|
|
"نبض" مجموعة جوليان بارنز القصصية الأحدث |
|
|
|
|
تاريخ النشر
13/01/2011 06:00 AM
|
|
|
رلى راشد:
يعتبر الكاتب الإنكليزي جوليان بارنز ان أحد أهم القرارات التي ينبغي للكاتب التمسّك بها عند شروعه في نص، يتصل بالعلاقة التي تجمعه بالقارئ. يروقه ان يحتفظ بالقارئ في أقرب مكان متوافر. يتلذّذ في ان يتصوّر الكاتب والقارئ متّكئين الى المائدة عينها، ليس وجهاً لوجه وانما جنباً الى جنب، يتطلّعان صوب نقطة الوصول عينها. في ذاك السيناريو الذي يتخيّله بارنز بحذافيره، يسأل الكاتب القارئ "ماذا تظنّها تحبّ؟" في الحديث عن تلك الشخصية، ويستوضحه في شأن أخرى: "تتراءى لي غريبة بعض الشيء، أليس كذلك؟". ها هنا محاذاة بين رؤية القارئ والكاتب، بل وتوازن بينهما. وإن تقدّمت نظرة مبتكر الحكايات قليلاً، فذلك لأنه القادر على معاينة التفاصيل بإيقاع لا يحترفه سواه. منذ انصراف بارنز الى الرواية في 1980، اطلق عليه لقب "حرباء الآداب البريطانية"، لأنه التأم كاتباً يشبه الواعين ساعة يستسلمون للأحلام، في حين تلقّف إيماءات المرح ليجتاز إستعارياً الثقافتين الشعبية والنخبوية. اتضح افتتانه بفلوبير من طريق أسلوب الكتابة عنه في روايته الرابعة "ببغاء فلوبير" خصوصا، حيث ألقى على الكاتب الفرنسي المديح لعبقريته التي مكنّته من عدم اقتراف كتابة عمل واحد مرتين. والحال ان بارنز لا يهتمّ جداً بفكرة انجاز روايات بالمعنى الحرفي، تلك التي تسوّق لها مدارس النقد في انكلترا على وجه محدّد. يشعر بالقرابة مع مفهوم اوروبي أكثر سخاء في تقبّل التنويعات، لأنه يرى الرواية شكلاً فسيحاً يعبّ من تصورات عدة ويغطي تشعّبات لا تنحصر في تصنيف. أما النتيجة ففوز بارنز في رحاب نصوصه بوسام الشمولية الأعظم، عوضاً من الاستثناء الأعظم. في مجموعة الروائيين الشباب الذين بزغ نجمهم في اواخر السبعينات واوائل الثمانينات من القرن المنصرم، لاح جوليان بارنز الأكثر أناقة والأكثر تمكّناً من الأدوات الأدبية والأكثر إبهاماً ايضا. يعي بارنز أهمية الهيكلة في النص، بقدر وعيه دور القماشة اللغوية. والحال انه يشذّب هذين المحورين في مجموعته القصصية الأحدث، "نبض"، حيث يمارس الحديث عن تخوم فكرة محدّدة عوضا من الاكتفاء في الحديث عنها مباشرة. يمكن الاعلان ان تلك المجموعة القصصية ارتجال انكليزي لهذا التمرين، فيما تحضر النزوة الذاتية على غير عادة. تظهر المجموعة المتوازنة الى اقصى حدّ، كرفيق لتأمل عميق في الموت كان تدرّب عليه بارنز في "ليس ثمة ما يخيف" الذي سبق صدوره في 2008 رحيل زوجته بات كافانا بثمانية شهور فحسب. المجموعة الجديدة كالعناوين التي سبقتها منذ 1978، مهداة "الى بات" ومشغولة بالوحدة ونقيضها، اي الحب. انها المجموعة المترقَّبة بشغف والمسكونة ايقاعاً بصخب التيارات العاتية، وتيارات الجسد والعلاقات الجنسية والمرض والموت والمحادثات، فيما يتعلّق كل شخص بنبض يحرّكه النجاح والفقد ناهيك بالبدايات والنهايات. تبدأ القصص بالمألوف لتبلغ الخارج عليه. تنطلق في مزارع الكرمة في ايطاليا وتصل الى الشرفة المطلّة على البحر الانكليزي شتاءً. نحن في حضرة قصص مضغوطة ومتندّمة ومتهكّمة على نحو شبه يائس يغامر صانعوها المتخيّلون في ان تلتهمهم ابتكاراتهم. ليس هناك حاجة الى التذكير بأن الموت تبدّى مصدر هجس ادبي دائم لدى بارنز. لطالما جعله الهلع من الرحيل، يضطرب. كان يستيقظ ليلاً ليرقب قبضته تضرب وسادته على نحو غير واعٍ، فيما يصرخ كلاّ. لم يُخفه الخرف او ألم الموت كما السواد الاعظم من الناس، وانما احتمال الإندثار، وتلك مسألة تجعله يحسّ بانعدام التوازن. في "نبض" يتمسّك الكاتب بمنطق الكفّ عن الوجود، تدعمه عناصر المواد الخام. ترتكز القصص الأربع عشرة على الانبهار بما يمكن ان يسمّى مواد الوجود الرتيبة، روتين اليوميات والاهتمامات التي تلصق الشخوص بحيواتها ويسعها احيانا ان تحدّ نطاق مناورتها الى حدّ بعيد. تفضح المجموعة آلية عمل بارنز التي لا تتمهل عند تحديد. اثنان من عناوينه، "ببغاء فلوبير" و"قصة العالم في عشرة فصول ونصف فصل"، جاءاه بأنماط غير عادية، بتهجين ناجح تماما، ذلك انهما اعتمدا التخييل في جزء منهما، والبحث في الجزء الآخر. أما في "آرثر وجورج" فنعثر على إعادة تركيب قضية غريبة واخفاق قضائي، بحثٍّ من مناخ نسجه آرثر كونان دويل، ليتجاسر بارنز في "نبض" على الإتيان بأربع قصص تعدّ قصصاً بالكاد. صيغت تلك الحكايات بأسلوب الحوار في حين يصعب التعرّف الى أطرافه، ذلك انها أشبه بتقارير عن محادثات تجري حول طاولات العشاء. ينتمي الذين يتقاسمون الكلام وهم في منتصف العمر، الى الفئة المدينيّة عينها. يدرك الجميع الرأي المناسب الرائج، في حين يعبّرون عن الحنان الى نشاطات صارت تعدّ غير صائبة، من مثل التدخين، بينما تعتريهم الشكوك في ما يخصّ الاهتمامات المواكبة للعصر، من قبيل الإحترار المناخي. يتذمرون بواقعية صرف، ويتحايل احدهم على الآخر او يحاول تسجيل نقاط في مرماه. تتّبع الأحاديث هيكلة رفيعة وإن تبدّت مشوّشة ظاهريا، كنّا لنصدّق تاليا لو قيل لنا ان جوليان بارنز ترك ماكينة تسجيل على طاولات المآدب. يتقسّم "نبض" جزءين. يشكّل الحب نواة القصص التسع الأولى في الأصل حتى لتتبدّى كأنها تتناول الإنسلاخ في المحصلة. أما القصص الخمس التي تكوّن الجزء الثاني فتنشغل بالحواس حيث يمثّل اللمس والرؤية والشمّ والذوق والإصغاء جلّ ما نملكه للتقرّب من شخص آخر. يعاينها على سبيل المثال في قصة "تواطؤ"، من طريق تربوية على حدة. اعتادت والدة الطفل الراوي ان تداوي الحازوقة التي عاناها بنمط غير مألوف. بحثت عن مفتاح الباحة الخارجية وعندما وجدته أبعدت ياقة قميص ابنها عن عنقه لتجعل المعدن البارد يتسلّل الى قعر ظهره. آنذاك ظنّ الفتى ذاك العلاج أسلوباً دارجاً استخدمه الأطباء والأمّهات على السواء، ليستفهم لاحقاً في سن متقدّمة عن قدرته الشفائية العبثية. سأل هل جاء العلاج بنتيجة لأنه حرف انتباهه عن الحازوقة او لأنه انطوى على تفسير عيادي، ليصل به الأمر الى التمهّل عند قدرة احدى الحواس على التأثير في حاسة أخرى. عند نقطة التئام شطرَي مجموعة "القصص، تطفو قصة غياب مؤثرة بعنوان "خطوط الزواج"، حيث رجل ترمّل للتو يعود الى جزيرة مال في اسكتلندا التي استبقت بعض اكثر ذكرياته سعادةً، رفقة زوجته بين التنزه وتأمل الطيور. يستخدم الرواي من دون انتباه على نحو حدسي "حقائبنا" بصيغة الجمع وما يتفرّع عنها، غير انه لا يلبث على ما يكتب بارنز، ان يقول: "يدرك انه ينبغي له أن يبدأ باستخدام الصيغة المفردة عوضا منها". اما في القسط الثاني من المجموعة فيقدم بارنز نبرات مختلفة تنطلق مع سرد حكاية رسام بورتريه أصمّ أبكم، يحاول ان يتواصل فحسب، ناهيك بحكاية انجذاب فتّاك صوب البطل الايطالي القومي جوزيبي غاريبالدي وقصته الزوجية بعنوان "كاركاسون"، حيث نقع على مزيج من التخييل والتكهّن والتأمل على نسق "ببغاء فلوبير". يتجسّس "بطل العالمين" غاريبالدي، بفضل انتصارات بعثاته العسكرية في اميركا اللاتينية واوروبا، على زوجته الخائنة عبر جهاز تلسكوب ثبّت على سطح مركب احدى السفن، فيطلب من رجال طاقمه ان يتم إلقاء المرساة. "كاركاسون" قصة قصيرة او توشك ان تكون كذلك، لأن بارنز يكتفي بإمرار وقائع باعثة للاهتمام حصل عليها من هنا وهناك، يستخدمها ليجمع نقطتين في خطّ حياة جوّالة. تأتي الحكاية في أقل من اربعمئة كلمة، فرصةً يقنصها بارنز ليتحدّث عن "قانون يهزمه المحامون في المحصلة". يخطف بارنز قصة "ريح شرقية" الى بلدة ساحلية شرق انكلترا، ليكتب عن فيرنون الوافد الى البلدة قبل شهور في اطار خطته لترك حال اليأس تأخذ مجراها في مكان حيث "سماء مضجرة" و"بحر يفتقر الى الحياة". يصف بارنز الجغرافيا المتكافلة مع زائرها: "كان ذاك الشاطئ الشرقي. في خواتم الشهور يحصل المرء على قليل من الطقس السيئ وعلى كثير من اللاطقس. لاءمه الامر تماما، انتقل للاقامة في هذا المكان لكي تخلو حياته من اي طقس". ليس ثمة شيء بين المكان وجبال الاورال من حيث تعصف الريح التي تلامس وكيل العقارات الوحيد والمطلق الذي لا يلبث أن يرتبط بعلاقة جنسية مع نادلة تتحدر من اوروبا الشرقية يلتقيها في احد المطاعم بإسم "أفضل سمك مفلطح"! يعدّ فيرنون النساء اجزاء جسدية مقطّعة: "وجه عريض، شعر مستعجل وجسد مكتنز"، ومغامرته الجسدية الوجيزة تختتم تحت نير التفاصيل. يكتب بارنز: "ترفض الاجابة عن اي سؤال وعندما يحقق في المسألة اكثر، تختفي". لطالما أجاد بارنز التقرّب من العلاقات، ليوفّق في جمع الناس الذين يبحثون عن الاتحاد، فيما يفشل احدهم في الاجمال في فهم الآخر. يقشطون اول طبقة من المعوقات ليجدوا اخرى فأخرى. تتكرر تلك الثيمة في "ممارسة الحب مع جون ابدايك". تذوب وجهة نظر بارنز التهكمية والذكورية الحائرة في قالب كاريكاتوري، ليقدّم كاتبتين في منتصف العمر، متضامنتين مبدئيا، في حين تضمر كل واحدة شتى المشاعر السلبية ازاء الأخرى. تلك الرصاصة الاخيرة في ذخيرة بارنز الوصفية الحنونة للقمع البورجوازي. اما قصة "نبض" التي تمنح هويتها للمجموعة، فهي الأفضل بلا منازع. الراوي طفل وحيد لثنائي سعيد، يدوّن بارنز اختلاجاته بلسانه: "أظن الأمور تختلف حين تضمّ العائلة الصغيرة طفلاً واحداً بسبب انتفاء وجود فريقين متخاصمين، ليس هناك فريق للأطفال قبالة فريق الراشدين. هناك الثلاثة فحسب، وفي حين حظيت بغنج أكثر من سواي على الأرجح، تعلّمت كذلك وفي سن مبكرة ان أعيش في وسط عالم البالغين، لأنها اللعبة الوحيدة المتوافرة. ربما أخطأت في هذا الصدد. في وسعي ان أتخيّل جواب جانيس في حال طرحتم عليها اي سؤال يتعلّق باكتمال نموّي". جانيس زوجته، لكن والدته تأتي في المقام الاول. تحتفظ قصة "نبض" بركن على حدة بين قريناتها، ذلك انها تخرّب الاسلوب الامتثالي في تقديم الصراع بين الكنّة ووالدة الزوج. والحال ان هذا الخرق في الأعراف مقنع الى حدّ بعيد، يوائم حرفة بارنز التحليلية الدقيقة فيجعل القارئ يشكك في صوابية فهمه لمقاربة الراوي، وإن تبدّت منطقية. ذلك ان الامور تتبدّل عندما يغامر أحدهم في رؤية وجه العملة المستتر. يتضح ان مواقف جانيس فظيعة وانها سيدة صعبة المراس، غير انه لا يسعنا الجزم أنها مخطئة. نشرت اربع قصص من مجموعة "نبض" في مجلة "نيويوركر" قبل جمعها في كتاب. والحال ان جميع الحكايات تملك الدقة والعناية التي أوصلت مجلة التخييل الأميركية الذائعة الصيت الى المرتبة التي نعرفها. إذا كانت لبارنز فضيلة تستحق الذكر في قصصه المخطوفة الى نبرة متفهّمة، ففي اقترافها رفع مستحبّ للعلاقة الدرامية بين الجسد والذهن. |
|
رجوع
|
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|