الكتابة عن ليبيا القذافي مربكة. فالتحليل العقلاني لنظام لا عقلاني، من رأسه حتى اخمص قدميه، إهانة للعقل ذاته. وتبدو كل مقولة وكل مفهوم من مقولات ومفاهيم الاجتماع والـسـياسـة والفـكـر حائرة إزاء هذا المخلوق الشائـه. فـمـقـولـة الاوتوقراطية مثلاً، وهي من بنات افكار ارسطو لوصف «حكم الواحد» تنتمي الى الحق المقدس للأبطال الكلاسيكيين والملوك القروسطيين لا الى عسكري قبلي مترع بالنفط. ومقولة «القائد» و «المعلم» التي ينسبها العقيد القذافي الى شخصه، تنتمي الى الأيديولوجيا النازية، لمجتمع صناعي بلغ شأواً من الرقي، لا تدانيه تفاهة عسكري طالع من مجتمع رعوي. ولقب «الجماهيرية» كبديل من «الجمهورية»، الذي ابتكره العسكري (او ابتكر لأجله)، مستعار من اكبر مفكري عصر الأنوار الفرنسي: جان جاك روسو، صاحب نظرية «الارادة العامة»، في جماعة اخلاقية، خلافاً لمقولة الجمهورية، المترجمة عن الأصل اللاتيني: Res Publica، اي خير الجمهور او الخير العام. فالجـمـاهـيـريـة تقـتضي، في الاقل، مجتمع جماهير لا مجتمع قبائل، ووعياً بالذات يتجاوز عقل مقلد لعبدالناصر. والجمهورية تقتضي، ابتداء، وجود «جمهور» (اقرأ مجتمع حضري) مؤسس للدولة.
وأخيراً، فإن مقولة «القائد»، المستعارة بوعي او من دونه (على الارجح من دونه) من التراث النازي، لا تصلح لبوساً. فهتلر، مثلاً، (على رغم ما في المقارنة من اساءة الى هذا الاخير) كان ينأى عن تسمية نفسه: المستشار (اي رئيس الوزراء)، او رئيس الاتحاد (رئيس الجمهورية)، واختار بدلاً منه لقب: الفوهرر. وهي كلمة مبتذلة، كما بيّن فرانز نويمان (اعظم عقل محلل للنظام النازي)، تعني في اصلها الالماني البسيط: أسطه، او معلم حرفة. وليس في هذا ثمة خطأ. وهو ما ادركه تشارلي تشابلن في فيلمه «الديكتاتور» يوم صور حلاقاً يشبه ديكتاتور البلاد، يحل محل هذا الاخير، في مهزلة كوميدية، فأقام الدليل على ان الفارق بين الحلاق والديكتاتور ليس كبيراً.
كيف يسع المرء ان يرى الى القذافي والدولة التي فصّلها على مقاسه: جماهيرية وعظمى. اما كيف يتسنى لبلد ليس فيه اكثر من 3 ملايين (على ايام انقلاب القذافي) ان يكون جماهيرياً، وكيف يتأتى لبلد لا يزيد جيشه عن بضع عشرة آلاف ان يتدرج في باب الدول العظمى، فتلك مسألة لا يمكن علم اجتماع او علم سياسة ان يغامر بخوضها من دون ان يفقد رصانته. الأولى ان يلجأ المرء الى علم النفس المرضي، ليتفحص منابع العظمة كهذيان سريري، شيزوفرينيا الانفصام عن الواقع، وبارانويا اصيلة، تجمع، الاعتقاد بالعظمة الذاتية، وجنون الاضطهاد (او الخوف من المؤامرة) في وعاء (بل قحف) واحد.
يوم اطلق العقيد انقلابه عام 1969، المشؤوم على ليبيا والعرب، سارع الى القاهرة ليلتقي مثله الاعلى: عبدالناصر، بكاريزماه الخاصة، وسمعته الضاربة. وكان على التلميذ المقلد ان يخترع معارك شتى ليحاكي استاذه. ومثل كل محاكاة، يسقط التلميذ فريسة احلام اكبر منه: غزو تشاد مقابل الحملة المصرية في اليمن، وإسقاط طائرة «امبريالية» فوق لوكربي، مقابل معركة السويس. ومقابل فلسفة الثورة الناصرية، كطريق تجريبي بين النموذج الاشتراكي والنموذج الرأسمالي، طلع القذافي بالكتاب الاخضر.
لا ندري من دبج الكتاب، الصغير حجماً، والضئيل قيمة. الواقع ان قيمة هذا الكتاب الذي أُنفقت مئات الملايين من الدولارات لترجمته الى لغات العالم، وعقدت المؤتمرات «العلمية» لمناقشته، لا تساوي ثمن الورق والحبر المسفوح عليه.
الافكار فيه قطعية وبليدة: الديموقراطية «هزيمة للشعب». والنظم النيابية «حل تلفيقي». والحزب «الديكتاتورية العصرية». والنظام الطبقي هو «النظام الحزبي نفسه». والعقيد يرى في ذلك كله حلولاً عرجاء لمشكلة «اداة الحكم». ويأتي، هو الطالع من بطون القبائل، وعالم الثكن، من عالم الأعراف والطرق الصوفية الحاكمة، بالحل الامثل: المؤتمرات الشعبية. اما «الدستور» الحاكم، فهو باطل لأنه من «صنع البشر». والاستفتاء على الدستور «باطل». فشريعة المجتمع لا تحتاج الى «صياغة وتأليف» (تبقى في الهواء احسن)، والاستفتاء «تدجيل على الديموقراطية». اية قوانين تحكم الدولة والمجتمع اذاً؟ «العرف»، وفق الزعيم القائد، المعلم، او «الدين المحتوي للعرف»، فهو بمثابة قانون طبيعي، مثل جريان المادة، وسقوط المطر. هل رأى احد أعرافاً نبتت في الحقول؟
هذه بعض تهويمات الكتاب الاخضر، الذي كان موضع سخرية ونكات وطرائف هازلة على امتداد فضاء الثقافة العربية، سوى ان السخرية كانت تقال في الجلسات الخاصة، والغرف المغلقة، من وراء ظهر «العقيد». ولم يكن ثمة من يرغب في اجتياز الخط الفاصل بين الجد والهزل. فالعقيد وقتذاك، كان يقدم دراماه على مسرح عربي عقيم، انحصر فكره السياسي في مقولات لا تقل عقماً عما ابتكره الزعيم الصحراوي. فالصراع ضد الغرب الامبريالي، والصهيونية، كان يستوعب كل طاقات التفكير، الذاهل عن حاجته الى فضاء الديموقراطية، وحكم القانون. اليوم ثمة علائم على يقظة. فأكثر الكتّاب حماسة لليبيا القذافي في السابق يرجمونه الآن بأحجار النقد العقلاني: احترام حق الرأي، والكف عن اسالة الدماء، بل الرحيل عن سدة الحكم. افتتاحيات الصحف اللبنانية وحدها تكفي بياناً. هذا اعتزال عن الوعي الشقي السابق.
يصعب ان نبتكر نصاً لوصف جنون الزعيم الليبي، خيراً من كلماته هو. ففي كتابه الاخضر (بند الصحافة)، نقرأ ما يأتي:
«ان الشخص الطبيعي حر في التعبير عن نفسه حتى ولو تصرف بجنون ليعبّر عن انه مجنون. ان الشخص الاعتباري هو ايضاً حر في التعبير عن شخصيته الاعتبارية. ولكن في كلتا الحالتين لا يمثل الاول [اي المجنون] إلا نفسه».
هذه العبارة تنير سعار القذافي في خطابه المندد بجمهور جماهيريته. فهؤلاء، وفق منطوقة «جرذان»، «جراثيم»، ومصابين بـ «القمل» امام شخصه النظيف، بـوصفه الهر المعقم، المجنون الذي لا يمثل إلا نفسه، والذي لا يصلح للاستقالة لأنه بلا منصب رسمي، والذي يحق له قتل المخالفين بموجب الدستور، وهو الذي اعتبر كل الدساتير خديعة.
عبدالناصر هو المأساة. ومقلده هو المسخرة. تكرار هزلي لتاريخ عصيب. لكن المأساة والمهزلة تجتمعان اليوم في ليبيا، اوتوقراط ينتهك بلاداً بأسرها بمعية ثمانية ذئاب مما انجب، وأمة غارقة في الدماء. لعل الحرب الاهلية قائمة او قادمة. ومع كل الميل العقلاني الذي نرجوه لتحول سلمي، او لا عنفي، بالمعنى الغاندي للكلمة، فلعل سعير العنف يطهر ليبيا من أدران حكم اسرة تستحوذ على السياسة والثروة، والثقافة والتفكير، باسم كائن هلامي مجرد اسمه «الثورة» التي لا نعرف لها عنواناً، او شكلاً، غير قصور الرئاسة، ووجه زعيم هرم. |