نايف كريري
انتهى الدكتور عبدالله إبراهيم الناقد العراقي المعروف خلال الشهور الماضية، من الإعداد للطبعة الجديدة والنهائية من موسوعته (موسوعة السرد العربي)، بعد عمل دام ما يقارب 20 عاماً، وذلك بعد أن وصل عدد مجلداتها إلى ثمانية دون فهارسها التفصيلية، وجاءت في 2475 صفحة، والتي من المرجح أن تتم طباعتها عام 2012 من قبل مؤسسة محمد بن راشد الثقافية بدبي.
"العالم" تنشر هذا الحوار الذي يستعرض فيه ابراهيم مواقفه النقدية من الموروث السردي العربي الذي عاش معه طيلة الاعوام الماضية، مؤكدا في الوقت نفسه ان الانتاج الثقافي في العراق "لم يفقد وهجه" وإنما انشغل بظروف صعبة ومعقدة وواجه تحديات وضغوطا هائلة، سرعان ما سينجح في تجاوزها.
•هل تعتقد أن (موسوعة السرد العربي) التي تعمل عليها جمعت كل ما يتعلق بالسرد العربي قديمه وحديثه؟
- لا يمكن الادعاء أن موسوعة أو موسوعتين أو حتى عشر موسوعات تحيط بالظاهرة السردية في الثقافة العربية بصورة كاملة، فهذا أمر مستبعد؛ لأننا بإزاء ظاهرة كبيرة تحيط بالثقافة العربية خلال أكثر من ألف وخمسمائة سنة، ومنذ عشرين عاما أعمل على هذه الموسوعة، وقد شارفت الآن على نهايات هذا المشروع الكبير. لكن المادة السردية العربية تحتاج إلى جهود عشرات الباحثين الذين ينبغي أن ينصرفوا لها وصفاً وتحليلاً وتأويلاً واستنطاقاً .
أما أنا فقد تقصيت هذه الظاهرة منذ أصولها في العصر الجاهلي مروراً بالعلاقة المتوترة بين السرد والإسلام ثم ظهور الأنواع الكبرى في العصور الوسطى كالمقامات، والحكايات الخرافية، والسير الشعبية، وتحولها إلى أنواع سيطرت على السرد القديم عدة قرون، ثم تابعت انهيارها في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، فتحولت المادة السردية الهائلة إلى مادة هلامية بلا نوع، ثم كشفت كيفية انبثاق النوع الروائي من هذه المادة الخام في منتصف القرن التاسع عشر على وجه التقريب حيث ظهرت الرواية الحديثة.
• هل هناك فرق بين الرواية النسائية والرواية النسوية؟
- في موسوعة السرد وضعت تفريقاً دقيقاً بينهما، فرواية النساء هي التي تكتبها المرأة عن الشؤون العامة كالقضايا الوطنية أو الاجتماعية أو السياسية، وهذا معروف في الرواية العربية منذ القرن التاسع عشر حيث بدأت المرأة تنخرط في صلب الحياة الاجتماعية، وتقوم بالكتابة ضمن الشؤون العامة، أما الرواية النسوية فهي ظاهرة حديثة العهد لم يمضِ عليها إلاّ نحو عقدين، وتقوم على فرضية اقتراح هوية خاصة، ومتميزة للأنثى، فلا تعنى بالشأن العام إنما تقترح هوية أنثوية، وتحاول أن تميز هذه الهوية بمواجهة هوية الذكر، وتقوم على ثلاثة أركان أساسية اشتققتها من تحليل عدد كبير من الروايات النسوية، وهي: أولاً الاحتفاء بالجسد الأنثوي كميزة أنثوية، فتجد وصفاً شاملاً للجسد، ورغباته. الجسد الأنثوي هو الموضوع المركزي في الرواية النسوية، وثانياً طرحت تلك الرواية رؤية أنثوية للعالم بديلاً عن الرؤية الذكورية له، فهي تقترح رؤية مختلفة عن الرؤية السائدة التي أنتجها الرجل، والمقوم الثالث من مقومات الرواية النسوية هو نقد النظام الأبوي الذكوري حتى الديني.
• ما الأسباب التي أدت إلى لجوء الروائي إلى طرح الرواية التاريخية وعودتها؟
- هذه ظاهرة لافتة للانتباه، فقد بدأت الرواية العربية في القرن التاسع عشر أصلاً بداية تاريخية، والمثال الذي يضرب دائماً هو جرجي زيدان، ثم بدايات نجيب محفوظ ثم ظهور روائيين آخرين في هذا المجال، وبظهور المجتمع المدني في منتصف القرن العشرين توارت هذه الرواية إلى الخلف، وظهرت الرواية الاجتماعية والسياسية.
لكنه منذ حوالي عقد أو أكثر لوحظ ازدهار كبير للرواية التاريخية. وتحتاج هذه الظاهرة إلى تفسير، فكثير من الكتاب غيروا اهتماماتهم، وبدؤوا يكتبون عن الرواية التاريخية، ووراء ذلك أسباب، فربما تكون محاولة إحياء نماذج كبرى يقع استلهامها من أجل أن تعرض كأمثلة دالة أمام مجتمعات تفككت أواصرها الاجتماعية التقليدية، ولم يعد لها مثال أعلى. وربما هي الحيرة والتشتت وعدم إمكانية تحقيق هوية ثقافية، فيستعين الكاتب بالتاريخ ليعرض أمثلة مناظرة حيث كان للهوية معنى ودور وقيمة، وربما يتصل ذلك بالحاجة إلى تقديم البطل التاريخي الذي ينتمي إلى مجتمعه، فالمجتمعات المعاصرة محكومة بالأنانية، والطمع، والخذلان، ولم تعد للبطل مركزية في العالم الحديث، وذلك بالضد من المجتمعات القديمة حيث للشخصية التاريخية قيمة كالفارس والنبي والقديس والولي والملك والإمبراطور.
• هناك من يقول إن الفلسفة الإسلامية لم تكن سوى ناقل للفلسفة اليونانية ولم تأتِ بجديد؟
- دعنا في البداية نسأل ما هي الفلسفة؟ هي إنتاج مفاهيم وإنتاج نظم للتحليل تتعرض لما وراء الطبيعة والميتافيزيقيا والقضايا الاجتماعية والسياسية، من هذه الناحية من الصعب الحديث عن إنتاج مفاهيم وأنساق فلسفية عند العرب، فالواقع إذا ما بحثنا عما يمكن أن نسميه فلسفة عند العرب نجدها في علم الكلام، وقد نشأ علم الكلام في صدر الإسلام ونشأ نشأة بدائية كأي علم جديد، ثم تطور وظل يتطور إلى القرن الخامس .
وفي علم الكلام نجد كافة الأسئلة المتصلة بالفقه الإسلامي من مفاهيم حول الإلهية، حول النبوة، حول كلام الله، حول القدم، حول الحدوث، حول العدل، حول المساواة وأكاد أقول: إننا إذا ما أردنا أن نبحث عن الفكر الإسلامي الديني بوجهه الفلسفي فإننا نجده في علم الكلام.أما الفلسفة التي ظهرت عند الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد فهي مزيج من علم الكلام والفلسفة الإغريقية، وكان العصر الذي هم فيه يحتم عليهم التفاعل مع الثقافات الأخرى وبشكل إيجابي وليس بشكل دوني كما يقع في عصرنا الآن حيث تستعبد المفاهيم القادمة من ثقافات أخرى المثقفين العرب والمفكرين العرب .
فحينما نتحدث عن القرن الثالث والرابع والخامس الهجري نتحدث عن ثقافة عربية إسلامية جامحة تتفاعل بقوة مع الثقافات الأخرى ولهذا أخذ المسلمون المفاهيم الفلسفية الإغريقية وتحاوروا معها وأحياناً تفاعلوا معها ولا نعدم تطويراً لها عند ابن سينا وابن رشد إلى ذلك فقد قام العرب بوظيفة أخرى فيما يخص الفلسفة الإغريقية إذْ حملوا هذه الفلسفة وأوصلوها في فترة ضياع وخمود العصور الوسطى في الغرب حملها العرب والمسلمون وأوصلوها إلى العصور الحديثة، طبعاً فكرة الحامل هذه مهمة جداً أنت تحمل ثقافة أمة أخرى وتجري عليها ما تجري من آراء ونقاشات ثم توصلها إلى عصر آخر. لكن لا ينتقص العرب إذا لم يظهر لهم فكر فلسفي خالص لأنه في القرون الوسطى لم تكن الفلسفة ذات أهمية فنحن لا نجد في الواقع طوال القرون الوسطى الحديث عن فلسفة حتى عندما أتحدث عن الفلسفة المسيحية فهي فلسفة لاهوتية حينما نتحدث عن الفلسفة الإسلامية فهي علم كلام إسلامي.
•بعد انتهاء وظيفة الحامل ووصول التراث الإغريقي الفلسفي للغرب هل ما ذكرته من الأسماء السابقة طور شيئاً يذكر فيها؟
- إذا أردت التفصيل فالعرب قد قاموا بأمرين؛ الأول ترجموا بعض كتب الفلسفة، والثاني شرحوا وفسروا بعض الكتب الفلسفية خلال فترة العصر الوسيط حيث قامت الفلسفة اللاهوتية المسيحية بطمس كل مظاهر التفكير الإغريقي والقضاء عليها؛ لأنها اعتبرت هذه أفكاراً وثنية لا تتفق مع العقيدة المسيحية التي انتشرت في أوروبا، فأين انتقلت الفلسفة؟ انتقلت إلى العالم الإسلامي عند الفلاسفة الذين أشرت إليهم وآخرين، وحينما تمكن الغربيون من التخلص من هيمنة الكنيسة المسيحية بطبيعة الحال عادوا إلى الحقبة الإغريقية وعثروا على معظم النصوص الأصلية، واستكملوا ما فقد منها عن طريق الترجمات العربية لكنهم استفادوا من الشروحات التي تقدم بها ابن رشد على وجه التحديد، فقد قام بشرح معظم مؤلفات أرسطو ولهذا يعتبر هو الشارح الأكبر.
والآن هناك تدقيقات صارمة على شروحات ابن رشد والبعض يذهب إلى أن ابن رشد لم يكن على دراية بنسق الفلسفة الإغريقية على وجه التحديد من ذلك على سبيل المثال مفهومه للشعر؛ تحدث أرسطو في كتابه فن الشعر عن التراجيديا وعن الكوميديا أي عن المآسي والملاهي المسرحية الإغريقية وحينما ترجم بشر ابن متى هذا الكتاب لم يكن دقيقاً في ترجمته لأنه حين ترجمه من السريانية إلى العربية فقد كثيراً من الدقة وعلى هذه الترجمة السيئة بنى ابن رشد تفسيره فتوصل إلى أن التراجيديا الإغريقية هي المديح وشعره عند العرب، وأن الكوميديا هي شعر الهجاء عند العرب وبالطبع هذه مغالطة لا يمكن قبولها على الإطلاق لأن التراجيديا مسرحية ذات نوع وقواعد وأبطال وحبكة، بينما قصيدة المديح عندنا شاعر يقف بمواجهة ممدوح ثم يضفي عليه أمجاداً كثير منها مختلقة .
• أليس العلم هذا نابعا من الفلسفة؟
- لا.. الفلسفة هي تأملات مجردة قائمة على نمط من التركيب العقلي ولا يمكن البرهنة عليها إلاّ من خلال المنطق والجدل، أما العلم فقائم على الملاحظة والتجربة والبرهان الدقيق ويعد له في المختبرات ويجرب عشرات المرات ويستخرج منه قوانين تبنى عليها كثير من شؤون الحياة ولو لم تختبر فإن هذه القوانين قد لا تمكننا من تحقيق النتائج، فالعلم شيء والفلسفة شيء آخر.
• هل تظن أن الوهج الثقافي للعراق سيعود مجدداً؟
- لم ينطفئ الوهج الثقافي للعراق، وهذه المحن التي مر بها سوف تصقل وتثري ثقافته. ويعرف الجميع أن العراق قد تعرض إلى محن كبيرة قد تكون شغلت الناس عن الاهتمام بالأدب، لكن هذا لا يعني أن المخيلة العراقية قد انتهى عطاؤها، فالثقافة العراقية غنية، ولها تقاليد راسخة في الشعر والسرد والفنون التشكيلية والمسرح، وسرعان ما تلتقط أنفاسها في حقبة تتعرض فيها لنوع من الضغط والتهديد. وسوف تستأنف هذه الثقافة إشعاعها على الثقافة العربية .
لا أجد أن هناك تراجعا بالمعنى الكامل، إنما هناك انشغال بالظرف الصعب الذي تمر به البلاد من حرب شبه أهلية واحتلال واستبداد. ولم يعد المثقفون العرب يعرفون ما الذي يجري في العراق لكن البلد ظل نتاجا متميزا في مجال الشعر والرواية والمسرح والفن التشكيلي. ولكن بشكل عام العراق متصل بالمجتمع العربي كاملاً، وعموم الأدب العربي، وأعتقد أنه يتعرض لبعض التحديات وهي كثر أولاً انهارت التقاليد الأدبية القديمة ونحن بإزاء تقاليد أدبية جديدة لم يعترف بها بشكل كامل سواءً في النقد والرواية والفنون التشكيلية والمسرح، وهذه تحتاج إلى عقود ليستقيم أمرها ويعترف بها، فما زالت المخيلة العامة متصلة بالثقافات القديمة ولم تتقبل الثقافات الجديدة بشكل عام، هذا ناهيك عن الظروف والضغوط المجتمعية التي تعصف بمجتمعاتنا والتي قد ترسم لهذه الثقافة في هذا البلد أو ذاك ظروفًا صعبة لا تمكننا من رؤية الحركة الثقافية بطبيعتها الحقيقية.
|