في أواسط التسعينيات من القرن العشرين، أصبح (نصر حامد أبو زيد) ـ فجأة ومن دون مقدِّمات ـ اسما عاماً، بعد دعوى الحسبة والحكم الذي قضى بردّته، ومن ثم تفريقه عن زوجته، إثر كتاباته الأكاديمية التي تناولت الخطابَ الديني، والتي كان قدّم بعضَها لينال بها الترقيةَ الوظيفية إلى درجة (أستاذ) في جامعة القاهرة، غير أن الخبير العلمي في الجامعة، وكان آنئذ أستاذ اللغويات عبد الصبور شاهين، رفض طلب أبو زيد، متهما إياه بمعاداة القرآن، وإنكار مصدره الإلهي، والمعاداة الشديدة للسنّة ، والهجوم على الصحابة، والدفاع عن الماركسية والعلمانية.
بالتأكيد، أنا لا أقصد أن أبو زيد أصبح فجأة اسماً عاماً من لا شيء مع هذه القضية، التي عُرفت باسم (قضية أبو زيد)، فالرجل قدّم أعمالاً مهمة فيما بين أواسط الثمانينيات وأواسط التسعينيات، منها كتاباه الشهيران (مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن)/ 1990، و(الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية)/ 1992، غير أن هذه القضية جعلته شخصية شعبية ومادة إعلامية، ونقلت أفكارَه ومؤلفاته إلى الجمهور العام.
ومع أن قضية أبو زيد لا يمكن أن تُفهَم إلا في سياق الحراك السياسي والثقافي في مصر، فهي ـ من جهة ـ (وعلى نحو ما يشرحه أبو زيد نفسه في الكتاب الذي يبسط فيه قضيته، والذي يحمل عنوان "التفكير في زمن التكفير"، الصادر سنة 1994، السنة نفسها التي تفاعلت فيها القضية) امتداد للصراع التأريخي في جامعة القاهرة بين كلية دار العلوم، ذات الاتجاه المحافظ، وكلية الآداب، ذات الإرث التنويري الذي يمتد من طه حسين، عميدها الأول، وأمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله، ويصل إلى نصر أبو زيد، كما أن قضية أبو زيد ـ من جهة ثانية ـ جزء من الهجمة العامة التي شنتها (الجماعةُ الإسلامية) في التسعينيات على الحياة الثقافية ورموزها في مصر، فـ (الجماعةُ) هي امتداد للتيار القطبي الذي يكفِّر المجتمعَ ويعده شكلاً من أشكال الجاهلية، وقد تضمنت هجمتُهم أعمالاً من قبيل اغتيال الكاتب فرج فودة سنة 1992، ومحاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ سنة 1994، فضلاً عن العديد من حملات التكفير والتقييد والمراقبة لكل ما تراه (الجماعةُ) جاهلياً، أقول: ومع ذلك، تعد (قضيةُ أبو زيد) القضيةَ الأشهر والأبرز: لقد أصبحت رمزاً مكثّفا لحرية التعبير والتفكير في مواجهة قوى الظلام.
غير أنني أرى هذا، على أهميته، اختزالاً وتسطيحاً لفكر أبو زيد، . . تسطيحاً وصل إلى حد البحث في عقيدة الرجل، هل هو مؤمن أم لا، هل كان قريباً من الأخوان المسلمين أم من اليسار، هل أثّرت فيه منحة أو اثنتان حصل عليهما في الولايات المتحدة، إلى آخر ما يولّده العقلُ العربي، الذي يترك الفكر، ويفترض أن ثمة ـ دائماً ـ دوافع باطنية وسرية وراء هذا الفكر.
أنا أفترض أن ثمة حقلين مختلفين في (قضية أبو زيد): كونها أصبحت رمزاً للنضال من أجل حرية التعبير شيء، والمحتوى الفكري للرجل شيء آخر.
ينتمي نصر أبو زيد إلى جيل من المفكرين العرب النقديين، الذي تصدروا واجهة المشهد الفكري العربي في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد فقدنا في الشهرين الأخيرين اثنين من أبرز أسماء هذا الجيل: محمد عابد الجابري، ونصر أبو زيد.
تتركز الفاعليةُ النقدية لدى هذا الجيل على نقد التراث العربي الإسلامي وبناه الأبستيمولوجية، التي لا تزال تشكل ـ في تصورهم ـ الإطارَ المرجعي للعقل العربي الحديث. وعلى وجه التحديد، تركّز عملُ هذا الجيل على اكتشاف التنافذات الإيديولوجية والسياسية داخل الحقول المعرفية للتراث، وصولاً إلى بناء فرضيات عن (الأنظمة المعرفية)، التي تشكل أسسَ هذا العقل.
هذه المنهجيةُ، التي يسميها بعض الباحثين (القراءة الأبستيمولوجية للتراث)، ذات مصادر نظرية غربية، فهي ترتبط بأفكار ميشيل فوكو، الذي صمّم فيما بين أواسط الستينيات وأواسط السبعينيات نموذجاً مهماً في تأريخ الأفكار، يقوم على ركنين أساسيين: أن هناك (نظاما معرفيا)ً ينتظم المعارف بمختلف حقولها، وأن المعرفة تتضمن إرادة سلطة. وقد كتب التطبيقَ الأشهر لهذا النموذج أحدُ التلاميذ من أصول عربية، وهو إدوارد سعيد، الذي كشف في كتابه الفريد (الاستشراق)/ 1978 كيف تتضمن المعرفةُ الاستشراقية إرادةَ هيمنة.
وهكذا، تختلف (القراءة الأبستيمولوجية للتراث) عن التعامل العام معه، الذي يمكن أن يكون قد تجسد في كتاب أدونيس (الثابت والمتحوِّل)/ 1973، الذي لا يقصر (التراث) على المعارف، كما يختلف مع المقاربة الماركسية، التي تتجسد في كتاب حسين مروة (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)/ 1978.
وفي العموم، يشكل هذا الجيلُ النقدي جزءاً من مناخ عام عاشته الثقافة العربية، منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين وإلى أواسط التسعينيات، تحول فيه (التراثُ) إلى إشكالية. ولذلك، سيطرت الأعمالُ التي تتناول التراث وتحاول أن تستنبط قوانينه العامة على الإنتاج الفكري العربي.
وفي الجوهر، يمثل تحولُ (التراث) إلى إشكالية الخطوةَ النقدية الأكثر أهمية التي أنجزها الفكرُ العربي الحديث، بعد أن كان (التراث) فضاء للهوية، بسيطاً ونقياً. وبعد نحو قرن كامل من هجاء الغرب وشيطنته بوصفه أصل مشكلة الذات العربية الحديثة، عمل هذا الجيلُ من المفكرين النقديين على رد المشكلة إلى هذه الذات نفسها، إلى عقلها، وطريقة تفكيرها، وثوابتها. ولعل خاتمة كتاب الجابري (الخطاب العربي المعاصر)/ 1982، التي تحمل عنوان (الاستقلال التأريخي للذات العربية)، هي مانفيستو هذه الحركة.
غير أن الاهتمام بالتراث تراجع في الإنتاج الفكري العربي منذ أواسط التسعينيات، ولم يعد من أولويات الثقافة العربية. ولعلنا لا نجد نتاجاً بارزاً في هذا المجال خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة. وفي مقابل ذلك، أصبح موضوع (الدمقرطة) و(الإصلاح السياسي) هو الموضوع القائد، بالتوازي مع تحوّل طبيعة الجدل عالمياً، وهو ما لم يستطع هذا الجيلُ أن يواكبه.
وإلى جانب هذا، يتداخل فكرُ أبو زيد بدائرة أخرى، وهي الدائرة التي عملت على إرساء تمييز حاسم بين (الدين) و(الفكر الديني)، أو لأقل: بين المساحة الإلهية والمساحة البشرية في المتن الإسلامي. الأولى هي مساحة (مقدّسة)، في نظر هؤلاء، غير أنها ضئيلة ومحدودة، والأخرى تمثل الجزءَ الأكبر والجوهري من التجربة التأريخية للإسلام، وهي إنتاج بشري، قابل للنقد، والتجاوز، والإلغاء، والتعديل.
هذه الدائرة أتت من خارج الثقافة العربية. ولعل منظرَيها الأساسيين هما عبد الكريم سروش، ومحمد أركون (الذي وإن كان جزائري الأصل، فإنه يفكر في فضاء الاستشراق والدراسات الفرنسية عن الإسلام التي تستند إلى العلوم الاجتماعية المعاصرة).
لم يركِّز أبو زيد جهودَه على هذه الدائرة، ولكن ربطَه بها يجعل إسهاماته في هذا المجال أكثر وضوحاً، بمعنى أن أفكار أبو زيد عن التمييز بين الإلهي والبشري في التجربة الدينية تبدو أكثر تماسكاً إذا فُهمت من خلال الدائرة التي تضم سروش وأركون.
وبالفعل، ومن هذا المنظور، يبدو كتابُ أبو زيد (مفهوم النص) قفزة مهمة في الدراسات القرآنية.
غير أن وجه أبو زيد، في النهاية وقبل كل شيء، إنما يرسم الصورةَ التراجيدية للمثقف النقدي في الثقافة العربية: مهجَّر من بلاده بسبب أفكاره، وبلاده تحتقره وتتعامل معه كنجاسة، وترفض أن تستقبله إلا ميتا. |