... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
نقد الدولة العراقية : نظرة وداع أخيرة ومرثية موت معلن!

سهيل سامي نادر

تاريخ النشر       08/04/2012 06:00 AM


تنويه
باشرت كتابة هذا الموضوع بعد الاحتلال مباشرة ، ونشر في بداية الشهر الثامن من عام 2003 . إنني شاهد على ما حلّ ببلدي على يد المحتلين ، لكن ما يفعله محتل ليس غريبا ، الغريب أن مؤسسات الدولة التي رفع عنها الحماية تركت نهبا وحرقا بيد اشقياء ابناء البلد من البروليتاريا الرثة وقوى ما قبل الدولة المليئة بالاحقاد والجائعة الى السلطة ، وهي اليوم تمتلكها من دون ان تستطيع بناء دولة ، بل إنها راحت تقوّض أي عملية بناء جدية بالتضافر مع قوى الارهاب . بالرغم من ذلك كنت ارى ان نقد الدولة العراقية القديمة هو قاعدة كل نقد جدي ، وهو نقد تلك الانظمة التي ركبت الدولة وحوّلتها الى مطية كذلك ، كما هو نقد القوى السياسية التي اسهمت في تقويض كل منجزات شعبنا طيلة الـ 82 عاما من عمرها . إن اولئك الذين ذهبوا سريعا الى الانتخابات ، وكتبوا الدستور في ظروف كان فيها الشارع قد سلّم الى الارهابيين ودبابات الاحتلال وظلام الليالي المخيفة بسبب انهيار منظومة الكهرباء ، واصلوا ممارسة الاخطاء وابتزاز بعضهم للبعض مؤسسين نظاما سياسيا مخترقا من الفاسدين واعداء الديمقراطية. إن بعض النتائج التي توصل اليها هذا المقال القديم تأكد صحتها كما أرى طيلة هذه السنوات المتعبة!
-------------------------------
 
لماذا نقد الدولة العراقية الآن ؟ لأنها غادرت الميدان، ماتت، ولم يعد يظهر منها غير صورتها الواهنة الأخيرة، غير هزيمتها وموتها السريع. لكن علام القيام بنقد ميت ؟ لأننا يجب أن نشيعه إلى مثواه الأخير. ومثل حالة الأموات الكبار المهمين، نحتاج إلى أن نلقي نظرة أخيرة عليهم، أو نلقي خطاباً جنائزياً نعدد فيه مناقبهم. والحال أننا أزاء حالة فريدة من الموت ذهبت الدولة إليه بأقدامها، ممارسة آخر عروضها المثيرة، لكأنها في واحدة من معايير السخرية، قامت بنقد عملي يتجاوز كل نقد. وسواء اختارت هذا المصير لنفسها أم دفعت إليه دفعاً ثم تبنته فقد كانت تشعر بالذنب، مدركة بأنها إزاء مساءلة  حاسمة لن تنجو منها. لقد غادر رجال الدولة الأقوياء مواقعهم إلى بيوتهم أو ملاجئهم، وشعارات القتال وأناشيده لم تحرك أحداً، والقوة العسكرية الضخمة لم تقاتل، والحزبيون المدججون بالسلاح تسللوا، وفجأة اختفى كل شيء، كأن الدولة ما عادت غير هشيم من الورق شبت فيه النار واستحال إلى رماد ودخان. أية ممارسة نقدية أكبر من هذه؟ وما الذي تملكه الكتابة من فعل غير أن تقود ذلك النقد العملي إلى نهايته، وذلك بإصدار شهادة وفاة، ثم الذهاب بعيداً، أو عميقاً، لفهم هذه النتيجة بكل ما فيها من عار؟
قد يرى البعض أن هذا الموقف سلبي أكثر من المعتاد، ولاسيما في ظروف جرّب الناس فيها الأذى من جراء غياب الدولة، وفي ظروف احتلال أجنبي بات فيها وجود الدولة بوصفها مؤسسة وطنية علامة على قوة توحيد شعبية مهما كانت قدرتها الفعلية، وفي الشروط البائسة الممنوحة لنا اليوم في التفكير بعودتها أو بإعادة بنائها. لكننا نمتلك خبرة تاريخية مقترنة بتجربة عينية تفيد بأن موت هذه الدولة لم يتقرر في الميدان العسكري فقط ، بل في جميع الميادين التي كانت تقبض عليها بيد من حديد أيضاً، وضمن مسارها التاريخي كله. إن آخر مشهد من حياة الدولة العراقية يشير إلى أن جميع المفاصل ما بينها وبين النظام السياسي كانت قد ألغيت، من هنا رافق سقوط النظام السياسي سقوط الدولة أيضاً. وكما سوف نلاحظ، فإن إلغاء المفاصل هذا، بالأحرى ذلك التماهي الجذري الحاصل ما بين النظام السياسي والدولة، لم يكن حقيقة عارضة، بل كان نتيجة  لعملية سياسية وئيدة استطاعت فيها النخب السياسية المهيمنة أن تستخدم الدولة لمنافعها الخاصة، ومن ثم قامت بتقويضها من الداخل.
إن دولة اشتغلت وتحددت بقوة اجتماعية تعود إلى عهود ما قبل الدولة هي دولة متخلفة، منقسمة، متآكلة، افتراضية، فقد ادعت أنها دولة حديثة ولم تكن كذلك، وادعت أنها إسلامية ولم تكن كذلك، وادعت أنها قومية ولم تستطع أن تبرر ذلك بغير الشعارات. إن الدولة التي ماتت أمام أعيننا لم تكن تحمل أي تفويض من المجتمع، لكنها ادعت أنها تمثله، وتمثله إلى حد أنها عرضته إلى الكوارث التي سعت إليها. هناك أيضاً مغامراتها، وطيشها، وعدم استقامتها، وعداوتها الدائمة للمجتمع، وتحطيمها المتكرر لكل تراكم  للخبرة والتنظيم والمعرفة.
إن لموت الدولة تاريخاً سياسياً قديماً، يكاد يماثل ورماً خبيثاً لا دواء له، ظل يصدر دماً وقيحاً، وبهذا فإن أذى موتها المأساوي على المجتمع ليس منفصلاً عن أذاها عندما كانت تستمتع بالحياة، مغرورة، غبية، راكبة المجتمع في زواج قسري أريد له أن يكون أبدياً.
لقد كان من نتائج هذا الموت الانعتاق والفوضى: الانعتاق من نير دولة صادرت الموارد الوطنية وحرية الإنسان، والفوضى الناتجة عن أول اختبار للحرية جرى في ظل احتلال أجنبي لم يقم بواجباته طبقا للاتفاقات الدولية، كأنه تآمر معها للإجهاز على ما تبقى. وعلى نحو ما، اتفقت الأسباب والنتائج على تحطيم البنى التحتية للدولة، أي تحطيم ما تبقى من مجدها ومواقعها الإدارية الثابتة التي كان يجري بوساطتها التحكم والسيطرة بالمجتمع.
لكن ما بين الحرية والفوضى كانت الدولة بماضيها القمعي، ورمزيتها الشمولية، حاضرة في النتائج. كانت شبحاً متخفياً في الأركان والزوايا، وكانت حاضرة في الأسرار القديمة المودعة في الضمير الشعبي، وفي الإحساس المتعب بانعدام السند والخوف من القيام بعمل مستقل، والشعور بالحرية بوصفها حالة مأساوية وليس حالة تدعو للاحتفال والتهليل.
لقد ماتت الدولة ولكن ما صنعته ظل يحوم فوقنا كطائر شؤم، فالتماهي الكلي ما بين النظام السياسي والدولة ظل يفعل فعله في قصور ذاتي مخيف ، ولأنه لم يدافع أحد عن النظام واصل هذا الموقف عمله إزاء الدولة أيضاً، فما من أحد وقف معها في محنتها. لقد تركت وحدها، بمؤسساته وأبنيتها وأرشيفها واقتصادياتها وإنجازاتها المهمة، وتعدى ذلك إلى الآثار والممتلكات والصروح الثقافية، أي بما تملك وما لا تملك، جميع ما صنعه الناس بأيديهم وعرقهم، وكل ما يعود لنا وللجميع، تحت عواصف النهب والسلب والتدمير والحرق المنظم.
من كان يستطيع الدفاع عن الدولة الوطنية غير مواطنين أحرار؟ لكن لم يعد هناك مواطنون بل مجرد رعايا. ما من تنظيم للمجتمع المدني حتى ولو كان بسيطاً كان يستطيع الدفاع عن بقايا الدولة الوطنية ولا عن الميراث الثقافي للعراق، ولا عن إنجازات عشرات السنين المضنية في الصناعة والزراعة والإدارة والصحة والثقافة والعمل. المجتمع الذي تحكمت به قوى الاستبداد ظهر مجموعة من أفراد منعزلين همهم الوحيد الدفاع عن حياتهم.
وثمة مفارقة هاهنا، فهذا المجتمع الذي طالما سيّس، ظهر عند ساعة الحقيقة بلا سياسة، لأنه ببساطة لم يعد يمتلك مقومات المجتمع السياسي المعاصر، فهو بلا أحزاب ونقابات وجمعيات وروابط وهيئات مستقلة، بلا تنظيمات مهنية وحرفية تستطيع أن تجترح  مبادرة، وإن هي وجدت فقد كانت قد اختزلت إلى مجرد ملحق تافه بالنظام السياسي.
ترى من كان قادراً في هذه الشروط المدنية المزرية، على الدفاع عن الدولة ومكتسبات شعبنا فيها، فضلاً عن صروحنا الثقافية وآثارنا التي تشكل واحدة من مصادر ذاكرتنا الوطنية الجمعية؟
كان التنظيم الوحيد القادر على العمل المدني هو حزب البعث، لكن هذا الحزب أضحى أداة ضاربة بيد النظام السياسي، من هنا لم يقم بمبادرة مسؤولة حتى على مستوى الأفراد، وضمن إطار وطني عام.
إن من غيب طويلاً آثر الغياب، وهو مجتمع بكامله، ظهر من دون حيلة، وجهه على الجدار مفزوعاً مما يرى، ومن شروط تحكم فيها المجهول والغياب.
الطبقة الوسطى حاضنة المثقفين والمتنورين أزيلت وأضحى حالها حال الشغيلة، مهانة، يعمل أفرادها ليل نهار من أجل تأمين الخبز.
الطبقة العاملة صدر قرار بتحويل أفرادها إلى موظفين، في محاولة لعزلها عن تاريخها المجيد، وكأن اسم العامل أضحى عاراً، ثم ختم على وعيها الطبقي بالشمع الأحمر، وتنظيمها النقابي بات ملحقاً هزيلاً بمكاتب الحزب المهنية.
المثقفون من كان منهم مع السلطة غصباً أو لمنفعة، ومن آثر الصمت والانزواء مارسوا جميعاً الثقافة الوحيدة المتاحة ألا وهي ثقافة إزجاء الوقت.
لكن ما كان هناك وقت أبداً. لقد انتهت اللعبة.
فهذا الوقت الألعباني، السائب من طرفيه، الثقيل والخفيف، كان قد انزلق إلى مدار آخر، وحلت محله جلجلة التاريخ، وقعقعة الأسلحة، وآلة الثرم المأساوية، فتساوى الجميع في الخوف، ولم يعد بالإمكان إنقاذ شيء.
لقد طوفت النتائج الكارثية التي صنعتها الدولة- النظام بيديها في الشوارع، فما أن اختفت حتى استولت القوى الرثة على مؤسسات الدولة تنهب وتدمر من دون شفقة ولا رحمة. ترى من هؤلاء الذين نهبوا مؤسسات دولتهم ومن أي جحور وأوكار وبيوت خرجوا؟
لا تغرنكم السوسيولوجيا الشائعة التي تضع الأسباب في كفة الفقر وحده. فلم تسجل في العراق حالة مجاعة من الطراز الإفريقي، ولم تقم في العراق الثورات والانقلابات من دون أن يكون للعامل السياسي كفة الرجحان فيها!
الدولة العراقية طوال حياتها لم تحل المشكلة السياسية، قادتها أسود وثيران هائجة، بلا ثقافة سياسية، بلا ميراث ديمقراطي، بلا مجتمع مدني يلجم تطرفهم. وحدها الأزمات السياسية الخانقة تجعل منهم ثعالب، والثعالب تعود إلى ديدنها.
لقد اخترقت المشكلة السياسية المشكلة الاجتماعية وحولتها إلى مشكلة سلطة. لم تعد التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية تعمل بمقتضى الصيرورات الموضوعية بل بمقتضى إرادة سلطة تجريبية وضعت نفسها فوق الجميع.. سلطة تمسكت بالسلطة وجعلت من المشكلة السياسية معضلة غير قابلة للحل، من هنا كانت الأزمة شاقة وعسيرة، والانحطاط البنائي أضحى حتمياً.
والآن فإن الفقر والغنى مؤكدان، لكن في كفة الميزان الأخرى ثمة ما يعادل ويزيد على الفقر والغنى، كانت اللاشرعية المطلقة هي الغالبة.. اللاشرعية التي سادت  الميدان السياسي لعقود وألغمت حياة المواطنين بالكراهية والحقد. إن من قام بالنهب والسلب وحتى المتفرجين كانوا مشدودين إلى مسغبة سياسية واجتماعية طحنت الجميع وولدت وليمة انتحارية أقيمت على شرف دولة مهزومة غادرت الميدان. لقد حصدنا ما زرع في الجسد العراقي من أمراض: تفكيك البنى المستقرة بسياسات تجريبية مرتجلة، حروب فاشلة لم يحصد منها غير الدمار والعار، الخطب الأخلاقية اليومية التي يكذبها الواقع، حملات الإيمان التي تغطي على عدم الإيمان، نظام الامتيازات غير المستند إلى الكفاءة المهنية والأخلاقية، الفساد والرشوة المنتشرين في الأجهزة الإدارية والجيش، استخدام التاريخ لتبرير مفاهيم تاريخية، الصراع الطبقي الذي جرى في شروط مهلهلة فأضحى حسداً وحقداً، غياب مؤسسات المساومة الاجتماعية السلمية، الإفساد المتعمد، اللاعقلانية الجذرية في السياسة والاقتصاد والثقافة.
 
ما الذي نتج عن هذا كله؟ سيظهر المهمشون وفقراء الريف المهاجرون إلى المدينة، أغنياء الكوارث والاحتراقات الاجتماعية وأصحاب الصفقات المشبوهة الذين شكلوا عصابات اقتصادية، الأغنياء الجدد الذين مارسوا السرقة من أغنياء النظام وكانوا شركاء لهم، اللصوص والمجرمون الذين أطلق النظام سراحهم في الوقت المناسب كما لو كان يتوقع دورهم المشؤوم، ثم الأجهزة السرية التي تعمل في الخفاء.. هؤلاء جميعاً نقلوا العدوى لجماعات لا تمتلك قيماً أخلاقية واضحة استدخلت في وعيها أن الوليمة مفتوحة ولا تعدو توزيع حصص ما كان النظام قد منعها عنهم.
إنه اشتباك مأساوي بين النتائج والبقايا والسياسات والأخلاقيات. فهناك منع جذري بينما هناك كرم سفيه، ثم الفقر والغنى مرة أخرى، لكن بازدواج دلالي مثير، فالفقر المادي سوف يزدوج بالفقر الروحي، والغنى المفرط بالفساد الأخلاقي، وعلى هذا النحو سوف تحلّق المشكلة الأخلاقية أعلى حتى من النتائج والعمليات السياسية لترفرف فوق قلعة الدولة / النظام المهدمة.
لنتذكر أن الدولة / النظام  قدمت أمثلة على أخلاقياتها العدمية بقيامها بالنهب المنظم في إيران والكويت، ثم بنهب العراقيين في آذار، فأية أمثلة سيئة قدمت على السلوك الحضاري والأخلاقي؟
لقد كانت أفكار التفوق الحضاري للإنسان العراقي، والعمق الحضاري للعراق، والعراقيون الذين علموا العالم الكتابة والقراءة والقانون، وغيرها من الأفكار السامية والمثالية، هي من المواضيع المقررة في الخطب الرسمية والجعجعة الإعلامية، بينما كانت آثار المسروقات والدم المسفوح يترك شرخاً أخلاقياً في الوجدان الشعبي. لقد ترك عاراً، وألماً، وشعوراً بالانحطاط الروحي الذي ولد بدوره إحساساً دينياً عميقاً بوعد الكارثة والانتقام. لقد لطخت الدولة التي ركبها الشيطان شعبنا بالعار. فمن كان ليدافع عنها، ومن كان ليقدر على تفادي تحطمها النهائي؟!

****
                       
تختزل اللحظة الحاضرة لموت الدولة صيرورة كاملة من الانحطاط البنائي والوظيفي لجسدها.
لكن اللحظة الراهنة مستعصية على التحليل في ضوء المستقبل، فهي معاشة في ضوء هذا الموت المعلن، وفي ضوء ميزان قوى غير متكافئ، ولأن اللحظة الراهنة لا تني تنزلق باتجاهات عديدة في آن.
توجد صور عديدة للدولة العراقية بدت فيها من القوة والمنعة بحيث أن المصير الذي لحق بها يكاد لا يصدق، لكن إذا أمعن النظر بهذه الصور جيداً لوجدنا صيرورة من الدمار الذاتي والأحداث المشؤومة أوصلتها إلى لحظة التأبين هذه. فلهذا الموت المعلن تاريخ قديم بدأ من يوم ولادتها قبل 83 عاماً. لقد تسلمت كل مرحلة من المراحل السياسية التي مر بها العراق سيئات المرحلة التي سبقتها، ومع التشهير وأعمال الدعاية السيئة حلّت آلاف المشكلات ضمن أفق سياسي محدود وثقافة لا ديمقراطية ولدت بدورها آلاف المشكلات الأخرى. وخلال عمرها أنجزت الدولة العراقية أعمالاً باهرة في ميادين الاقتصاد والزراعة والصناعة والري والتعليم والصحة والخدمات العامة، لكنها في الميدان السياسي والتنظيم المجتمعي القائم على وحدة المجتمع السياسي المتجلي في تنظيمات المجتمع المدني فكان أداؤها كارثياً، من هنا كانت تبدد وبحماقة جميع ما أنجزته، وتفكك علناً نسيج المجتمع العراقي المتكون من أطياف وقوميات متعددة.
لقد عملت الدولة الدستورية الملكية إلى حماية نفسها من مجتمع وطني مفكك ورثت مشكلاته من الدولة العثمانية المنهارة بدلاً من إعادة بنائه على أسس حديثة، ما جعل قضايا الأمن الداخلي وأعمال الهيمنة السياسية والسلوك التآمري هي الظواهر الأكثر بروزاً في الحياة السياسية. وفي ما عدا النظام البوليسي الذي كان نسخة من النظام البوليسي للدولة العثمانية، دعمت الدولة نفسها بتنظيمين، الأول اجتماعي اقتصادي متخلف يتعارض مع مبدأ المجتمع المعاصر، وهو النظام الإقطاعي، والثاني مرتبط بمبادئ السيادة وحماية الدولة والمجتمع من أي تدخل خارجي، ألا وهو الجيش. ولقد جاء مقتل الدولة الدستورية من هذين التنظيمين، ولاسيما أن الدولة قامت بالمقابل باحتقار الإرادة السياسية للمجتمع، وتحطيم أية إمكانية لبناء مجتمع مدني يستطيع أن يعينها من خلال نظام تساومي معترف به من المجتمع، وفي إطار عملية ديمقراطية شاملة تمنح النظام الدستوري الشرعية والانتظام والمرونة.
الأمر المثير أن الدولة الدستورية هي التي صنعت جيشها، وأعدته على نبض مخاوفها من المجتمع، وبملاكات قيادية عثمانية الطراز والتقاليد، وكان المسيسون منهم، حتى في أفقهم الوطني، لا يمتلكون ثقافة ديمقراطية، حالهم حال السياسيين الذين دافعوا عن الدولة الدستورية بوسائل المكر السياسي والعنف. إزاء ذلك فضلت هذه الدولة أن لا تتغير على الرغم من العواصف السياسية والاجتماعية المطالبة بالتغيير. وبانتفاء إمكانية التغيير من الأسفل، أو من خلال تنشيط العقد الاجتماعي بين الدولة الدستورية والمجتمع، فوض الجيش نفسه للقيام بهذه المهمة، مقوضاً بهذا شرعية لم تقم بواجبها الوطني إزاء المجتمع.
منذ ذلك الحين لم يعد الاستقرار السياسي للعراق، إذ قامت سلسلة من الانقلابات ادعت في برامجها ما لا تستطيع تحقيقه، مشيعة حالة من الاحتراب السياسي العنيف بين القوى السياسية محطماً إياها الواحدة تلو الأخرى حتى وصل المجتمع إلى لحظة بونابرتية من النوع الفاتر انتهت بمجيء البعث عام 1968 الذي قام بمهارة بتجديد الدولة بوسائل العنف والهيمنة والانفراد السياسي بالسلطة.
لقد أنهك المجتمع بالاحتراب السياسي الداخلي والحروب الخارجية والعنف الذي استهدف الاحتفاظ بالسلطة، فما عاد المجتمع قادرا على حماية نفسه والدولة، وما عادت الدولة قادرة على حماية نفسها والمجتمع، وفي النهاية قامت الدولة / النظام التي طالما أسمعت زمجرتها المخيفة بتسليم الوطن إلى الاحتلال الأجنبي على نحو سافر لا مثيل له، حتى من دون وثيقة تستطيع بها أن تنظم علاقة ما بالمحتل طبقاً للاتفاقات الدولية وتحمي على هذا النحو أو ذاك الأمن الاجتماعي وما تبقى لها من رصيد مؤسساتي، كما حصل في اليابان وألمانيا، لكأن دولتنا المهزومة لم تكن دولة بل عشيرة سحقت من عشيرة أقوى منها في سالف العصور والأزمان.
سوف أعود في مقالات أخرى لتقديم براهين أكثر تفصيلاً عن النظم السياسية التي قامت بركوب الدولة في مختلف المراحل وحولتها إلى شريك متواطئ لينتهي بنا الأمر إلى لحظة التأبين هذه.
إن هذه اللحظة المعاشة بالقلق والتوتر والمفتوحة على احتمالات عديدة تلقي ظلالا من الشك والريبة على مستقبلنا السياسي وآمالنا في انطلاق عملية بناء ديمقراطي شاملة. فهاجس الأمن والخوف من المستقبل يذهبان بنا إلى سلوك كان يعمل أيام الدولة البائدة. إن شبح هذه الدولة يظهر إلى الوجود مرة بوصفه عقاباً، ومرة بوصفه تذكيرا بأهمية أن تعود حتى لو كانت تعرج، حتى لو كانت مسخاً. إن العملية السياسية المتصلة ببناء الديمقراطية تراجعت إلى الخلف وحلت محلها مشكلات الحياة الأساسية، مثل توفير الأمن والغذاء وخدمات الماء والكهرباء والصحة. والمشكلات الأخيرة بواقعيتها الفورية ترجمت سياسياً بضرورة خلق السلطة بالمعنى الإداري والفني الضيق، وبهذا لنا أن نتوقع حصول سلسلة من التقاطعات بين البرنامج المعلن الذي ترفعه الأحزاب الوطنية والقاضي بتأسيس حكومة وطنية ائتلافية، والطريقة التي تعمل بها قوات التحالف والاميركان والتي اختزلت العملية السياسية إلى مجرد تنسيقات في إطار سياسة العلاقات العامة، والمطالب الشعبية المتأرجحة ما بين الحدين الأدنى والأقصى. وإذا أخذنا بالحسبان ميزان القوى الحالي، والشعور بالمخاطر من وجود قوى غير ديمقراطية قوية، فإن قضية التحول الديمقراطي الشاملة قد تدخل في أفق التسويف والتأجيل والمشاورات السياسية التي نتوقع أن تناقش ما يظهر على السطح دون النظر إلى البنى. 
إن المعادلة السوسيولوجية لم تتغير بعد لصالح أفق التغيير الديمقراطي الشامل، وباختزال العملية السياسية إلى قضية سلطة بالمعنى الضيق، فإن العمل السياسي يمكن أن يراوح في المواقع القديمة التي كان يراوح فيها، والأفق الديمقراطي قد يتقلص إلى موضوع ثقافي غير منتج. وهكذا نرى أن ثقافة الدولة - النظام التي نؤبنها ها هنا ما زالت تمتلك القدرة على الحياة. لذا يجب أن نغادر لحظة التأبين هذه إلى ممارسة نقدية شاملة للماضي كله. 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سهيل سامي نادر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni