جهاد الترك
كان يمكن لهذا الكتاب ألا يبصر النور. أن يبقى في دائرة الظل مادة أولية مكدّسة في الترسانة الفكرية المعقدة لمفهوم تشومسكي، ولو حصل ذلك، على سبيل الافتراض، لما انتقص شيء من قدره. ولا من خطورة الحقائق التي دأب على التقاطها والتلويح بها، منذ عقود. تحدوه في ذلك رغبة جامحة وسباق مع الزمن لحمل الرأي العام الأميركي على الانتقال من ضفة الى أخرى يفصل بينهما مياه آسنة وخبيثة وأهوال: من صيغة التسليم الهش بسياسات "الامبراطورية" الى الشروع في تكوين مناخ من شأنه أن يحتضن ضرباً من التشكيك والانتقاد والمساءلة. والأرجح ان هذا هو الثالوث "المقدس" الذي ما فتئ يروّج له في سائر كتاباته من دون استثناء. كان يمكن لهذا العمل ان يبقى مشروعاً للكتابة فقط جاهزاً للتوظيف في اللحظة المناسبة. أو عندما تدعو الحاجة الى ذلك، وغالباً ما يختار تشومسكي في هذا السياق، توجيه ضرباته الموجعة الى الادارات الأميركية المتعاقبة في الوقت الملائم. هكذا يتوازن مع نفسه ومع الملايين من قرائه داخل الولايات المتحدة وخارجها. يتملك القارئ أو يكاد، ممّن يتتبعون اصدارات تشومسكي، إحساس بأن هذا الكتاب قد وُضع في الأساس، ترجيحاً لمواقف سبق له أن أعلنها واستثمرها على نحول كامل مراراً وتكراراً. ولم تعد تشكل حافزاً ملحاً للتداول بها من جديد على النحو الذي جاءت به في العمل المذكور. لم يقدم على تضمين كتابه، والحال هذه، أصنافاً من المداهمات الصاعقة أو المفاجئة على الأقل، التي كان يعتمدها في كتابات سابقة لإلقاء "الرعب" في قلوب المسؤولين وجعلهم يتعرّقون كثيراً وطويلاً من جراء احالة ملفاتهم الغامضة على الرأي العام. اكتفى، على الإغلب، بأن يعيد تذكير قرائه بأن سنواته الاثنتين والثمانين لم تفتّ من عضده ولم تنل من صلابته. وهو لا يزال كما كان منذ خمسين عاماً وأكثر ذلك "المقاتل الشرس" والمشاغب الذي لا يؤتمن لوداعته كما يتعذر الاطمئنان الى هدوء يزعم انه من صفاته الأصيلة. لا شيء جديداً في الكتاب، على الأرجح، يبعث على الاصابة بقشعريرة الكشف عن نمط من الحقائق والممارسات المستهجنة في أروقة السلطة تعلن للمرة الأولى. لا شيء مشابهاً من هذا القبيل، وقد اعتاد هذا المحارب القديم أن يتحيّن الفرص لاستدراج من يتهمهم بالفساد السياسي والأخلاقي الى منازلات يصعب عليهم التملص منها.
[ من صنف "الجماهير" قد لا تغدو هذه التصورات جزءاً لا يتجزأ من الأفكار والمفاهيم والمعلومات التي أقحمها الكاتب على نحو من التكثيف الموثق الذي يقطع الأنفاس أحياناً ويرخي ظلالاً من الذهول أحياناً أخرى. على النقيض من ذلك، قد تسعى هذه التصورات الى استعادة شيء كثير من نبض تشومسكي وتندفقه المثير للإعجاب الذي تلقفناه في كتابات سابقة وتفتقر اليه في الاصدار المذكور. ومع ذلك، لا يتنازل هذا المفكر الكبير عن أي من مكونات حيويته الفائقة في مخطابة "جماهيره" على استقطابها أثناء العقود الخمسة الأخيرة. وهي فعلاً تندرج في سياق هذه "التسمية" التي قد توحي بأنها من ظلال المناخات الايديولوجية التي بات وجودها أمراً مشكوكاً فيه للغاية في الألفية الثالثة. انها من صنف الجماهير، بشكل أو بآخر، صنعها تشومسكي بنفسه رويداً رويداً بهدوء وصبر قلّ نظيرهما وكان يستهدف بصنيعته هذه ان يتمكن، في نهاية المطاف، من حشد الناس العاديين والأكثرية الساحقة من النخب السياسية والثقافية في الولايات المتحدة لتشكيل فئة متيقظة ذات وعي انتقادي واضح وعميق للحد من السقوط التدريجي للامبراطورية في جعبة المصالح المالية الكبرى. نجح في استمالة شريحة واسعة جداً من المواطنين الأميركيين. وفشل فشلاً ذريعاً في استمالة العصب الرئيسي للطبقة السياسية والفكرية النافذة. ورغم ذلك، بدا ان النجاح الأهم الذي حققه تشومسكي قد تمثل، على الأغلب، في حسم خياراته على هذا الصعيد. أدرك ان "جماهيره" التي يمكن الاعتداد بها هي تلك التي ينتظم في عدادها السواد الأعظم من المواطنين الأميركيين، وقد حال بين هؤلاء ومحاولتهم استيعاب الدلالات الغامضة للسياسية الخارجية لأميركا، قدرهم الجغرافي الصعب. فقد وجدوا أنفسهم قبل الحربين العالميتين وبعدهما وأثناء الحرب الباردة وما أعقبها، انهم بمنأى حقيقي عن العالم. هم في واد والعالم في واد آخر. أسفر هذا الاحساس الموحش بالعزلة الجغرافية عن ارتباك واضح في العقل الأميركي مصحوباً، على الأرجح، بإحساس مماثل بخوف غامض لا أسباب محددة له. كان من أولى نتائجه، ذلك التسليم التلقائي بالكيفية التي تُدار بها مقاليد السلطة على ايقاع نظام سياسي بدا ولا يزال، نموذجياً الى حد كبير في مضمونه الانساني والاجتماعي والاقتصادي. ومع ذلك، كان ثمة ما يدعو تشومسكي، كما يظهر في سائر مؤلفاته، الى النفاذ عميقاً خلف "الأسوار" الشاهقة لهذا النظام السياسي المتطور، الى حيث تتجلى الماكينة الحقيقية بكامل عريها وجبروتها وامكاناتها التي تشبه الخرافة، اذا جاز التعبير. بدت هذه الماكينة بالنسبة اليه مصنعاً لا نظير له في تاريخ البشرية قاطبة يمتلك من القدرات الخارقة ما يجعله ذا هيمنة استثنائية على موارد الولايات المتحدة ومقدراتها وحجمها المتفاقم في الزمن الراهن وفي المستقبل أيضاً. الى هذه الآلة الجهنمية التي تتوزع السيطرة عليها ورسم سيناريواتها، وفقاً لمزاعم تشومسكي في هذا الكتاب وفي سواه، الشركات العملاقة عابرة القارات وأساطين النفط والصناعة العسكرية وبارونات الاعلام المكتوب والمرئي وأباطرة المال والأعمال وسواهم، يتوجه المؤلف بإصداره الأخير وهو بعنوان "آمال واحتمالات" الصادر في شهر حزيران يونيو 2010 عن منشورات "هايماركت بوكس" في الولايات المتحدة. وهو يفعل ذلك من زاوية ان هذه المصالح المنفلتة من عقالها، على نحو لا يصدقه العقل، باتت تشكل في حد ذاتها، قدراً يطغى على مصائر الأميركيين وأميركا والعالم على الأغلب. ولعل تشومسكي يقصد بذلك ان ما يسمى اليوم اعتباطاً (الامبراطورية الاميركية) ليس كذلك إلا بالقدر الذي يحمل أصحاب هذه المصالح المتوحشة ، اذا جاز القول، أمر يدعو الى الايحاء بأن على الولايات المتحدة أن تكون على هذه الشاكلة أو لا تكون على الاطلاق: ان تبقى امبراطورية عظمى، أو على الأقل مشروعاً حيوياً جاهزاً للتنفيذ في شكله الامبراطوري الأقصى. ولربما يخشى تشومسكي، في قرارة نفسه وفي العلن أيضاً، أن تكون السمعة الامبراطورية للولايات المتحدة هي التعبير الحقيقي عما بلغه القيمون على هذه المصالح من نفوذ متعاظم لم يعد ميسوراً احاطته بضوابط انسانية عامة أو على الأقل أخلاقية محددة. الامبراطورية التي تنبري اليوم للدفاع عن مواقعها الكونية المتقدمة هي نفسها مصالح هؤلاء الذين باتوا لا يرتضون الا في المساهمة الفاعلة في صنع التاريخ الكوني من خلال الولايات المتحدة. ولربما كذلك، تساورنا شكوك يوحي بها تشومسكي من وراء السطور بأن قطار هذه المصالح قد خرج عن سكته المعهودة في اتجاهات شتى وبات قادراً على اقامة محطات له في كل الأمكنة على نحو ينتهك الحدود المرسومة على الخرائط. يتجول بينها، منها واليها بحرية من يدّعي انه يكتشف العالم من جديد على قاعدة الافادة المتطرفة من قوة المال والسلطة. والأغلب انهم باتوا يترجمون الناس والجغرافيا والطبيعة والبيئة وسواها رموزاً ينبغي تحويلها بالضرورة ظلالاً للمال والثروة وكتابة تاريخ جديد للانسانية جمعاْ.
[ لا انسحاب من المنازلة ومع ذلك، لا يبدي تشومسكي في الكتاب استعداداً يذكر للانصياع لشكوكه التي باتت تخيم، بشكل أو بآخر، على فضاءات مؤلفاته في السنوات القليلة الماضية. لا يستسلم تشومسكي بعد أن بات يعتقد انه أصبح بمقدوره أن يزعم أنه يمتلك في ملفاته الخاصة حيزاً ملحوظاً من الحقائق المتوارية عن الأنظار داخل طبقات الشرنقة التي تدير دفة الأمور في الولايات المتحدة. يوحي الينا انه بالقدر الذي يسعى الى مهاجمتها في عقر دارها، وهي المتخفية في رداء الأشباح، يقف مشدوهاً أمامها عاجزاً عن تحقيق انتصار واحد في معاركه ضدها. يخيّل اليه، أحياناً، أنه الشخص الذي اختارته الأقدار ثم ألقت به وحيداً في هذا الخضم. ولعله لا يبالغ في هذه "القناعة"، غير انه لا ينسحب يأساً من هذه المنازلة غير المتكافئة. لا يضيّع وقتاً أو جهداً، أذ يبادر في هذا الكتاب وسواه الى الذهاب مباشرة الى الناس العاديين، مواطنين ومثقفين وناشطين وحالمين وسواهم، يستنفر فيهم ما يعتبره محركاً حقيقياً للتاريخ الانساني في المجتمع الأميركي. لا يتوانى لحظة عن محاولة اقناعهم بأنهم هم القوة النابضة التي تصنع الحياة في الولايات المتحدة. يحضهم بكل ما أوتي من بلاغة الكلام (وهو الألسني بامتياز) والاقناع، والبراهين الموثقة على فساد هذه المصالح واستراتيجياتها المشبوهة، والأحداث التي يجترحها هؤلاء داخل أميركا وفي الساحة الدولية بذريعة أنه يصعب التحكم بالولايات المتحدة والجغرافيات الأخرى من دون التدخل المباشر في مسيرة التاريخ والمجتمعات. نراه يلهث في هذا السباق الماراثوني وفي ظنه أن ثمة فرصاً قصيرة لا تزال متوافرة لتقليص حجم التأثير الذي تمارسه هذه المصالح على المواطنين. وكأن ثمة نزاعاً ضارياً، محتدماً، صاخباً، لا رحمة فيه، بين تشومسكي من جهة، والمصالح المالية والاقتصادية العملاقة من جهة أخرى. الأول يرى في نفسه مؤسسة كبرى في رجل واحد. والثانية تعتقد بما لا يقبل الشك، بأنها مؤسسة واحدة برؤوس متعددة يجمع بينها عقل جهنمي واحد. ولأنها كذلك، في تصورها لنفسها، فإنها غالباً ما تلزم نفسها بالاعتقاد بأن العقل الواحد الذي تنطوي هي عليه يستلزم بالضرورة احالة الجغرافيا الكونية برمتها عالماً واحداً من النسيج عينه. لا يقدم على الادلاء بأي نتائج مسبقة على هذا الصعيد. لا يرجح كفة أفكاره التي يؤمن بها في الصميم ويدافع عنها حتى الرمق الأخير اذا صح القول. ولا يرجح في الآن عينه الكفة الأخرى باعتبار انه لا يزال يراهن في قرارة نفسه على استفاقة مؤكدة للسواد الأعظم من الأميركيين نتيجة لشرارات متعاقبة من الوعي لا بد من أن تشتعل في اللحظة المؤاتية. ومع ذلك، لا نستشرف في الكتاب أن شيئاً من هذا القبيل قد يتحقق بين لحظة وضحاها.لا في الوقت الحالي ولا في المستقبل القريب أو البعيد أو ما بينهما. لعل تشومسكي الذي بلغ الثانية والثمانين لا رغبة لديه في أن يعلن استقالة صامتة أو مدوية من ساحة الافكار السياسية. والأغلب انه ينفر، بمزاجه الحاد، مما يعتبره تبسيطاً ساذجاً للتحرك منقطع النظير الذي يقوده في الولايات المتحدة. فقد ابتعد، منذ زمن طويل، عن المداولة بالأفكار المجردة والتنظير الأجوف والاحتماء السخيف في خنادق الايديولوجيا. عثر على ضالته المنشودة من خلال التوجه بفكره السياسي الى حيث يعتبر ان الناس العاديين هم الذين يصنعون التاريخ الحيوي للبشرية. وهم، في الوقت عينه، الذين يتسببون بطرد أنفسهم من ساحات التاريخ. على هذه الخلفية بالتحديد، ينحاز تشومسكي الى ما يمكن تسميته حركة التاريخ التي يشكلها التجاذب الحي بين ارادات الناس في مواجهة التاريخ المعلب والمصنع على نحو مسبق. وهذا الأخير هو الاختراع الجهنمي الذي تسعى المصالح المالية والاقتصادية والصناعية الضخمة في الولايات المتحدة، الى ترويجه سلعة جاهزة للتوظيف والاستخدام في كل زمان ومكان. والأرجح انه لا يفرق في هذا الاطار، بين المواطنين الأميركيين الذين ينقادون بقوة الأمر الواقع العمياء لجدول اعمال هذه المصالح، ونظرائهم في مجتمعات أخرى. الأميركيون يسلكون هذه الطريق على وقع النظام الديمقراطي وسلطة القانون والحرية الفردية. والآخرون يندفعون دفعاً في هذا السبيل على وقع التخلف وانعدام الحريات والسلطة الجائرة.
[ أكثر تشاؤماً بدا تشومسكي، في أعماله السابقة، أكثر تفاؤلاً باحتمال ان تقترب الأكثرية الساحقة من الأميركيين من تكوين كتلة متراصة ومتماسكة بمقدورها، مع الوقت، أن تشكل منظومة أكثر وعياً لتقليم أظافر المؤسسات المالية المتضخمة في الولايات المتحدة. لا ينطوي هذا الكتاب، في الأغلب، على تصور مماثل. غير أنه لا يتضمن، في الوقت عينه، احساساً عميقاً ومحبطاً بأن الرهان على حركة تاريخية من هذا الطراز قد اصطدمت بالحائط المسدود. لا ينتمي تشومسكي، بطبيعته المتوترة، الى فئة من المفكرين يتذرعون بأن الفكر، في الألفية الثالثة، بات يدور عميقاً في حلقة من الفراغ العدمي، نراه ينتقل في الكتاب، في السياق نفسه، من مكان الى آخر، من جغرافيا الى أخرى، من مجتمع الى آخر على رقعة الشطرنج العالمية. من الفضاء الأميركي المصادر جزئياً أو كلياً لاستراتيجيات أساطين المال والاقتصاد والنفوذ الى فضاءات يعتبرها واعدة، على الأرجح، في بعض بلدان أميركا اللاتينية. يلتقط تشومسكي، في هذه الكتاب بالتحديد كما في مؤلفات نشرها في السنوات القليلة الماضية، اشارات حيّة، صاخبة ومتوثبة تختزن في حركتها الداخلية توقاً نحو ضرب من التحرر السياسي والانساني وتحقيق العدالة الاجتماعية والحريات الفردية. قد يخيل الى بعضهم ان هذه القفزة في فضاء صناعي معقد الى آخر متعثر ذي هوية سياسية قيد التشكل، أشبه ما تكون بهلوسة فكرية لا تليق بقامة كتشومسكي، ومع ذلك، لا يبدو ان قراءة من هذا النوع هي المقاربة الفضلى لفهم هذه النقلة غير المتوقعة من الولايات المتحدة الى أميركا اللاتينية. ليس ثمة شيء من هذا القبيل في ذهن تشومسكي. يرى الكاتب على نحو مرجح، ان أي اختراق من شأنه أن يتجرأ على الحد من التوسع العشوائي أو القسري أو المبرمج للمؤسسات المالية العملاقة في أي مكان في العالم، في أميركا اللاتينية وفي غيرها، هو انجاز نوعي بكل المقاييس. لا فرق جوهرياً، في هذا الاطار، بين جغرافيا وأخرى، على الاطلاق، طالما ان هذه التكتلات الاقتصادية التي تسعى الى الاستحواذ على العالم لا ترى اختلافاً يذكر بين جغرافيا وأخرى، أو هوية ثقافية وسياسية وأخرى، أو اثنية أو عرقية وأخرى. على هذا الأساس، يقارب تشومسكي العقل الكامن وراء هذه التكتلات بأدوات من جنسه. ما تعذر تحقيقه في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، قد يصارالى تحقيقه في أمكنة أخرى. المهم في نظره أن تتوسع الرقعة، على حلبة الصحراء الدولية، لمصلحة مبادئ التحرر من الطغيان المالي واللون الاقتصادي الواحد، والارادات المفبركة على نحو متجانس. يعلق تشومسكي، في الكتاب، أهمية استثنائية على ما يعتبره انتفاضة حقيقته في أميركا اللاتينية لا تزال فتية ولكنها قد تسفر، في نهاية المطاف، عن كرة ثلج قد تتدحرج سريعاً من الأعلى الى الأسفل محدثه دوياً قوياً وتغييراً محتملاً قد يتحول راديكالياً في عدد كبير من بلدان ما يسمى العالم الثالث. لافت، في هذا السياق، الخلفية الانسانية العميقة التي يطل تشومسكي من خلالها على القضايا العالمية. ينتقل بفكرة الصراع من أسبابها الايديولوجية العقيمة التي تحيل البلدان والمجتمعات جزراً متناثرة خارج حركة التاريخ، الى اطار مناقض. والأغلب انه بات يرى في النزاعات الأهلية والسياسية المتجولة على خارطة "العالم الثالث" ذريعة اضافية تستخدمها بذكاء خبيث الشركات والمؤسسات عابرة القارة للقول بأن التقسيمات الجغرافية بأشكالها القديمة هي المولد الرئيسي لخلخلة الاستقرار في العالم. ولا بد، في هذه الحال، من ارساء مفاهيم جديدة تفرغ هذه الجغرافيا مما علق بها من ارث ثقافي وديني وسمات تاريخية ذات خصوصية ضيقة. هكذا تتصور هذه المؤسسات العالم الجديد المرتقب مكاناً مسطحاً، متناغماً، متآلفاً، منسجماً يخلو في حقيقة الأمر من الجغرافيا المتنوعة. والأغلب ان يصبح جغرافيا بلا جغرافيا. بقعة بلا هوية انسانية محددة أو متميزة. مكان فقط من دون معالم غير مهيأ لاستقبال الناس الا وفقاً لمستلزمات وشروط العقل المتوحش الذي يدير، في الخفاء، هذه المؤسسات وقد باتت حكومات ظل تمتلك أرشيفاً عالمياً لكل ما تحتاج اليه في حركتها اليومية. يستدل تشومسكي على جبروت هذه الاخيرة بتذكير الأميركيين والعالم بأن هذه المؤسسات الحالية هي التي أطلقت العنان للانهيارات المالية التي كادت أن تصيب الولايات المتحدة مقتلاً، وليس الحكومة الأميركية. ليس دفاعاً عن هذه الأخيرة وتبرئة لذمتها، ولكن تصويباً للحقيقة التي باتت كالكرة يتقاذفها الجميع درءاً لتهمة قد تستقر في حضن أي من هؤلاء.
[ انهيار النخبة الفكرية لا يتردد تشومسكي، في هذا المجال، في أن يحمّل النخبة الفكرية والسياسية والثقافية في الولايات المتحدة قدراً يسيراً من مغبة هذا الانهيار المالي. وهو يلمح، في ذلك، الى انهيارات أخرى مرتقبة قد تسقط على رؤوس الأميركيين في لحظة لا يتوقعونها أبداً، خصوصاً بعد أن تكللت "تجربة" الانهيار الأولى بالنجاح الباهر. قد نستنتج من هذه المغامرة التي قد يُظن أنها نُفذت برغبة هستيرية وهي ليست كذلك، انه ينبغي على العالم أجمع أن ينتظر ضربة محكمة مماثلة بفارغ الصبر من قبيل الاستمرار بسياسة الاختبارات المتتالية. وكأن في الامر سيناريو قد أعد سلفاً لتنفيذ سلسلة متكاملة من الكوارث المالية والاقتصادية تمهيداً لاعادة تشكيل النظام المالي العالمي على مرتكزات غامضة. يقيم تشومسكي رابطاً قوياً وموضوعياً بين هذا التدهور المالي المروع من جهة، وتصدع القيم الأخلاقية والسياسية والانسانية التي باتت ظاهرة تدعو الى الاشمئزاز في أوساط النخبة في الولايات المتحدة. ويرى في الوقت عينه، علاقة وثيقة بين هذه الانهيارات بالجملة والمواقف المشبوهة للادارة الأميركية في الشرق الأوسط والاستئثار الاسرائيلي بمفاصل القضية الفلسطينية، والفشل الذريع الذي حصدته واشنطن في العراق وأفغانستان، اضافة الى كرة اللهب المتقاذفة بين البيت الأبيض وايران. من هذا المنطلق، على الأغلب، يفرد تشومسكي مساحة ملحوظة في الكتاب يتناول فيها ما يعتبره تراجعاً دراماتيكياً للرئيس الأميركي باراك أوباما عن الوعود البراقة التي كان أطلقها اثناء حملاته الانتخابية الصاخبة. ويبدو ان كلمة "آمال" في عنوان الكتاب قد وضعها تشومسكي على نحو متعمد من أجل ان يوجه رسالة عنيفة الى أوباما مفادها: ان أي محاولة لاصلاح النظام الاقتصادي السياسي المالي في الولايات المتحدة لن تؤتي ثمارها بتهدئة خواطر الناس وقلقهم المتزايد بشحنهم فقط بمهدئات الوعود. ولعل تسومسكي وهو الخبير العتيق بصعود الرؤساء وسقوطهم أو تآكلهم التدريجي أو تعرضهم للاهتراء المنظم، يخاطب أوباما بلهجة هي أقرب الى التأديب منها الى النصح. يحثه فيها على ان يرتفع بمنصبه الى مسوتى الزعامة الحقيقية لامبراطورية باتت على قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق نحو الهاوية. ولعل، في هذه الرسالة التي سبق له ان توجه بها الى رؤساء آخرين، اشارة واضحة الى أوباما ليتحلى بضرب من الشجاعة فيقدم على استعادة النفوذ والسلطة وجرأة القرار التي سلبها بالقرصنة أساطين المال والأعمال فأصبحت حكراً عليهم دون غيرهم. ومع ذلك، لا يمني تشومسكي النفس بما أصبح تحققه من قبيل المعجزات. وفي هذا تحسر دفين على انتهاء عصر الزعامات الكبرى من الولايات المتحدة. فقد ولى زمنها الى غير رجعة وحل مكانها من يصنع الرؤساء ثم ينهكهم ثم يتهمهم بالفساد ثم يرسلهم الى الجحيم. لا شيء جديداً في الكتاب الا ذلك التوهج الذي يضفيه تشومسكي على شخصيته وأسلوبه المشتعل في الكتابة. يستعيد منظومة من الأفكار التي كان أشبعها تحليلاً وانتقاداً في أعمال سابقة مثل: ازدواجية المعايير التي غالباً ما تعتمدها الادارات الأميركية تملصاً من استحقاقات واقبالاً على اعلاء مصالحها الاستراتيجية، وأيضاً الدعوات المستميتة لنشر الديمقراطية في العالم ثم الانقلاب عليها وفقاً لخارطة المصالح المتبدلة. ومع ذلك، يتقدم هذا المفكر خطوة اضافية الى الأمام بإثارته قضية الممارسة الديمقراطية في مناخ عالمي يفتقر الى الاستقرار وينجر جراً الى متاهة القلق والخوف على المصير والتعايش المكره مع ما لا يتلاءم مع الطبيعة الانسانية. لا يتوقع شيئاً كثيراً على هذا الصعيد وإن بدا أنه يراهن على حركة عالمية تقودها المجتمعات المقهوة لكسر جبال من الجليد السياسي والطغيان المالي والجبروت الاقتصادي التي أقيمت بدهاء في مناطق حساسة على الجغرافيا الدولية. يبدو تشومسكي في هذا التصور مفعماً بأمل قد لا يتحقق أبداً، غير أنه لا يتخلى عنه ولا يستبعده من دائرة الاحتمالات. لا يزال تشومسكي هو اياه، كما في سائر مؤلفاته: مفكراً من الطراز الأول، ناقداً من قماشة انسانية نادرة، فوضوياً حيثما يجب ان يكون، يسارياً يراهن على احتمال أن يظل التاريخ عرضة للتبدل والتحول رغم كل المعوقات. |