كعادتها كشفت الصحافة العالمية، خلال أقل من أسبوعين، عن حالتي فساد كبرى في العراق، وكلتاهما تتعلقان بالنفط. الأولى كشفت عنها صحيفة الغارديان اللندنية في عددها الصادر في 30 حزيران 2010، والثانية كشفت عنها صحيفة النيويورك تايمز في عددها الصادر يوم 8 تموز 2010. وكالعادة أيضا تم التعامل مع الموضوعين بشفافية وديمقراطية! أي الإنكار، والتبسيط، والتناقضات، ولجان تحقيقية مفترضة لن يطلع أحد على نتائجها، أي ببساطة وفق المنهجية التي عرفناها عن تعامل الدولة/السلطة العراقية مع حالات الفساد الحقيقية طوال السنوات الماضية.
لقد نشرت الغارديان تحقيقا عن استيراد العراق لمادة رابع أثيل الرصاص، من شركة بريطانية تدعى "أوكتيل Octel"، والتي تغير اسمها بعد الكشف عن هذه الحادثة إلى Innospec. وهو المصنع الوحيد في العالم المنتج لهذه المادة التي تضاف إلى البانزين الخاص بالسيارات، وهي "محظورة الاستخدام في الدول الغربية لصلتها بتلف الدماغ عند الأطفال"! وتشير الصحيفة إلى أن العراق ربما يكون الدولة الوحيدة التي ما زالت تستخدم هذه المادة! وبعيدا عن هذه الحقائق التي لم يلتفت إليها أحد عراقيا!! نقلت الصحيفة اعتراف الشركة بأنها "قدمت رشاوى بملايين الدولارات إلى موظفين رسميين عراقيين من اجل الاستمرار باستخدام مادة رابع أثيل الرصاص، على الرغم من مخاطرها الصحية ". بل إن الصحيفة تشير إلى واقعة محددة، وهي انه في العام 2007 دفعت رشاوى " من اجل تخريب اختبارات ميدانية لمليون طن متري من النفط، حتى لا يقود إلى/تؤدي إلى بدائل إضافية عن استخدام رابع أثيل الرصاص". ولا بد من التنبيه على أن الصحيفة لا تتحدث هنا عن "اتهامات"، وإنما عن اعترافات، ووثائق، وتحقيقات يقوم بها الإدعاء العام الأميركي. إزاء هذا كله ما هو رد الفعل عراقيا؟ بداية نقلت الصحيفة نفسها عن احمد الشماع وكيل وزارة النفط العراقية "بأنه سوف يحقق في هذه الاتهامات"، كما أنه " أنكر بشدة المزاعم التي ذكرت في قاعة المحكمة إنه هو نفسه قد تمتع بعطلة مجانية في تايلاند. وقال بأنه لم يزرها مطلقا، وبان رجلا أوسطيا متورطا، وهو الآن معتقل في الولايات المتحدة، قد يكون هو نفسه سارق المبلغ المزعوم". ونلاحظ هنا أن إجابة السيد الوكيل لا تنكر الواقعة ككل، وإنما تحصرها في إمكانية تورط "وكيل الشركة اللبناني، أسامة نعمان، الذي تم تسليمه إلى الولايات المتحدة، ووافق في نهاية حزيران 2010 على الاعتراف بالذنب، وعلى التعاون مع المدعين العامين الأميركيين"، بقوله بأنه هو من سرق المبلغ المزعوم! . أما المتحدث باسم وزارة النفط فقد قال بـ "أن الاتهامات أخذت منحى مبالغاً فيه"، وبان " الكثير من دول العالم تستخدم هذه المادة لتحسين مادة البنزين"، وبأن "وزارة النفط اشترطت في جميع العقود التي أبرمتها مؤخرا عدم استخدام تلك المادة"، وأن وزارته " تنتظر الجهات التي كلفت بالتحقيق لمعرفة ملابسات الموضوع وعندها ستعلن كل ما يتعلق بالقضية في حال كانت المعلومات المنشورة صحيحة" ثم كان لابد من إضافة العبارات التقليدية بأن "تكون لإثارة هذه القضية أبعاد سياسية وبان جهات خارجية وداخلية لم يسمها تعمل على نشر مثل هذه التقارير في ظل الظروف السياسية التي يمر بها العراق"!. نلاحظ مرة أخرى بان المتحدث يتحدث عن "مبالغات" مستبقا نتائج التحقيق المزعوم! ويفتي بأن "الكثير من الدول" تستخدم هذه المادة "المحظورة"! ثم يستغفل الجميع عندما يتحدث عن "اشتراط" وزارته في عقودها الجديدة عدم استخدام هذه المادة، على الرغم من أن الحديث يدور هنا عن استيراد الوزارة نفسها لهذه المادة واستخدامها في مصافيها! وأخيرا لا بد من شيء من التسييس الضروري. هذا هو أقصى رد فعل، إذ لم نجد أي إشارة إلى الموضوع من وزير النفط، أومن مجلس الوزراء!
ومن جهة أخرى، نشرت النيويورك تايمز تحقيقا من كردستان تحدث عن نقل مئات الشاحنات للنفط الخام والمشتقات النفطية إلى إيران يوميا من بنجوين ومن اثنين من المراكز الحدودية الأخرى في كردستان العراق. ونقلت الصحيفة عن وزير الموارد الطبيعية في حكومة الإقليم آشتي هورامي، قوله ان "وقود النفط وبعض مشتقاته مثل النفط الأسود ترسل على إيران بعد معالجة النفط الخام الخاص بالمنطقة من خلال مصفيين تابعين للقطاع الخاص"، وبان الإيرادات المستحصلة من هذه العمليات "قد ساعدت في تغطية نفقات شركات النفط الأجنبية" العاملة في كردستان، وبأن "أي دخل إضافي يعود على المنطقة من هذا العمل سوف يبقى بعيدا عن الموارد المالية لحكومة الإقليم، وسوف يودع في حساب مصرفي منفصل لتتم تسويته مع بغداد في المستقبل عندما يتم حل الخلاف بين الطرفين". ولكن السيد هورامي سيعود ليقول يوم 11/7/2010 بأن "المنتجات النفطية الفائضة عن حاجة إقليم كردستان كالبنزين والنفط الأبيض، تصدر بشكل علني عن طريق الشركات المتخصصة بحسب وصولات رسمية وبعد الحصول على الموافقات المطلوبة بهذا الشأن من الحكومة المركزية " مشيرا إلى أن "عائدات تلك المنتجات تعود إلى حكومة الإقليم".
وقد كرر بعض القادة الأكراد هذه الحقيقة، فقد أعلن النائب محمود عثمان بأن "الشاحنات التي تقوم بنقل المشتقات النفطية من إقليم كردستان إلى إيران هي كميات فائضة عن حاجة الإقليم وأن ذلك يجرى في إطار اتفاق تم بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الإيرانية". فيما أشار النائب سامي شورش إلى أن " ليس هناك عمليات تهريب إنما هو تصدير للمشتقات النفطية عبر عقود قانونية دستورية والكرد يعتمدون في صناعتهم النفطية على قانون النفط والغاز في كردستان العراق". أما رئيس وزراء الإقليم برهم صالح فقد أعلن أن حكومته " ليست على علم بأية تجارة غير قانونية في الخام عبر حدود الإقليم، وأنه إذا كان ذلك يحدث فهو غير قانوني" وأضاف " ان من بين الإجراءات التي أقرتها حكومة الإقليم تعزيز مراقبة المعابر الحدودية لمنع عبور المنتجات غير المصرح بها وتشديد مراقبة شاحنات الصهريج لضمان امتثالها لقانون كردستان والقانون الاتحادي". ومن الواضح انه يتحدث حصرا عن النفط الخام، وانه لم ينف مطلقا عمليات نقل المشتقات النفطية إلى إيران، خاصة وانه تحدث عن الامتثال لأحكام قانون كردستان الذي يتيح مثل هذه العمليات!، لقد كان كل من السيد رئيس وزراء الإقليم ووزير الموارد الطبيعية والنائب سامي شورش حريصين على الإشارة إلى أن "تجارة الوقود" لا تقتصر على كردستان، وأنها تحدث عبر الحدود العراقية بأكملها، وخاصة الجنوب!. وزارة النفط الاتحادية تحدثت كالعادة عن عدم قانونية أي تصدير للنفط الخام أو المشتقات النفطية من حقول الإقليم، وأشار حسين الشهرستاني وزير النفط إلى أنه "من غير المنطقي تصدير المنتجات المكررة إلى البلدان المجاورة في حين أن العراق يستورد المنتجات المكررة مثل البنزين"، مؤكدا أن "الوزارة ليس لها علم بما يصدر من حقول إقليم كردستان أو بالكميات المصدرة". أما رد فعل الحكومة المركزية، وبوجه خاص رئيس الوزراء، فقد جاء تماما كما هو الحال في كل حالات النزاع حول موضوع النفط بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية طوال السنوات الأربع الماضية، وتحديدا الصمت المطبق، وترك وزارة النفط تتحرك بمفردها، حتى لتخال أن الأمر صراع شخصي بين وزيري النفط في المركز والاقليم!
وقد أعلن الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء علي الدباغ يوم 15/7/2010 أن "الحكومة العراقية سترسل خلال اليومين المقبلين وفدا من وزارة النفط العراقية إلى أربيل ليلتقي مسؤولي وزارة النفط في حكومة إقليم كردستان، للوقوف على تفاصيل وحقيقة الأنباء التي تحدثت عن عمليات تهريب للنفط عبر المنافذ الحدودية في الإقليم"، وإلى أن الحكومة العراقية استندت إلى التقارير الصحافية التي أشارت إلى وجود عمليات تهريب للنفط الخام، تتم عبر المنافذ الحدودية في إقليم كردستان"، نافيا "وجود معلومات مؤكدة لدى الحكومة العراقية حول هذا الموضوع". ولكننا لم نجد أية إشارة إلى هذا الموضوع في قرار مجلس الوزراء رقم 28 في 13/7/2010، ومن ثم لا نعلم عن أية حكومة يتحدث السيد الدباغ، ثم انه يتحدث عن "تقارير صحفية" "وعن "تهريب للنفط الخام" حصرا، وعن عدم وجود "معلومات مؤكدة"، على الرغم من الصور التي أظهرت عشرات الناقلات وهي تنتظر دورها للدخول إلى إيران. لا يسعنا سوى القول آسفين بان ليست هناك إرادة حقيقية للقضاء على الفساد في العراق، وان الفساد في العراق، كما قلنا من قبل، لم يعد فساد أفراد وإنما هو بنية تحكم الدولة/السلطة بأكملها. |