هذا الحوار بأطرافه المتعددة اتجاهاً وتوجهات فكرية، وتبايناً في مناهج الفكر والنظر لديهم، ربما لم يكن في الأصل معدّاً لأن يكون كتاباً يجمعه عنوان واحد مشترك بين الجميع، كما ارتأى واضعه، إبراهيم العريس، أن يكون، وإنما أملته، كما يبدو من المسار الذي اتخذ، أسئلة شغلته، أو وجدها مثارة على الساحة الثقافية، التي هو جزء منها، فحملها الى أطراف الحوار، جامعاً إياهم في «حوارات النهضة العربية» (منتدى المعارف - بيروت) التي نجد فيها ونحن نقرأها مجتمعة ما يجمع من حاورهم، أو يؤلّف بينهم، من قضايا تتصل بالواقع العربي الراهن، سواء بما يثيره هذا الواقع من مشكلات أو يقترحه من حلول، وإن اختلفوا في المنظور، كما بمشكلات الفكر والثقافة. وإذا كان عدد من حاورهم فاجتمعوا له في كتابه هذا قد بلغ الثلاثين عدداً، فإن آراءهم ووجهات نظرهم، وهي تتفرق وتتوزع على مذاهب واتجاهات، تكاد تقارب هذا العدد عدداً... فبينهم من عمد الى «جلد الذات»، وبينهم من «جلد الواقع»، أو ألقى بالتبعة على «الآخر»، وبينهم من جلد الثقافة والمثقفين في عصره، ومن معاصريه.
وعلى هذا التشتت والتوزع، فإن قراءة هذا الحوار مجتمعاً، وعلى النحو الذي اجتمع فيه، قراءة مثمرة، بلا أدنى شك، وخصوصاً إذا ما سعت الى تبيّن المشتركات الجوهرية، وإن اختلف الرأي فيها والموقف، بين أطرافه... وأولها: المشكلات (أو ما يسميه الكتاب بـ «المعضلات») الراهنة للمجتمع العربي والفكر السائد فيه. وثانيها: احتمالات القرن الحالي الذي جرى بعض هذا الحوار في العقد الأول منه (وصولاً الى عام 2007). وفي الحالين نجد أسئلته وقد اخذت الواقع العربي بأبعاده وقضاياه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بعدي حضورها: الحداثي والتراثي. وقد كانت غايته، في ما يقول، التوصل الى «رسم صورة للطريقة التي يفكر بها العقل العربي، راهناً، والكيفية التي يواجه بها» الاشكاليات والمعضلات الناشئة عن أفكار وتحديات مطروحة على هذا العقل، مثل: العولمة، والتنمية، فضلاً عن عديد المفهومات الناشئة عن الأوضاع الذاتية للمجتمع العربي، وتلك المطروحة عليه من خارجه... منطلقه في هذا - كما يقول - يقينه من «أن استفزاز الفكر العربي لا يكون إلا عبر الحوار، وفي شكل أكثر تحديداً عبر حوار يبحث عن أسئلته أكثر مما يبحث عن أجوبته» (ص10).
وتبقى «القضايا المركزية» هي المحور... لنجد من يرى أن الواقع العربي يعيش اليوم «مخاضاً واضحاً لولادة نظام عالمي عربي جديد» (سعدالدين ابراهيم: 2006). إلا أننا نجده يسطّح هذه «الولادة» بعض الشيء، أو يجهضها، حين يربطها بمسائل شكلية يمكن إدراجها ضمن ما يعترض، هو نفسه، عليه من سلوك الديكتاتوريات العربية، من دون أن يلتفت الى أن من بين «الولادات» التي بشر بها ما جاء مشوهاً، بحكم كونها نتاج شموليات أخرى لم يتنبّه إليها، أو عمد الى إغفالها لتأكيد رأيه في ما يذهب فيه... هذا في وقت يجد فيه سمير أمين أن المرحلة الجديدة التي ندخلها «جديدة في اطار الرأسمالية وفي اطار الاستعمار»، وهي «محايثة للرأسمالية نفسها في توسعها على نطاق عالمي شديد الاتساع» (ص31).
ومن هذا ينبثق ما نعيشه، مجتمعات، من مشكلات بعضها جاء - وفق سمير أمين - من «ان التقدم الصناعي، ثم السياسي» في مجتمعنا العربي «جاء من دون تطوير اجتماعي (...) ما أدى الى الأوضاع التي نحن فيها...» (ص35) معيّناً الحل، وفاقاً لرؤيته، في «ديموقراطية مرتبطة بالمصالح الحيوية للطبقات الاجتماعية...» (ص38). هذا في الوقت الذي يرى علي أومليل أن «الحداثة ليست أفكاراً» فحسب، «بل يجب أن تكون هناك قاعدة مجتمعية حقيقية تساندها»، إلا أنه يجد أن هذه القاعدة لا تزال هشّة في مجتمعاتنا (ص54). بينما يجد حازم الببلاوي أن «الفكر عندنا من الضعف بحيث يبدو عاجزاً عن إحداث أي تغيير» في الواقع (ص79 - 80).
هذا الواقع الذي تحولت فيه السلطة، أو نظام الحكم - وفق الطيب تيزيني - الى «نظام أمني» هدفه «أن يفسد أكبر عدد ممكن من الناس»، مميزاً، في هذا، بين «الدولة الأمنية» و «الدولة البوليسية»... فإذا كانت الأخيرة «تقمع وتلاحق»، فإن الدولة الأمنية تستوعب «وتُفسد المجتمع بأسره» (ص87). ولعل هذا هو ما يجعل محمد عابد الجابري يرى، هو الآخر، أن «الفكر لا ينتج ولا يبدع إلا إذا كان هناك هامش من حرية يتمتع به المفكر»، مؤكداً أنه من دون هامش حرية لا يمكن الفكر أن ينتج أعماله الكبرى» (ص92). وفي هذا السياق يذهب الجابري الى «أن المثقف هو الذي يصنع حريته»، لافتاً الى أن هذا «لن يكون ممكناً وفعالاً» إلا بوجود الذي يعكس في سلوكه الاجتماعي والفكري «ما يعتقده حقاً وصدقاً من آراء»، وملاحظاً بروح نقدية صريحة «أن الكثير من مثقفينا يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون»، ليجد، تحليلاً منه واستنتاجاً، أن منهم من يفعل ذلك «اضطراراً، ومنهم عن غفلة، ومنهم من يفعله عن انتهازية وطمعاً في الوصول الى مكاسب قد لا تستحق منهم هذه التضحية الفكرية، بخاصة إن كانوا مثقفين ومبدعين حقيقيين...» (ص93). مخالفاً في هذا / ومختلفاً مع الرأي الذي يذهب فيه أصحابه الى «أن المثقف هو الشخص الذي يعرف كيف يبرر وضعيته في كل وقت...» (ص94).
أما دور هذا المثقف في واقع مثل واقعنا، يعيش التنازع مع نفسه ومع «الآخر»، فهو برأي هشام جعيط يتحدد «في الدعوة الى تغيير العقليات، وإفساح المجال لوضع يكون أكثر حرية وأكثر استقلالية». (ص107)، فدور المفكر هنا هو «العمل على رفع مستوى الوعي، والنهوض بثقافة وحضارة، وإعادة بلورة القيم التي يقوم عليها المجتمع» (ص110).
وإذا كان علي أومليل يرى «أن قضية الديموقراطية هي التي يجب أن تكون القضية المحورية بالنسبة الى المثقفين والمفكرين»، وذلك من منطلق إيمانه بأنها «وحدها الكفيلة بخلق رأي عام يصبح سنداً حقيقياً للمفكر».. (ص57)، فإن هشام جعيط يجد أن «ثقافتنا مرتكزة على الذات ونظرة الغير إلينا»، ومن هنا - وفق رأيه - التناقض الكامن فينا. فنحن مجتمع ممتلك «لمركّب نقص إزاء الغير، وبالتالي محتقر لذاته...» (ص104)، هذا في الوقت الذي يبدي فيه غسان سلامة ثقته «بقدرة المواطن العربي ووعيه»، فنحن، كما يرى، «نخرج الى عصر جديد» (ص205).
وفي هذا السياق يرى عزيز العظمة أن الحداثة لم تفشل في مجتمعنا العربي، وإنما يرى أن هناك تراجعاً «لعناصر ثقافية معينة» ناجمة، في رأيه، «عن تراجع ثقافة الدولة...» (ص269). في وقت يذهب عبدالله الغذامي الى «ان الفكر وحده لا يستطيع انجاز اي تغيير»، ويجد الحل في «مشروع مبدع يُحرك الناس» (ص285). بينما يذهب برهان غليون الى أن «الاختراقات الأجنبية» للواقع العربي هي التي أعاقت «نشوء نخبة اجتماعية وثقافية موحدة ذات خصائص مشتركة وواضحة»، وهذا، وفق رأيه، هو ما يجعل «الحداثة ليست مسألة تقليد أو اقتداء أو اقتباس أو فهم واستيعاب عقلية»، وإنما هي «مسألة صراع تاريخي بين قوى داخلية، وخارجية...» (ص293).
ولكن، هل نحن اليوم «في مرحلة الخروج الفعلي من صناعة المستقبل»، كما يرى ناصيف حتي الذي يجد الحاضر غائباً من حياتنا، ودخولنا الوحيد هو دخول في الماضي؟ (ص115). هذا السؤال قد تكون في ما يقوله علي حرب إجابة عنه، اذ يذهب الى «أن الثقافة السائدة بمفرداتها ورموزها وقيمها ومؤسساتها وأدواتها هي ما يحتاج الى الخضوع للنقد والتغيير» (ص130). ويزيد فيذهب الى القول إن «مشكلتنا الأولى تكمن في فكرنا»، ومن خلال هذا يرى أن ليس من أمة اليوم على الأرض سوى أمتنا «قرر أهلها الاستقالة من التفكير الحي الخلاق كي يدافعوا عن اساطيرهم وأوهامهم وثوابتهم ومطلقاتهم الخادعة والحاجبة، أو المعوقة والعقيمة، أو المستحيلة والمدمرة» (ص131).
هذه الحال هي ما يستدعي تركي الحمد لأن يكون متشائماً وهو يرى «أن كل تغيير حقيقي عندنا إنما يأتينا من الغرب، نحن الذين نجد أنفسنا أمام واحد من خيارين: إما أن نتغيّر، وإما أن نضمحل ونزول» (ص142). ذلك أن مشكلتنا، وفق رأيه، «هي مشكلة عقل وجمود... وإصرار على ألا تكون هناك قطيعة مع الماضي» (ص143). ليجد «البديل» مطروحاً في واحد من خيارين: فإما أن نتعامل مع العالم، وإما أن نضمحل»، لأن «التغيير يأتي من الخارج» - كما يرى (ص147). ولعل هذا هو ما يجعل رشدي راشد يذهب الى أن هذه الأمة لن تقوم لها «قائمة إن لم تشارك في العلم وفي الحياة العلمية، وليس فقط كطرف متلق في شكل جديد» (ص161). وفي هذا يجد أن وضع استراتيجيات حقيقية لمؤسساتنا العلمية هو الطريق الى ذلك... بينما يجد محمد الرميحي أن معرفة التقدم والانتقال إليه إن كانت متحققة لغيرنا و «متمنعة» علينا، فذلك «لأن من يقود لا يعرف، ومن يعرف لا يقود»... (ص166). هذا بينما يعيد اسماعيل سراج الدين انعدام الحيوية في مجتمعنا العربي الى الخوف الذي يجده يولّد هزيمة نفسية لهذا المجتمع» (ص178).
إلا أن مفكراً مثل هشام شرابي لا يكتفي بهذا، بل يدعو الى «أن نعيد استيعاب النهضويين وأن نعيد إحياءهم، أن نخلق التفاعل بين فكرنا وفكرهم». إلا أن الأدوار - كما يرى سعدالدين ابراهيم - موجودة، فإذا «لم يلعبها المثقف المدني العلماني فسيلعبها المثقف الأصولي بالضرورة» (ص28)، وإن كان هناك من يذهب الى القول بانتفاء هذا «الدور» وتحوله «مأزقاً» جعل المثقفين يختارون أحد طريقين: الصمت، وانتهازية الموقف والفعل بين «محققين للمكاسب، ومهادنة أو معاونة النظم القائمة، أو الالتحاق بالحركات الأصولية»، كما يرى سمير أمين الذي، وهو يؤشر هذا، لا يعفي المثقف مما يسميه «مسؤولية تاريخية»، فحواها: «أن يهيئ للتغييرات المقبلة من خلال اشتغاله على الأفكار ونقدها» (ص37). ليتساءل علي أومليل عما إذا كان «في وسعهم (المثقفين) حقاً أن يكونوا فاعلين إن كفّوا عن صمتهم؟» (ص54). بينما يذهب دعاة «الفكر الثوري» الى أن هذا الفكر «لا يمكنه ان يكون عفوياً»، بل «يحتاج كي يصاغ الى انتاج معرفي» لا تنتجه غير «النخبة من المثقفين» (ص86)، كما يرى الطيب تيزيني. وفي ضوء هذا يجد أن «المطلوب اليوم دماء جديدة غير تلك القديمة» (ص89). في حين يجد هشام جعيط أن واقعنا يعيش اليوم حالة «انكفاء على الذات القطرية، وانطفاء تام للمشاعر القومية والحلم القومي»، سياسياً في الأقل... مشدداً على أن ما بقي هو «الوعي الثقافي والوجداني» ليس إلاّ، معطياً هذا الوعي أهميته، والقول بوجوب تكثيفه ليضطلع بدوره. (ص106)
كما نجد من يذهب، كما ذهب ناصيف حتي، الى أن «للمثقف العربي اليوم دوراً أساسياً يشكل تحدياً كبيراً له، عليه أن يجيب عليه». فهذا المثقف «كي يكون فاعلاً وهادفاً مع نفسه، لا يمكنه إلا أن يكون صاحب رأي نيّر وصادق وواضح تجاه كل القضايا التي يعاني منها مجتمعه...» (ص122). ليتساءل محمد الرميحي عن «العائق الذي اعتقل عقولنا كعرب كي لا نفكّر؟» فيجد «أنه افتقارنا الى الشجاعة الفكرية والسياسية» (ص172)، من دون أن يبرئ «الآخر»، غربياً وشرقياً، من الوقوف وراء أسباب تخلفنا.
وإذ يبشّر هشام شرابي بولادة «جيل جديد، له امكانيات جديدة وذهنيات جديدة»، وتطلعات أيضاً، وباختلافات جذرية «عن تطلعات الأجيال السابقة»، فليؤكد ما يراه من أن تغييرات أساسية ستحصل في هذا الواقع، وفي اطار زمني منظور (ص: 220،221).
هذا المشروع الثقافي والفكري - المجتمعي هو ما يؤكده الطاهر لبيب، وإن كان يجد سؤال هذا المثقف قد عاش، منذ ستينات القرن العشرين الى اليوم، أربعة أنماط، من حيث الوجود والحيثية، انتقل فيها هذا المثقف من التساؤل - عبر موقف ملحمي «صاغ البدائل وناضل من أجلها»، الى اقرار بما يسميه بالنمط البدائلي الذي يواصل أطروحاته ونداءاته»، ثم النمط الآخر المتزامن معه، والذي يدعوه بالنمط التراجيدي، وهو النمط الذي «يتمسك برؤى ومشاريع يعلم أنها غير قابلة للإنجاز»، ومع ذلك يظل متمسكاً بها... ليصل الى النمط الذي وصلنا إليه اليوم والمتمثّل في «المثقف المقاول» الذي يجد أن الفكر ليس «أهم عنصر في تعريفه، وإنما الخبرة ومردود الاستشارة والتسيير» (ص325).
يبقى أن نقول شيئاً في «منهجية الحوار» التي اعتمدها المحاوِر مع من حاورهم، فهي منهجية بقدر ما ترمي الى التعرف والتعريف تحاول أن تأخذ المحاوَر في الطريق التي تريد له أن يسلكها... وقد بدا معظم من حاورهم، إن لم نقل كلهم، عصيين على الانسياق خارج قناعاتهم الفكرية، أو في الإعراب عن رؤيتهم النقدية التي بدت متمنعة هي الأخرى، آخذة بأطروحاتها، وإن كان حديثها قد جاء في أمور وقضايا أرادها المحاوِر. ومن هنا أهمية الكتاب الذي نجده يشكل وثيقة بارزة لتفكير جيل من المثقفين العرب، مثّل دوره الفكري على أوضح الوجوه، وتكاد أطروحاته أن تشكل المحور الأهم في ثقافتنا الحاضرة. |