... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
باربي ربانيّة!

تاريخ النشر       28/08/2011 06:00 AM


"احذر مسيلمان!" يقول أبي الكادح البسيط، شبه الأمي، الذي لم يعرف من العالم سوى التحرك في مثلث الموت الذهبي: البيت، العمل، المسجد. هو يسمّيه مثلث الحياة. أنا وفرويد وفولتير نسمّيه مثلث الهروب من الحياة: بستان كانديد، وألهية فرويد التخديرية، والغرق القدري في لجج الحياة، كما عشته ورأيته بنفسي.

"احذر مسيلمان!" يختتم أبي نصائحه الثمينة بهذا القول، الذي يشبه الحكمة البسيطة، العامية، البليغة، ولكن المحيّرة. كان يستخدم حكمته، بعد أن يكسيها قدرا مميزا من الدعابة والمحسنات البديعية اللفظية، السجع غالبا، لكي يجعل رنينها مخالفا لوقع الجملة اليومية المستهلكة. كان يستخدم حكمته تلك في المواقف الحاسمة كافة: البيع والشراء، المواثيق، عقود الأمان، التعامل اليومي، وحتى الخلافات العائلية، وأحيانا يطبّقها على الأحداث السياسية والأحداث الدولية، عدا الخلافات مع النظم الشيوعية. في هذه الجبهة تحديدا يتوقف مفعول الحكمة السحري. فالشيوعية، العدو الوحيد والأخير في قائمة أعداء أبي القصيرة جدا، كانت خصما لا يقبل المساومة، لا تسري عليها قوانين الحكم والأمثال، الصالحة والطالحة.
كنا نحن، أبناء الزمن العراقي المريب والدائري، المتوازن ظاهريا، المشحون بالريبة والعداوات داخليا، ننظر الى تلك الحكمة "الغريبة المتناقضة"، نظرة "غريبة متناقضة"، فيها قبول استسلامي وتساؤل فكاهي غريب ومتناقض. فيها تلذذ وراثي، ودهشة مكررة تكرارا دائم التشويق. حتى أننا كنا، في نهاية الأمر، نتركها تذوب في المحيط الاجتماعي "الغريب والمتناقض" الذي أنجبها، ولسان حالنا يقول: منه أتت واليه تعود.
"دير بالك من مسيلمان!".
نتساءل ببراءة: "ماذا نحذر من مسيلمان؟"، فيأتينا الجواب عن هذه البراءة المشاغبة مطلقا وباترا، لا يقبل التأويل: "كل شيء. وكل شيء تعني كل شيء، أي كل شيء".
"لماذا؟".
هنا يحضر الجواب التاريخي الأعظم. الجواب الأكثر وضوحا وصراحة، الذي فسر للبشرية عبر العصور معضلاتها الكبرى: صمت مقرون بابتسامة غائمة.
الابتسامة تأتي محيّرة، غريبة ومتناقضة أيضا، لا يعرف المرء إن كانت ابتسامة حكمة أم كانت مكرا ودهاء، أم شفقة، أم جهلا! أمّا الصمت فهو لحن فطري، يكاد يشبه مؤامرة تنسج ضد ضجيج الخطايا، لا يسمع فحواه سوى المعصومين.
ليس يسيرا على طفل أن يرى أباه يخطئ، حتى لو كان هذا الأب جاهلا، وحتى لو كان الخطأ تعبيريّا محضا. لأن الخطأ يحمل في جوهره ما يتعارض مع الأبوة، موقعا، وصفة، وعنوانا. في "الأخوة كارامازوف" جعله دوستويفسكي يتعارض مع منطق الحياة. حين أهين الأب أمام أبنائه، صعدت الإهانة في أعين الأبناء الى مستوى تدميري جبار يزلزل الوجود العاطفي الفردي، ويكاد يلغي معه معنى الوجود الإنساني العام.
"دير بالك من مسيلمان!".
التشكيك في الإسلام والمسلمين، الذي علق في ذهني لم يستمر طويلا. في منتصف مرحلة الدراسة الابتدائية، وفي درس حروب الردة، في معركة عقرباء، أو حديقة الشهداء تحديدا، سقط النبي الزائف مسيلمة، فعرفت أن هناك فرقا كبيرا بين نبي ونبي، بين نبي مسلم ونبي متأسلم، بين الصادق الأمين والداعية الكذاب. منذ تلك اللحظة تصححت صورة أبي المختلة دينيا وتعبيريا: إطلاقه تعبير "مسيلمان" على المزور واللص وعديم الوفاء وفاسد الضمير. لكن ذلك الإيضاح الضروري لم يصحح في وعيي صورة المسلم المختلة، بل زادها اختلالا. فسرعان ما قرأت أن كتاب الله، وليس حكم أبي الساذجة، يقول في سورة الحجرات: "قالت الآعراب آمنا قل لم لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان قلوبكم". ثم جاءت الطعنة اليقينيّة النجلاء في سورة التوبة: "الأعراب أشد كفرا ونفاقا". فكرتان حضريتان، أو حضاريتان، تعبّران عن جوهر الثورة الإسلامية المديني، في مواجهة الجهل الروحي والثقافي، تعبّران عن الاختلاف بين سفيف الرمل وثقافة "إقرأ!". الله، فاطر الكون، يضع إشهار الدين في مرتبة أوطأ من الإيمان.
في حروب الردة استعادت مفردة مسيلمان معناها الوظيفي والعائلي، واستعاد أبي معها انسجامه الديني المفقود في مخيلتي. ولكن، بهذه الخطوة التصحيحية الكبيرة، دُمّرت معادلة التساوي بين الإسلام والإيمان، وتفتقت بذرة التوأمة الأزلية القائمة بين الثقة المطلقة بالحقيقة وبين الشك المطلق في حقائق الواقع.
هكذا علّمنا الله.
كان التناقض بين أبي، المديني، شبه الأمي، وأمي الفلاحة، الأمية الخالصة، عجيبا. ففي غضون ثلاثة عقود انتقل كل منهما الى جهة معاكسة. هي انتقلت من فلاحة الى ابنة مدينة، بينما تضاءل هو وانتقل من ابن مدينة الى ابن قرية. كانت الأم بحكم مدنيتها المستحدثة ترى أن ماركس مبشّر ورع، موثوق الجانب، لولا بعض الخصال الضعيفة فيه: أنه لم يسلم بعد، ولم يُكرّم لحيته الكثيفة، التي تشبه لحى الصابئة؛ بينما كان أبي يرى فيه يهوديا، ولا يتردد كثيرا في منحه لقبا تضاريسيا: "ابن صهيون". ربما لذلك كنا طوال الوقت نتنقل روحيا بين أفكار المدينة والقرية، بين المسلم والمؤمن، بين علي وماركس. بيد أن الثابت فينا هو أننا لم نعثر في ثقافتنا العامية الفطرية على مفرده لغوية اسمها "عُمر". فقد كنا نملك كلمة أكثر تفكيكية هي "عمير"، ولم نكن نملك تصورا ثابتا  لوجود رجل اسمه "أبو بكر"، فقد كان اسمه التاريخي في سجلات نفوسنا: "ابن أبي قحافة"! كان الخيار صارما. إما علي وإما معاوية، إما الحسين الشهيد وإما شمر بن ذي الجوشن الذبّاح، الذي جعله المختار الثقفي طعاما للكلاب (بعد سنين اكتشفت أن شمر بن ذي الجوشن قاتل في صف الإمام علي في معركة صفين). ربما لهذه الأسباب مجتمعة، دُفعنا بقوة التناقض العجيب بين المسلم والمؤمن، بين مسيلمة ومحمد،  بين علي ومعاوية، بين الحسين والشمر، بين الذابح والمذبوح، الى الانخراط  المبكر والعاطفي في فرق الخوارج. لقد رفعنا بيان ماركس الشيوعي على رؤوس الحراب، واعتزلنا الفريقين.
بعدما هُجّر اليهود من حي التورات، لم يتبق في مدينتنا من غير المسلمين سوى الصابئة والمسيحيين. يعيش المسيحيون غالبا في حي التوراة، في المنطقة المحيطة بكنيسة "أم الأحزان"، ومنهم من ينتشر من دون حساب ديني بين المسلمين. أما الصابئة فكانوا يحيطون ببيوتنا، نحن سكان المدينة الأوائل، الذين نعيش حول قصر المتصرف والسرايا الحكومية، في قلب المدينة القديم، المحصور بين ثلاثة أنهار، نهر دجلة الأم، وابنيه المدللين، فرعي الكحلاء والمشرّح. كان الصابئة يحيطون بنا، في سكنهم ومحلات عملهم: صياغة الحلى. أمّا حرفيو القوارب وصنّاع الأدوات الزراعية فكانوا يتركزون في أطراف سوق النجارين وفي القرى السومرية النائية.
حينما يتحدث أبي عن مسيلمان تحضر الى أذهاننا فورا صورة المسيحي والصابئي، وصورة آخر يهودي ميساني، تحتفظ به ذاكرة المدينة قديسا عابرا لخريطة الأديان: الطبيب داوود كباي، مساعد الفقراء، الذي استضافه جلاد البعث ناظم كزار في مسلخه الاسطوري "قصر النهاية"، بتهمة ملفقة عام 1969. وكانت تلك سنة تعليق اليهود في ساحة التحرير، وعام انقراض وجودهم في أرض البابليين. في ذلك الزمن، قبل أن تسحقهم السياسة وتجعلهم مثلنا أبناء مسيلمان، أو أسوأ منا في بعض الحالات، لم نعتد نحن على رؤية هؤلاء سوى لعب جميلة، إلهيات ربانية، أو لُعَب إلهية، صنعها الرحمان وبثّها حولنا، لتذكّرنا بالرحمة والألفة والطهارة، التي يفتقدها أبناء مسيلمان، السادرون في لجج الحياة اليومية القاسية. هكذا كانوا في أعيننا ووجداننا. ولو كنا أطفالا من هذا العصر لاتخذناهم لعب "باربي" أنيسة، نضعها قرب وسائدنا الصغيرة، قبل أن نغمض عيوننا. فقد اعتاد مجتمعنا أن يحتفظ بالأديان الأخرى، بالمسيحية على وجه خاص، لعبة جميلة، من أعلى طراز: باربي ربانيّة!
وحينما كبرنا، عرفنا أن أول قرار سياسي اتخذه المحتلون البريطانيون لغرض الحصول على تأييد "ديموقراطي" لوجودهم العسكري في العراق، هو استمالة كبار ممثلي المسيحيين واليهود، ورفع درجة تمثيلهم الى حدود خيالية، لجعلهم يعدّلون الموقف الوطني العام، الرافض لمعاهدة الحماية أو الصداقة أو الاحتلال، التي سمّيت آنذاك بـ "الانتداب". كان المحتلون، منذ اللحظة الأولى لوجودهم الحربي، يستخدمون الشر في أعلى صوره لتدمير الألهية التاريخية الربانية، وتخريب هذا الإرث العاطفي وصوره الجميلة. لم يكونوا يعملون على إزالة تناقضات الواقع الداخلية، من طريق رفع الحيف عن المغبون، بل كانوا يفعلون العكس، يرفعون التناقضات الى أعلى مستوياتها، بجعلها مادة استفزازية، مثيرة للصراع الوطني القاتل، زارعين في أحشاء البراءة الشعبية شيطان الفتنة والانقسام. ومن خبائث الانكليز، أنهم في الوقت الذي رفعوا درجة تمثيل اليهود والمسيحيين، قاموا بتناسي وجود تكوينات دينية أصيلة كالصابئة، لأنهم لا يملكون امتدادا سياسيا خارجيا، يصلح أن يكون ذريعة دعائية لفرض المواقف! ولم يكن حصر قوات الليفي بالآشورين غالبا، بعد تأسيس الجيش العراقي حصريا، برغم ما تناوش هذا الحدث من إضافات ومبالغات كثيرة، سوى محاولة ماكرة أخرى لتدمير هذه الصورة الطفلية الجميلة، من طريق وضع الآشوريين في مواجهة التكوينات الاجتماعية المتعايشة وتحويلهم الى عدو مسلح، رديف للمحتل. وهذا ما حدث بالفعل في المواجهات الدموية مع التركمان، وفي حركة نيسان 1941. الأرمن العراقيون كانوا ضحايا الاستبداد العثماني، تقبلهم المجتمع العراقي كأبناء أصلاء، بينما كان البريطانيون يعيدون اصطفاف الأحقاد، ويعيدون جدولتها وبرمجتها. بيد أن الحياة فعلت فعلها المعاكس لإرادة المحتلين. سرعان ما تصدّر أبناء الديانات غير الإسلامية، قيادة التيارات السياسية التجديدية، الثورية خاصة، التي تحمل طابع العداء الجذري للمحتلين. قاد بعض أولئك الوطنيين النضال المعادي للاستعمار والصهيونية، فاضطرت السلطات الموالية للسياسة البريطانية الى تعليق عدد من ممثليهم، في شوارع بغداد، ليكونوا عبرة تاريخية خالدة.
اليوم يحاول تكفيريو المسلمين والمسيحيين واليهود والعلمانيين، ويحاول العرقيون العصبويون وممثلو قوى الاحتلال، سحق آخر ما تبقى من تلك العرائس الإلهيّة الجميلة.
جفّ نهر المشرح، اختفت مساحات واسعة من محمية الله السحرية، مسطحات الأهوار، واختفت معها أساطير الماء. اختفت طيور الخصيري، واختفى "صليل لكع"، غطاس الماء الحوّام. انقرض "الرفش" الغيلم العراقي، وكليب الماء الفريد، واختفت أسماك الكطان والجصان وأبو السلمبح. قرى أهوار السلام وإيشاناتها داستها سرفات الدبابات، أشجار التين الأسود والسدر صارت حطبا أسود. كل شيء ذهب الى العدم. في العراق الجديد، ظهر على أنقاض تلك المخلوقات والحيوات الأسطورية حيوان "القرطة" البشع، نابش القبور وآكل جثث الموتى، الذي شوهد في غير مكان يُبعث الى الحياة مجددا، وظهر العنكبوت الصحراوي العملاق، وفي قرى الفرات الأوسط ظهرت قطعان الأفاعي السامة، وفي الرميثة ظهرت حيوانات عدوانية مجهولة الهوية، ظهر النيص العملاق (الدعلج)، وتناسل الشيب (مزيج وحشي من الذئب والضبع)، واستأسد جرذ بغداد العملاق، عاشق القطط. إنه زمن العمالقة. المرتزقة العمالقة، والطائفيون العمالقة، والعرقيون العمالقة، والفاسدون العمالقة، والأغبياء العمالقة، وغيرهم من المخلوقات الكريهة العملاقة.
ذهب اليهود، سحقتهم انتصاراتنا القومية الدائمة. ذهب الصابئة المندائيون، بددت شملهم مباهجنا الدينية القاتلة. كاد المسيحيون أن يختفوا، عصف بهم العراق الجديد، عراق اللاهوية، العراق الذي لم أعد أعرفه، والذي أنا على يقين تام أنه لن يعرفني البتة.

***
من المؤكد أننا سنخلد الى النوم هذه الليلة، بحكم عادات الحياة ووظائفها. لكننا سننام وجفوننا تطبق على خيال بعيد، على ضفيرة ربّانية رائعة البهاء، كانت يوما ما تظلل بسحر ألقها، وجه وطننا القديم، المندثر.
سننام ونحن نحتضن ألهيتنا السحرية الضائعة، في وطن يبحث حافيا في المنافي عن ملامحه المبعثرة في طرقات التيه


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%





 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni