتاجات الإبداعية عند أمة ما سنأتي إلى الشعر، وأولا عند العرب. وإعطاء الجائزة إلى روائي، أعتقد أنه هو بداية التجاوز على الشعر. ولكن حسنا، وقد أخذها نجيب محفوظ وهو كاتب بقامة كبيرة يستحق ذلك. لكن لمَ لم يأخذها شاعر عربي حتى اليوم؟ هنا تقصير وتسييس كبير وهناك شعراء بقامات كبيرة مثل درويش وأدونيس وسعدي وكثيرون غيرهم، وهذا تقصير ثاني. التقصير الثالث وهو الأخطر، هو منح الجائزة لعربية وأنا أجد في هذا هرب من السؤال والحرج لماذا لا تعطى إلى عربي آخر فاختاروا يمنية ثائرة، وهي تستحق. ولكن أتمنى أن لا يكون قناعا لكي يقال لقد أعطيناها لعربية فانتظروا لعشر سنوات أخرى! بالنسبة لي أنا لا أفكر بالجائزة في الوقت الحاضر وأفكر فقط أنني أعيش وأكتب وجائزتي الكبرى هي أن أواصل سيرورة العشق والإنتاج والعمل والإبداع. * سؤالي الأخير عن تقديمك الشعر باللغة الفرنسية، وأين تجد المتعة هل هو عند إلقائك الشعر بالفرنسية أم باللغة العربية؟ وأين تجد نفسك هل هو عندما تكتب الشعر باللغة الفرنسية أم باللغة العربية؟ وما هو جديدك إن كان في الشعر أو في الأدب عامة؟ - أنا شاعر عربي بالصميم، بمعنى أن الشعر منطق يستند إلى حساسية وروح اللغة. وبهذا المعنى فأنا لا أكتب إلا باللغة العربية، حتى لو كتبت باللغة الفرنسية فمنطقي يبقى عربيا. اللغة الفرنسية علمتني كيف أنظر للغتي العربية بشكل حاد وقاس وأشذبها من مرآة اللغة الفرنسية، وهي مرآة دقيقة اللغة لا تقبل الحشو ولا الإطناب والإفراط والنعوت والاستعارات المترهلة. لقد استفدت منها في تشذيب لغتي، اكتشفت أن اللغة الوحيدة في العالم التي بها ثرثرة بمعنى ما وحشو بمعنى ما هي بلاغة اللغة العربية، والإطناب بلاغة. كل هذه الصفات المتكررة بمعنى واحد ومتقارب نسميها إطنابا وجناسا وطباقا، وكل هذا حشو في المفهوم النقدي العميق. فأنا أحاول أن أزيح هذا من لغتي، لذلك مرآة اللغة الفرنسية ساعدتني أن أشذب لغتي العربية. وكما يقول العرب من في وسط المعركة لا يرى أطرافها، فخروجي من اللغة العربية إلى لغة أخرى جعلني أنظر للغة العربية من الأعلى، فرأيت مواطن قوتها ومواطن ضعفها بالنسبة لي. فمواطن الضعف أحاول أن أزيحها، ومواطن القوى أدعمها. ومن هنا اكتشفت أن اللغة العربية أعظم لغة، فهي لغة لها خصوصية فهي لغة فعلية، فالفعل حاضر بنسبة 60 بالمئة بها. والتكلم بفعل هو تكثيف، وهو استعمال الزمن وهذا ثراء كبير. بالنسبة لجديدي، لدي ديوان جديد أعتقد أنه في طور الاكتمال، ولدي كتاب أعده هو مقالاتي النثرية التي تصدر في مجلة 'الغاوون'. هذا الكتاب عبارة عن مقالات نقدية وسيكون عنوانه (جهة الصمت الأكثر ضجيجا) وهو عنوان العمود الذي أكتبه، والديوان الذي لم أجد له عنوانا بعد. * العناوين التي تختارها لعملك تكون دوما متميزة ونلحظ أنها تستمد من المكان أو من النص نفسه، كيف تختار العناوين لأعمالك؟ - العنوان بالنسبة لي ليس حالة طارئة من الخارج، فهناك بعض الشعراء يكتبون ديوانا باتجاه معين ويبحث عن كلمة أو صورة مضيئة ليضعها. بالنسبة لي يجب أن يكون العنوان له علاقة بالديوان كديوان، مصر مسلة مصرية فيها أربعة وجوه أضفت لها وجها، فهذا من صميم العنوان وكذلك بالنسبة للعناوين الأخرى. فعندما دخلت العراق، ديواني أسميته (مقاطع مطوقة) وكنت أركب في سيارة مصفحة حيث رأيت حالة من التطويق لكل شيء فقلت هذه القصائد التي أكتبها ستكون مطوقة. كل عناويني أستنتجها من حياتي، من الديوان ذاته. ديوان المكان الذي نشرته هو عبارة عن قراءة للأمكنة. ديوان (الاحتمالات) كل قصيدة كانت احتمالات، العنوان جزء لا يتجزأ من الديوان وليس عبارة عن لافتة جميلة تلصق على الديوان مثلما يحدث مع الكثيرين.
|