ترددت شعارات الرحيل في أرجاء الوطن العربي بعد انتقال ثورة العزيزي خلال أيام معدودة من تونس إلى مصر فاليمن والحبل على الجرار.. تلك الثورة، التي كان يتطلب انتقالها من بلد عربي إلى بلد عربي آخر، سنوات عديدة في خمسينيات القرن الماضي، لم تعد تتطلب سوى أيام معدودة لكي تنتقل من مصر إلى تطوان ومن الشام إلى بغدان بحكم ثورة الاتصالات في عصر التكنولوجيا والمعلومات الذي نعيش فيه. وهكذا بدأ بعض الحكام يرتعدون من هذا الانفجار الجماهيري العارم فراحوا يتسابقون إلى عروض مسرحية سريعة من الإصلاحات وتخفيض الأسعار وتوفير الوقود والتعهد بعدم تصفير العدادات.. ووسط هذا ماذا فعل حكامنا العراقيون؟ سمعت أنهم قرروا أخيراً أن ينزعوا نظارات ايف سان لوران من على عيونهم وينظروا من الشرفات العالية إلى عاصمة القاذورات والخرائب والحفر.. سمعت أنهم سيخفضون رواتب الكبار الفلكية ويعيدون بعضها إلى خزينة الدولة لكي لا تتلوث أيديهم بالمزيد من وسخ الدنيا.. سمعت أنهم سيرفعون الفلترات من آذانهم ليستمعوا إلى أصوات الناس في المناسبات والفواتح والتي لم تعد تُعدّد مآثر الموتى المكرودين ولكن تترحم على موتى آخرين من الكهرباء والنظافة والخدمات.. فما أن يجتمع اثنان من العراقيين حتى يلعنوا سلف سلفات الحكومة ويتساءلوا: متى يتظاهر الشعب ويقول لهم ارحلوا؟
هنا اختلفتُ مع مطلب (إرحلوا) في مناسبة حزينة حضرتها واتفق عليها جميع الموجودين رجالاً ونساءً... قلت لهم: مابينا حيل تخريب ومظاهرات واقتتال من جديد.. مابينا حيل حرق وسلب وفرهود.. مابينا حيل سجون وتفتيش ومعتقلات سرية.. خلي الجماعة يأخذون راحتهم.. لا نريدهم أن يرحلوا ويأتي غيرهم لنبدأ من جديد.. لا نريد مظاهرات وجرحى وقتلى.. قلوبنا خلصت وأرواحنا بزعت. قالوا: لعد شلون؟ ألم تري شوارعنا التي أصبحت كالمنخل من كثرة الحفر؟ ألم تري مدارسنا التي أصبحت كالأكواخ من شدة الإهمال.. ألم تري الوايرات تتدلى من السماء، والهواء يتصخم بالدخان، والأرصفة تتكدس عليها الأزبال والقاذورات؟
حنانيكم! رفقاً بالحكومة.. فأنتم تتذمرون وتتذمرون ولا ترون سوى النصف الفارغ من الكأس.. تشتمون وتشتمون ولا تدرون أنهم خطية تعبانين من كثرة العناد والتربص بعضَهم البعض.. تعبانين من كثرة الكلام الذي لا يُوَدّي ولا يجيب منذ سبع سنوات.. تعبانين من الانتخابات والاجتماعات والخطط الأمنية واختيار الوزراء وحمايات الوزراء وأقارب الوزراء وأبناء الوزراء.. تعبانين والله تعبانين... في كل منعطف من وزاراتهم هناك عملاء محصوصين يتجسسون عليهم من الوزارة نفسها.. وفي كل اجتماع هناك أعداء لهم من طائفة أخرى ينظرون إليهم شزراً.. يتحركون من مكان إلى آخر بشق الأنفس، لأن الشعب المتكدس بالسيطرات، لا يسمح لسياراتهم بالمرور.. وبسببنا تم إغلاق مناطق بغداد عن بعضها البعض.. وهذه طريقة مبتكرة لحماية الناس لا تعرف بها ألمانيا.. وتلك الجدران هي التي تمنعهم من رؤية الناس الذين يعيشون في هذا البلد، فكيف يرون تلك الحفر أو تلك الأسلاك المتدلية؟.. كيف يرونها ونحن لا ندعهم يعيشون بيننا ويشتركون بمولداتنا ويجاورون مناطقنا التي تشبه القيء في بشاعتها؟.. كيف يرونها وهم يركبون سيارات مضببة ولا يستطيعون التوقف في السيطرات التي يمرون بها لئلا يتعرضون لشتى أنواع المخاطر؟.. تعرفون أن حيواتهم أهم من حيواتنا بسبب الخدمات الجليلة التي يقدمونها لنا، ولهذا يضطرون إلى العيش في قلاع محصنة تحيط بهم الحمايات ومظاهر الأبهة التي لا يطيقونها.. خطية هم مضطرون إلى ذلك لأنهم لا يحكمون شعباً ولكنْ إناساً غير محترمين.. خطية معهم الحق فهذه ليست عاصمة وإنما ثكنة عسكرية... يريدون رفض الرواتب الحرام ولكنهم يحتاجونها للعزائم والولائم والعوائل الموجودة في الخارج.. خطية يريدون رفض الحمايات ولكنهم لا يستطيعون التجوال والتورط بالمرور في منطقة ساخنة وهم رجال مسالمون... لهذا تضطر مواكبهم إلى اختراق السيارات رونغ سايد لأن كبيرهم مسرع إلى اجتماعات العناد والانتقام. ألا ترون كيف نزعجهم بوجودنا، فكيف يرحلون؟ نحن الذين يجب أن نرحل... فلا تكون هناك أزبال ولا سيطرات ولا دخان ولا جدران ولا مشكلة كهرباء.. متى تقترحون يوماً للرحيل مشياً على الأقدام من بغداد إلى مكان رمزي خارجها نصل إليه ثم نعود من جديد.. هذا أفضل من الاعتصام في ساحة التحرير.. ما رأيكم؟ لا نريدهم أن يرحلوا.. نحن الذين سنرحل. |