الصورة المكتبة الملكية " الماسة السوداء" ، كوبنهاغن/ الدانمرك. دعوني، ايها الكرام، ان اعبر، امامكم، عن احترامي العميق وامتناني الكبير "لصديقي" <كارستن نيبور> Carsten Niebuhr، ولصنيعه الحضاري (والمعماري!) الفريد والرائد والجميل، ذلك الصنيع الهام، الذي كلفه تحقيقه الكثير من الالآم والمشقة والضنك والمرض. ستقولون: ومن هو، صديقك، هذا كارستن نيبور؟. آه، ايها الاصدقاء، حقكم عليّ؛ فانا من فرط اعجابي بسيرة هذا الرجل المميز، غفلت ان اقدمه لكم: انه احد أعضاء البعثة العلمية الاستكشافية، الموفدة من قبل ملك الدانمرك "فريدريك الخامس" عام 1761، لدراسة واكتشاف مناطق "العرب السعيدة" Arabia Felix؛ كما انه الوحيد الناجي من اعضاء البعثة المرسلة، الذين توفوا جميعهم عداه، اثنائها وفي اوقات مختلفة؛ هو الذي وصل، اخيرا، عام 1767 الى كوبنهاغن ممتطيا ظهر حصان. طبعاً، هذه المقالة لا تفي الرجل حقه عن عمله الدؤوب والمستمر طيلة ست سنوات من زمن الرحلة الاستكشافية غير المسبوقة، ونتائجها المهمة وايضا، غير ... المحظوظة، مع الاسف!. عليّ التذكير، بان غاية المقال ليس سردا لاحداث تلك الرحلة العلمية الهامة. وهي طبعا جديرة بالاعادة والسرد، وقد تحدث عنها الكثيرون: عرب واجانب. ويتحدث عنها الآن، كثرمن المهتمين في العالم، وتحديدا في هذه السنة (2011)، التى تصادف مرور 250 سنة على الشروع بها في ذلك العام، من مطلع ستينات القرن الثامن عشر، القرن الذي دعي بقرن التنوير. وقد تم تنظيم معرض فني بهذه المناسبة بعنوان "..والرحلة مستمرة، 250 عام على الرحلة العربية" في رحاب "المكتبة الملكية" في كوبنهاغن/ الدانمرك، وفي قسمه الجديد المسمى" الماسة السوداء". وهو معرض مهم وشامل، ومثير للاهتمام لجهة نوعية معروضاته واساليب عرضها، والتى سوف نشير اليها في هذا المقال. وقد افتتح في 9 أيار ويستمر لغاية 6 سبتمبر/ ايلول 2011 . ومقالنا هذا، هو في الواقع، ايماء احترام لذكرى ذلك الرجل، ولتلك الحملة. اذاً، لا يتعاطي المقال مع سردية الاحداث المؤثرة، بقدر ما يولي اهتماما خاصا الى طبيعة المنتج المعماري واساليبه الذي اضطلع بتسجيل نماذجه وقتذاك، <صاحبنا> و"صديقي" المؤتمن كارستن نيبور. لكن هذا لا يعني، باي حال من الاحوال، عدم الاشارة، لاحقا، الى ماعاناه نيبور، وما صادفه من معوقات في عمله، والى ذكر ما كان يؤمن به، وهو يقف شاهداً قبالة تلك المآثر المعمارية التى سجلتها ريشة تخطيطاته المقتدرة. وهذه المآثر المعمارية المرسومة، قدر لها ان تكون، تالياً، احد المراجع الهامة لاشكال عمارتنا، ومصدرا حصيفا لمعرفة تاريخها. ومن هنا، يكمن منبع "صداقتي"، اذاً، مع هذا الرجل النبيل، المجتهد، المحب للعمارة: عمارتنا الاسلامية، والشغوف باساليب طرزها. ثمة منابع عديدة آخرى، اراها مفيدة وجادة، تتأسس عليها أهمية كارستن نيبور، تجعله قريباً ومفهوما منا، مني في الاقل، انا المولع بثيمة "الآخر"، والتائق للاطلاع على انجازاته المعرفية، والتعلم منها، وعدم التقليل من شأنها، بحجة، كونها تعود لـ "آخر". فيغدو، بذلك، كارستن نيبور ذاته، متجاوزاً عندي محض "عضو بعثة استكشافية"، انما انساناً متأملا فيما يرى، وباحثا في احوال الشعوب ودرجة تقدمها او تأخرها، غير غافل عن نزعة تقبل الآخر المختلف وفهمه وتقييمه. "عندما اجريت مقابلات، -كتب مرة كارستن نيبور في سبتمبر 1761، بمذكراته- خلال الرحلة مع العقلانيين من المحمديين حول المبادئ الاساسية في دينهم، اخبرتهم كذلك، في الوقت نفسه، اشياء مختلفة عن المسيحية دون ان ادعي انها اصح من التعاليم الموجودة في القرآن، ولم يأخذها اي منهم على انها هجوم على دينه" (*). وفي مكان آخر يشير اثناء وجوده في القاهرة عام 1762، بان "العرب ليسوا مخيفيين، كما نعتقد نحن الاوربيون عادة، قبل ان نتعرف على الطريقة التى يفكرون بها وقبل ان نستطيع تعلم لغتهم.." (*). بهذه الذهنية المنفتحة، يقدم لنا نيبور درساً اخلاقيا مبكرا في التقبل والتسامح، ما يجعل من رسومه التخطيطية للبيئة العربية المرئية، ونصوص كتاباته المسجلة، ذريعة للتعبير، كما اراها، عن مايكنه هو، او ما يعتقد به هو من افكار وهموم فلسفية متبناة. من ضمن التعليمات التى يعود تاريخها الى 15 ديسمبر 1760، والتى زود بها الملك الدانمركي اعضاء البعثة قبل انطلاقها، في يناير/كانون الثاني 1761، هناك فقرة تنص بان "على كل عضو من اعضاء البعثة، ان يسجل كل شئ في مذكراته يوماً بيوم. ولا يعتمد على ذاكرته في التسجيل، وانما يعتمد على ما سجل وكتب في مذكراته، وأن يحرص كل عضو على تسجيل ما يحدث يومياً، فان لم يستطع فاسبوعياً على اقصى تقدير". وهو ما اخذ به نيبور، على ما يبدو، على محمل الجد، عكسته تنوع التخطيطات وغزارتها التى رسمها للمدن واحداثها التى شاهدها مع اعضاء البعثة الآخرين، وتلك التى رأها بمفرده، بعد موت جميع اعضاء البعثة. وكارستن نيبور (1733-1815)، مولود في مدينة "ديتمارسكن" Ditmarschen في شمال المانيا، وكان تخصصه في مجال قياس الاراضي والفيزياء والرياضيات. لكنه توجه بعد ذلك الى اللغة العربية وعلوم الفلك حسب ما تتطلبت البعثة الاستكشافية، والتحق بها كرسام للخرائط وكمسؤول مالي للرحلة الطويلة من اوربا الى مصر نزولا الى اليمن عبر البحر الاحمر، ومن ثم الى مدينة بومباي في الهند، ثم رجوعاً الى الخليج وصعودا الى ما يعرف الان بالعراق مرورا بحلب والقدس ثم تركيا وعبرها الى اوربا الشرقية وصولا الى كوبنهاغن مرة اخرى. وتمثل تلك التخطيطات، الآن، سجلا توثيقيا فريدا في اهميته، لمخططات تلك المدن ولوقائعها التى شكلت جزءا من ذاكرة تلك المدن، وسجلت صفحة من صفحات ماضيها القديم. ولكون تلك المخططات المنجزة كثيرة ومميزة. فاننا، ووفقا لطبيعة المقال ومحدوديته، سوف نتناول نماذج مصطفاة من ذلك "الريبرتوار" المتنوع الذي اشتغل كارستن نيبور عليه بمهارة لا تخلو من ود. اشتغل افراد البعثة، وهم لازالوا بكامل اعضائها، كثيرا في اليمن "العرب السعيدة"، مسجلين الاحداث والوقائع في هذه المنطقة البعيدة والمنسية. وربما كان استقبال الناس المحليين لهم ايجابياً وراء غزارة ذلك الانتاج ونوعيته العالية. ويذكر نيبور عن هذه الاجواء، فيكتب في مذكراته في سنة 1763، بمدينة "اللحية"- وهي مدينة ساحلية تقع في اقصى شمال اليمن ".. كان الجميع سعداء، حينما اتت مجموعة غريبة من الاجانب الى مدينتهم، وكنا نحن سعداء اكثر ان قابلنا سكاناً ورقيقي القلب من سكان هذا البلد". بيد ان الامور لم تستمر هكذا طويلاً. فقد اصيب معظم اعضاء البعثة بمرض الملاريا. وعلى اثره توفي فريدريك فون هافن- عالم اللغة والخطاط في 24 مايو 1763، اعقب ذلك وفاة عضو آخر، بتاريخ 11 يونيو من نفس العام، وهو "بيتر فوسكول" – عالم طبيعة، وكان مسؤولا عن جمع البيانات والمعلومات عن النباتات والحيونات في الجزيرة العربية. مدينة تعز الجبلية، رسمة كارستن نيبور، يونيو- 1763. اليمن كانت رسوم كارستن نيبور في اليمن مثيرة، وخصوصاً ما انتجه من رسوم للمدن التى زارها ولاساليب طرز عمارتها. في رسمة "مدينة تعز الجبلية" ، التى يعود تاريخها الى يونيو 1763، تظهر بانوراما المدينة وبيوتها، وكأنها جزء من الجبال العالية التى تملء سطح الصورة، هي التى يؤلف وجودها المتنوع الموتيف التشكيلي الاساسي للوحة المرسومة. يستخدم نيبور اشكال الكتل المكعبة كناية عن بيوتات المدينة، التى تبدو متراصة "تتسلق" بهيتها الهندسية سفح الجبل لتصل الى قمته. ونرى بوضوح سور المدينة المحيط بها، والذي تقطع بوابات المدينة المتعددة امتداداته الافقية. ثمة "مكعبات"، لا تختلف هيئتها كثيرا عن مكعبات الدور السكنية، تبدو وكأنها ابنية لمساجد، لجهة امتلاكها منائر عالية، تبرز كتلتها من بين "ضجيج" الكتل الاخرى. لكن في "ميدان" المدينة الخالي من الابنية، والواقع في الوادي، ثمة كتلة منفردة ذات منارتين شاهقتين، تنهض في وسطه ترى بوضوح، يفهم بانها مسجد المدينة الكبير. يهتم نيبور في تحديد مسار الطرق المؤدية الى بوابات مهمة في المدينة ويؤكد وجودها عبر خطوط متعرجة عديدة تنشأ بداياتها عند تلك البوبات، لكن سرعان ما تختفي نهاياتها وراء الجبال. ويرصد الفنان بيوت متفرقة واحيانا مساجد بمنائر واقعة خارج السور، لكن عديدها هنا مختزل جدا. وترمز صفوف "النقاط" الصغيرة المنتشرة على سفوج الجبال في اللوحة المرسومة، الى الاشجار الكثيفة المغطية لتلك الجبال.
جدير بالاشارة، ان "تكنيك" رسم بيوتات المدينة على شكل حجوم هندسية منتظمة، كما نشاهده في لوحة مدينة تعز اليمانية، سنراه متحققا ايضا، في لوحات سيرسمها كارستن نيبور ، لاحقا، لمدن عديدة مرّ بها اثناء رحلته، منها على سبيل المثال لا الحصر، مدينة "شيراز"، و"القدس" ومدينة "كارا حصار" في تركيا، وهي آخر مشهد رسمه نيبور قبل عودته الى الدانمرك. في لوحة "بيت من قرية بئر العصب" حيث اقامت البعثة اثناء زيارتها لمدينة صنعاء في يوليو/ تموز 1763، تحضر "العمارة" ببلاغة عبر التفاصيل، التفاصيل المتعددة والمتنوعة، التى تزين واجهات البيت السكني، ذا الشكل الهندسي المنتظم. ونستشف من طريقة التعبير الكرافيكي، بان ثمة "الوان" مختلفة تحفل بها عناصر الدار المعمارية، رغم ان الرسمة مشغولة بالابيض والاسود. ثمة نوافذ باشكال متعددة، وغير تقليدية تزينّ واجهة البيت العالي ذي الطبقات الاربع. يشكل طنف "الافريز" الزخرفي، الذي "يؤزر" المبنى من جهاته الاربع، فاصلاً افقياً، تتحدد عنده نوعية التزيينات الواجهية الموجودة اسفله، عن تلك الواقعة في اعلاه. تظهر في الرسمة مرتفعات بعيدة تحيط بالمبنى، ترمز الى طبيعة طوبغرافية المنطقة المحيطة. ثمة "هندسية" طاغية، تظهرها عمارة "بيت من بئر القصب" وتحفل بها عناصرها التصميمية. وهذه الهندسية، التى ستلازم رسومات كارستن نيبورالاخرى، هي، في الواقع، نتيجة خلفيته التخصصية كمساح ورسام خرائط، وهو هنا يعتمد على ادوات هندسية محددة لينقل بواسطتها ما يراه واقعيا الى لوحات فنية. اذ تنطوي جميع اللوحات المرسومة التى اشتغل عليها نيبور على ترجمة المرئي الى اشكال هندسية، فتبدو البيوت والجبال، والاثار والطبيعة المرئية، معبر عنها بخطوط واشكال منتظمة، تشي بحبه وباهتمامه الكبير لاختصاصه المطبوع بالرياضيات والهندسة. ورسمة "بيت من بئر العصب" في الاخير، وثيقة هامة لنوعية العمارة وطرز اساليب تزيناتها، الشائعة في ستينات القرن الثامن عشر في عمارة بلاد اليمن وجوارها. ويمكن للمهتميين اجراء مقارنات اسلوبية بين ما كان في الماضي وما هو متواجد راهناً، للاستدلال على مسار التغييرات (او عدمها!) التى طرأت على طرز العمارة المحلية.
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون ksultany@yahoo.com (*) الاقتباسات مستلة من نصوص معرض "المكتبة الملكية" بكوبنهاغن |