كانت مصادفة محض، أن أكتب عن مخاوفي من تحول الإعلام المستقل إلى خرافة، تماما كما مبادئ أخرى في العراق، في اليوم ذاته الذي أعرف فيه ان ثمة دعوة قضائية ضد صحيفة العالم. لقد كان الهاجس الرئيس لكتابة ذلك المقال هو مدى تأثير "سياسات التمويل" على الإعلام المستقل، ولكني تعرضت ضمنا لما أسميته "التدخل الحكومي"، الذي ما زال محدودا ولكنه قائم بالقوة، ويمكن اللجوء اليه عند الحاجة، وتحديدا من خلال الدعاوى القضائية. وإن ذلك يبين بأننا لسنا بإزاء ايمان حقيقي بالتعددية وحرية الإعلام وإنما بإزاء ضعف السلطة، وليس الدولة، وعدم قدرتها حتى الآن على احتكار القوة بسسب من طبيعة الصراع القائم في العراق. وقد جاءت الدعوة القضائية ضد العالم لتؤكد ما ذهبنا اليه.
لا أظن أن مجرد إعلان التضامن، وتنظيم حملات الدعم الإعلامية، أو التطوع للدفاع في المحاكم، على أهميتها، تمثل الرد المناسب على هذه الإنتهاكات المتكررة لمبدأي حرية التعبير، وحق الحصول على المعلومات ونشرها. بل لا بد من مراجعة شاملة للأطر الدستورية والقانونية المتعلقة بهذين المبدأين، وإلى تحليل عميق للآليات التي يمكن من خلالها تقييدهما، أو انتهاكهما، وإلى الوسائل التي يمكن اعتمادها في سبيل تعزيز هذين المبدأين وتكريسهما في الحياة العامة.
من يمكنه القيام بهذا الدور؟ أعتقد إن الاجابة عن هذا السؤال ليست بسيطة في ظل التعقيد الشديد، اجتماعيا وسياسيا في العراق اليوم. ولكن محاولة الإجابة تفتح الطرق لتحليل اداء، وإعادة تقييم ثلاثة قطاعات رئيسة مرشحة، ولو نظريا، للقيام بهذا الدور، وأقصد هنا: الإعلام، والمثقين، ومنظمات المجتمع المدني. وأكرر إنني ما زلت هنا اتحدث نظريا، ذلك أنني ما زلت أعتقد أن هذه القوى الثلاث ما زالت غير قادرة على وعي دورها التاريخي، او على تلمس طريقها وفقا لما تفرضه عليها هذه المسميات الثلاثة من حمولات مفاهيمية وتاريخية. بل وأجادل إن هذه القوى لم تنساق فقط للدخول في لعبة الاستقطابات الطائفية السياسية، إثنيا ومذهبيا، وإنما كانت فاعلا أساسيا فيه، بوعي أم من دونه.
منذ اللحظة الاولى لما بعد نيسان 2003 بدا واضحا غياب المهنية شبه المطلق في الإعلام العراقي المقروء والمرئي والمسموع، وإنه انقسم إثنيا ومذهبيا، مع تراجع الأيديولوجيا والعقيدة السياسية لتكون مجرد ملحق بهذا الانقسام الرئيسي. وإذا كان الإعلام المملوك لأحزاب او شخصيات سياسية يستمد خطابه من هذا الانقسام، فإن الإعلام الرسمي (شبكة الإعلام العراقي)، وبسبب من طبيعة الدولة وموازين القوة فيها، وبسبب من فشله في الحفاظ على استقلاليته المنصوص عليها قانونيا، وبسبب من توجهات العاملين فيه، انتهى إلى يكون داعما لهذا الإنقسام، رمزيا (مواعيد الصلاة، إعلان رمضان، موعد مدفع الإفطار)، أو على مستوى الخطاب (استخدام مفردات: الإرهاب، الشهيد)، أو على مستوى التغطية الإعلامية. أما الإعلام "المستقل" نظريا، فقد وقع هو الآخر في هذا الانقسام عمليا، ويمكنك أن تصنف أبرز هذه الصحف تبعا لانتماءات مالكيها او رؤساء تحريرها، وتبعا لتوجهات العاملين فيها.
كما فشل الإعلاميون أنفسهم في ان يشكلوا تجمعا يضمهم بصفتهم الفئوية بعيدا عن أي استقطابات اخرى، ولم تستطع نقابة الصحفيين في أن تستمر في جمعهم إلا من خلال الثقافة التي حكمت النقابة خلال سنوات التسعينات (المنح الحكومية، قطع الاراضي، قانون حماية الصحفيين بصيغته المطروحة من النقابة نفسها). هكذا لم نجد شيئا عن حق الوصول إلى المعلومات، وحرية التعبير، وتنظيم المؤسسات الإعلامية، وحقوق الصحفيين المهنية ..الخ
وما يصدق على الإعلام، يصدق بدرجة أكبر على "المثقف" العراقي، الذي لم يستطع أن يغادر مأزقه التاريخي في علاقته بالدولة، وعلاقته بالقابضين على السلطة، وعلاقته بالأحزاب ذات البنى الطائفية القائمة اليوم. هكذا بقينا غير قادرين حتى اللحظة من الحديث عن "مسؤولية" ما، أو على الأقل "صوتا" ما للمثقف العراقي. لم يكتب أحدهم "صيغة اتهام" ما، على طريقة اميل زولا، ولم يمارس احدهم "دورا" ما في "المجال العام" بعيدا عن حقله الثقافي الخاص، ولم يدع أحدهم حتى لمناقشة "السلطة الاخلاقية" للمثقف في اللحظة التاريخية التأسيسية المفترضة التي نعيشها في العراق اليوم.
أما منظمات المجتمع المدني فإن لي رأيا خاصا فيها، على الرغم من أنني منذ العام 1998 أعد نفسي ناشطا مدنيا، وشريكا في هذه المنظومة. فمن المعروف المجتمع المدني نتاج للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي حكمت العالم الغربي على مدى القرون الثلاثة الماضية، يتعلق الأمر، إذن، بصيرورة تاريخية أنتجت محاولات فلسفية وفكرية، وممارسات عملية، تميز بين الدولة والمجتمع، بين المجال العام والمجال الخاص، فالدولة والسلطة السياسية، هما نتاج لعقد اجتماعي. ويبقى الشعب/ المجتمع هو مصدر السلطات جميعا. أما في العراق، فان مفهوم المجتمع المدني لا يرتكز إلى تأريخ، وهو كما يصفه الطاهر لبيب، مفهوم طارئ لا يحيل على ممارسة حقيقية، ولا على حقيقة أن الدول نفسها، التي يفترض أنه نشأ ضدها، تستعمله لتحديد من هم أعضاؤه، ومن هم الخارجون عنه!
هكذا ظلت هذه المنظمات تشكو من ضعف بنيوي حقيقي، ومن مشكلات التمويل، ومن غياب ثقافة العمل التطوعي، ومن عدم وعيها بدورها وحدوده، ومن عدم تمكنها من تجاوز الانقسام المجتمعى الإثني أو الديني أو المذهبي، ومن بقاء عملها في حدود المجتمعات المحلية Community المنقسمة من دون تجاوزها إلا فيما ندر إلى حدود المجتمع ككل Society، ومن عدم قدرتها حتى اللحظة عن القيام بدورها كوسيط حقيقي بين المجتمع والدولة.
في ظل هذا الواقع هل يمكن التفكير بامكانية قيام لوبي حقيقي يضم هذه الاطراف الثلاثة معا، قادر على الدفاع عن متطلبات أي مجتمع مدني، و قادر على تجاوز خلافاته والإجتماع على مبادئ أساسية والدفاع عنها (هكذا يدافع عن إغلاق مكتب الجزيرة، وإقالة فلاح المشعل غير المهنية بالطريقة نفسها التي يدافع فيها عن العالم)، وقادر على الفعل والتأثير والتغيير؟
لم تكن لحظة إحالة "العالم" إلى القضاء الإنتهاك الأول في عراق ما بعد 2003، وبالتأكيد لن يكون الأخير، وليس من طريقة للخلاص سوى في الوقوف بتجرد موضوعي، وأخلاقي، وبحزم ضد هذه الانتهاكات وتعريتها، وبشكل جماعي لا فردي، دفاعا عما تبقى من الحلم. |