المهندسة العراقية زهاء حديد لم تفز أخيراً بأرفع جائزة معمارية بريطانية، بل الجائزة فازت بزهاء حديد. أقرّ بذلك نقاد بريطانيون تابعوا ترشيحها أربع مرات للجائزة التي تمنح لمشاريع منجزة. المرة الأولى عن مبنى شركة السيارات "بي إم دبليو" في لايبزيغ بألمانيا عام 2005، والثانية عن مركز العلوم في ولفسبيرغ، بألمانيا عام 2006، والثالثة عن محطات قطار بالنمسا عام 2008. وكان الاتجاه هذه المرة أيضاً ضد منحها الجائزة عن بناء "متحف فنون القرن 21" الذي اشتهر باسمه المختصر بالأعداد الرومانية MAXXI. فالصورة الشائعة عنه، منذ عُرضت تصاميمه قبل عشر سنوات أنه "لوحة سريالية تتشابك فيها خطوط متداخلة، وجدران ليست منحنية، فحسب بل متموجة وملتوية على نفسها، كما لو كانت المماشي تنقلب إلى سطوح"!
وكما يحدث عادة مع أعمال زهاء، ينبغي أن تمشيها حتى تراها. وقد مشتها "هيئة التحكيم" التي يشرف عليها "المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين" ووجدت "المبنى رغم كل ألاعيب التكوينات المثيرة، مُنَظّماً بشكل عقلاني في خمسة أجنحة، يضيئها بشجاعة ضوء النهار، وسقوف متمعجة تتحكم بالأضواء الخارجية، وكوى، وحزم أشعة توجه وتثير زوار المتحف، وتخلق الشعور بارتقاء الفضاءات". ومعمار زهاء لا يملأ الفضاءات، بل يجعلنا نراها. وعندما رأتها "هيئة التحكيم" اكتشفت أن "هذه القطعة المعمارية لا توضح المسارات للزائر، بل تهبه بالأحرى الشعور بالاستكشاف".
هل هي صحوة ضمير مجتمع معماري يعترف أخيراً بأن هذه "القطعة المعمارية الرشيدة خلاصة سنوات من تجارب زهاء لم يُستخدم منها حتى الآن سوى جزء ضئيل. وهي حصيلة محاولاتها المثابرة لإنشاء منظر بسلسلة فضاءات مسامية مرسومة بخط واحد طوّاف حر"؟ أم أن هذه العبارات الجميلة تحلية كأس مرّ تجرّعته "هيئة التحكيم" إذ منحتها الجائزة المخصصة لعمل معماري بريطاني، وتحمل اسم "ستيرلنغ"، أشهر معماريي بريطانيا في القرن الماضي، وزهاء ليست فقط أجنبية، وامرأة في مهنة يسيطر عليها الذكور، بل عربية، ومسلمة، وفوق هذا كله عراقية، و"متحف القرن 21" ليس في بريطانيا بل في إيطاليا؟ وحاول سيمون جينكنز، رئيس "الصندوق الوطني" لحماية التراث البريطاني، استباق الأحداث بالإعلان أن زهاء امرأة خيالية، وأعمالها تصلح للعراق الصحراوي. وهو تصريح معيب بتقدير زهاء التي تساءلت: "هل مدينة أور خيال"؟ والمعيب أن يرأس صندوق حماية التراث من يجهل "جنائن بابل المعلقة"، والتي تعتبر من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، ولم يقرأ عشرات الكتب بالإنجليزية عن مهد تراث البشرية، في العراق، وقد ألهمت أطلاله زهاء وهي صبية.
ولا تنكر المهندسة العراقية فضل بريطانيا، حيث درست العمارة، وأقامت مكتبها، بل تعترف بأنها قد تدين بشهرتها لوجودها في لندن، وتفكر لحظة، وتقول: "لا أعرف". وتسّلم زهاء بزهائها عندما تتذكر أنها اشتهرت في الصين. "هذه هي أنا"! وكانت قد فازت، وهي معيدة في "كلية الهندسة" بأول جائزة عالمية عام 1983 عن مسابقة تصميم بناية "الذروة" على السفوح المحيطة بمدينة هونغ كونغ، والتي شارك فيها 538 معمارياً عالمياً، بينهم بعض أساتذتها. وفازت عام 1995 على 296 مهندساً بتصميم "دار الأوبرا" في مدينة كارديف ببريطانيا. وبلغت الحجج العابثة ضدها حدّ الادعاء بأن تصميمها يبدو كالمعابد المقدسة لدى المسلمين. وطُلبوا منها تعديله، وإعادة المسابقة من جديد، وعندما فعلت ذلك وفازت ثانية، ألغوا المشروع!
وفرضت صدمة حرمانها ما يشبه الحظر على مكتبها المعماري، ولم تنقذها سوى معونة أبيها، رجل المال والأعمال محمد حديد. آنذاك قررت أنها لن تستطيع "التعويل على الأسرة دائماً، والاكتفاء بالقعود والمواء". وتعلمت أن تبدع، ليس تصاميم فائزة فحسب، بل تبدع أيضاً فرص ووسائل تنفيذها. وصرحت بمناسبة منحها الجائزة البريطانية أنها لا تُحبذ أن تكون مقصية في بريطانيا، لكن إذا فُرض عليها البقاء مقصية، فستواصل العمل من هناك؛ "فالمكان القصي لطيف"!
ويعتبر النقاد لقبها "حديد" رمزاً لصرامتها في إدارة مشاريعها. وهي في ذلك من معدن بنّائي العراق الذين يسمون "أسطة"؛ أي "أستاذ". ويصعب عليّ كتمان ضحكات الجذل عندما أرى الهيبة التي تفرضها حواليها. اعترفتُ لها بذلك عندما التقينا أول مرة عام 1996 وسألتني كيف كتبت عنها مرات عدة دون أن أفكر في الاتصال بها؟ وكيف الاتصال بمن تعاملها الصحافة العالمية كنجوم هوليوود؟ قبل الدخول إلى شقتها في السطوح قرب مكتبها شرق لندن، ينزعون أحذيتهم في المصعد الذي ينفتح مباشرة داخل غرفة الجلوس، ويبهر أبصارهم البياض الثلجي في كل شيء: السقف، الأرضية، الجدران، الأرائك، وحتى البساط يمشون عليه بحذر من يمشي على البيض. ويقارنون صوتها العميق المشروخ الذي يُرجف قلوبهم بأصوات مشاهير هوليوود، ذلك لأنه لم يحدث لهم أن سمعوا شجوَ امرأة عراقية تتكلم حتى لا تبكي. قبيل الإعلان عن منحها وسام الإمبراطورية البريطانية عام 2002 سألوني من "بي بي سي" المساعدة في العثور عليها لمعرفة رأيها، وعندما وجدتها في باريس قالت إنها سعيدة بذلك. لكن ولي العهد البريطاني، لم يكن سعيداً، وسألها عندما قلدها الوسام، عما إذا كانت تمارس عملها في بريطانيا؟ وانفجرت زهاء ضاحكة.
وإذا كانت زهاء، حسب "متحف التصميم" البريطاني، لا تجيد التنظير في العمارة والسياسة، فذلك لأنها تشعر بعقلها وتفكر بقلبها. عندما تتحدث عن تصميمها بناية تقول إنها تتكون من أربعة سطوح، ثم تستدرك "حسناً، من خمسة"! وحين سُئلت أخيراً عن صحة خبر تكليفها ببناء عمارة البنك المركزي في بغداد، أجابت: "أنا فخورة جداً بأن أكون عراقية"، واستدركتْ: "سيكون من الصعب عاطفياً الذهاب إلى بغداد". وذكرت أنها لم تذهب للعراق منذ غادرته قبل 40 عاماً، ولن تجد هناك والديها اللذين غادرا الحياة.
واللقاء بزهاء كاللقاء بجلجامش، بطل أقدم ملحمة معروفة في التاريخ، كل ما يمكن أن تقوله "عاشْ من شافَكْ"! كتبتُ لها ذلك في رسالة بالموبايل في الأسبوع الماضي، وفاجأني جوابها في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. هكذا هي زهاء، صبية في الستين من العمر مندفعة في تحقيق الأفكار المبدعة التي حُرمت طويلاً من بنائها. خريطة أعمالها لا تُرى إلا من الفضاء الخارجي، فهي تشمل جميع القارات؛ 25 عملاً منجزاً، و56 قيد الإنشاء، منها 10 في بلدان عربية، و31 تصميماً ومشروعاً فازت بها، لكن لم تنفذ، و71 تصاميم معارض، و40 لمنتجات فنية: قطع حلي، وزينة، وأثاث، وأحذية. هذه المرأة من بلد مقصي طويلاً يُبدعُ عندما تضبطُ معه حضارات عالمية، سومرية، وبابلية، وعربية، وإسلامية. ويبدع زهاء حديد. |