القبو كان القبو يعتّق الفيءَ ويخمّرُ الظلالّ في بيتنا القديم، كنت أنزلُ إليه حين تتضخّمُ الظهيرة ُ وتسمنُ، أهبط ُ إليه من حرّ ٍ طويل القامة، كان القبو في السابق سطحاً، لقد قوّسته السنواتُ وحَنتْ ظهره الدهورُ، حتى صار قبواً، السلمُ القصيرُ بدرجاته الخمس كان شجرة سنط ٍ يبستْ حتى صارت درجاً خشبياً يولولُ حين أمرّ عليه وتتنحنحُ الدرجاتُ، أفيءُ إليه في الظهيرة، أريح رأسي على حجر منعش ٍ، داخل دهليز بضّ ٍ، فيه يتلطخ وجهي بالظل وتخترقُ جسدي الأفياءُ .
التجوّل في الرائحة أهيم بين الحشود، أضيعُ كفقّاعة ضوء، أترك هذه الهاء تفتّشُ عن معنى في رائحة المنغا وهي تدمع عسلاً، في شكل الجوافة وهي تبث الشكوى سكراً، في لون الخرمة حين تذوب روحها بين كفيك، أهيم بين الحشود مأخوذاً بنواة الأسكي دنيا وشكلها الشبيه بحصاة برتقالية . أنتَ هاءٌ تضيعُ في السوق بين سلال تعرض فتنتها وزنابيل تتعرّى، وهي ملأى بالطعم، تقيم مأدبة للغواية، وأنتَ طعينُ التفاح، جريحُ سفرجلةٍ، تتجولُ في رائحة سائلة ٍ، قرب تقاطع المرايا، عند زاوية الحرير، وأحياناً تجلس فوق دكة من قطيفة، متكئاً على حائط من أريج.
داء عصري كعادتها الضجّة ُ تحفرُ في الأعماق، وتقيم بين الأوردة كداء عصريّ، أنا أصلاً، حائرٌ بالأدواء، والعلاج لا يأتي من نجمة ... هنا الحجّارون يقصّون بمقصّات ٍ عملاقة الأحجارَ ويثلمون الريح في الجبل، ليس ثمة ضماد للسائل الأبيض في الحجر، ليس ثمة رشوشٌ لجرح كامن في حصاة . هنا عمال الطرقات بمثقاب ٍ إسطوانيّ كبير، يثقبون الهدأة َ، ويجوّفون الصمتَ كطبل ليقرعَه الهواء. ثمة من يُنكلُ بالتأمل ويحط من شأن الشرود، ثمة من يُزيح التمعّنَ جانباً ويركلُ الإنخطاف لدى الحائرين، ثمة من يفتحُ ثقباً في العزلة ويسرّبُ الأضواءَ إليها، لتتساوى مع الفوضى، لتتعايش مع الضغينة، الكلّ يصوم من أجل شيء ما، وليس هناك من يصوم عن الكلام، وحدها الضجّة تعلن البدء لسباق المسافات الطويلة، قاطعة الحياة إلى آخرها، قاطعة الطبيعة قِطَعاً ... قِطَعاً حتى النهاية .
درّاجات حيثما سرتُ لقيتُ درّاجات مركونة تعبى ومنهكة، على السّرج حبّاتُ عرق على قرون الدرّاجة ِ ختمُ أنامل وعلى الدواليب بقايا هواء، حيثما سرتُ لقيتُ درّاجاتٍ حبيسة السلاسل، مسروقة الأعضاء، عزلاءَ في الظلام، مغسولة في المطر، أحياناً اركبُ درّاجة ً لأدفعَ الحياة بها الى الأمام لأمدّ الزمنَ قليلاً خارج قياسي.
سياج أنه سياج ٌ قديم، أحبّ الطحالبَ حين تنمو عليه فيغدو مثل قطيفة خضراء، أحبّ النملَ يؤسّس ممالكه فيه ويلتهمُ أحجاره اللينة، أحبّ النباتات الغريبة تتفتح في ثقوبه الصلصالية، سياج واقف في الخلاء يرتدي الأصباغ الملوّنة وكتابات الطباشير التي تقول: الطحين سمّمته الدولة... الموت يجري كالوحل في شوارعنا... الرئيس قاتل والوزراء خونة الخ ... الخ .
عائلة عائلتي للطبيعة تؤول، والدليلُ أنّ أختي ساقية ٌ، انجبتْ يوماً توأماً من المحابس الذهبية، ومشطاً فضياً ومكحلة ً والشيطانُ على ما أقول شهيد... أخي النهرُ اشترى بموجة نخلتين ِ، بنصف تيّار ٍ اشترى قرى من القشّ وبقليل من الحصى ابتاع فدّاناً من الضوء، حتى علا فوق الضفاف فصار فناراً يرمش في الليل ليضيء الكواثل والحيازيم. عمتي الغابةُ غسلت الشَّعرَ الأخضرَ الطويلَ للأشجار بالشموس وأخذتْ حمام شمس هي وأحفادها من الجذور والأوراق والطيور في ساحل قريب هو صهر لها تزوج ذات يوم شجيرة صفصاف منها. عمّي الجبلُ وأنسباؤه من التلال الصغيرة صاروا يؤون عوائل الغيوم الشريدة، ويفتحون أبوابهم الحجرية للندى المهاجر ورذاذ الصباح الذي يكون قبيل الظهيرة عابر سبيل. خالتي الصحراءُ اقتطعت دونم فيء من إقطاعي ربّته الظلالُ وابتنتْ للبداة مسكناً، سقفه الظلّ وبابه وشبابيكه من الأفياء، لم يكُ كذباً ما رويتُ والشيطانُ على ما اقولُ شهيدْ .
رقم هاتفي الجديد حين لمحتُ طرفاً من المجهول صُعقتُ، تغيّرَ كلّ شيءٍ فيّ، هاشمُ غادرني لغيري، جسدي تقزّحَ، وجهي تطيّفَ في طيف نورانيّ ٍ، الكاملُ لا يسعدني، أن الناقص يشبهني، أن المختلفَ تفكك في بنياني وتعدّد في الباطن، حين لمحتُ طَرَفاً من المجهول، هو شيءٌ لا يوصفُ، فالموصوفُ غيابٌ، هزّني، حرّك أنفاسي، وأنا الآن أعيشُ وراء المعلوم، قريباً من زرقتهِ، بيتي يقع في المهبّ، بابي منجورٌ من الهواء وشباكي مصنوعٌ من ريح ٍ وهاتفي موصول بسلك من النسيم، رقمه : 00 ÷ 1 + أثير.
قطار الغابات قطارنا يقطع الغابات، يفرمها الى قطع خضراء، تتوهج في الليل، مثل فوانيس مصنوعة من اللازورد ِ، العصفورُ الحنطيّ يسحب حقلاً بمنقاره، الحمامة ُ تجرّ بيدراً، وأنا أجرّ سنواتٍ مثقلة ً بالحقائب، في كل حقيبة جرح يؤرّخ ماضيّ، كم رحلت فيما مضى داخل الرؤيا وكم سافرتُ في البريق الخاطف، أزرقَ الوجه، مأخوذاً بنداء بحـريّ، أخـــضرَ القدّ مخطوفاً بمخطوط ٍ لغابة، أصفر الوجنات مطعوناً بالذهب ِ، أقطع الأفق في قطار يقطع الغابات، الغيوم تسافر فوقنا والصقورُ تحرّكُ في طيرانها القمم الثقيلة َ وتثقبُ بمناقيرها الجبال الثلجية، وحدي في القـطار أقضي على الطريق وأسكره ُ بأقداح من الكحول.
|