شذرات من ذكريات عن جبرا ابراهيم جبرا في ايامه الاخيرة 1 قبيل رحيله المفاجيء بيومين قال لي الناقد والروائي جبرا ابراهيم جبرا في آخر مكالمة بيننا : - الدنيا برد , خرجت للتمشي كعادتي كل يوم في شارع الأميرات ، كدت أتجمد فعدت مسرعا الي البيت ، وهاتفتني صديقة رائعة من عمان تخبرني بسقوط الثلج ، غبطتها وقلت لها اتمنى أن أتمشى معكم تحت انهمار الثلوج – تعلمين لطفية – انا نشأت في القدس ، الثلج كان رفيق طفولتي وشبابي ،كم أحب الثلج ، لا ، لن أتمشى بعد الان في نهارات بغداد الباردة ،برد بغداد يخترق العظام ،ماعدت أحتمل البرد ، ليت السماء تهبنا بعض ثلجها لندفأ بعده .. في ذلك الغسق الشتائي البعيد رأيته عائدا إلى بيته ملفعا بشال صوفي بلون المشمش ومرتديا جاكيتا من المخمل البني وشعره الأبيض المضطرب يتمرد على حقيقة سنواته الثمانين ويمنحه سحنة شاب في إهاب شيخ جليل .. أستحضر تلك الصورة الأخيرة فلا أجد سوى الرماد الذي بقي العلامة الوحيدة في شارع الأميرات يشير إلى مصير المدينة التي أحبها وأحبته وتزوج احدى بنات أسرها العريقة ليوثق عقد عشقه لبغداد ، بقي الرماد والشجر المحترق والأنقاض شهودا على جائحة الارهاب وإهمال المعنيين لإنشاء متحفه وحماية إرثه الثقافي الهائل من رسائل ومخطوطات وترجمات ومجاميع شعر واعمال نقدية ومئات الاعمال الفنيةمن لوحات ومنحوتات وقطع فخار لعمالقة الفن العراقي في القرن العشرينومن بينها لوحاته وتخطيطاته الساحرة ، لا ثلج الان ولا برد يردع خطاه المسائية عن السير تحت صفوف النخل الرشيقة في شارع الاميرا ت فقد جلل الرماد والسواد فيلتك المهجورة بعد الانفجار الارهابي وتهاوت اشجار اليوكالبتوس على الرصيف وضاع جهد عمر من الإبداع وإرث مرحلة خصبة من عمر الثقافة العراقية المعاصرة وهمد صوت الموسيقى في ممرات بيته الى الابد .. 2 كان يقول لنا بصوت بطلته ( سراب عفان ): ( الا ترى يانائل أنني قررت الموت وانا في القمة من صحوي الفكري وصحوي الجسدي ؟) وفي كامل صحوه وشغفه بالفن حضر قبل ليلة من رحيله المعرض الاستعادي للانطباعيين العراقيين وتحدث عن الحركات الفنية العراقية وجمعية نقاد الفن واتفق مع بعض نقاد الفن على تنشيط حركة النقد الفني عبر محاضرات ومنشورات وفي الليلة ذاتها قرأ على الهاتف آخر قصيدة له لصديقة شاعرة وسألها عنا نحن المجموعة التي كانت تزوره تلك الفترة ونقرأ اعمالنا عنده ويقرأ لنا قصائده ، قال للشاعرة : تعالوا جميعا وفي أقرب وقت لنستعيد أجواء جلستنا الأخيرة ونستمع إلى بعض الموسيقى ،ساسمعكم ما تبقى من تراتيل المغنية الاوبرالية السيدة(تانيا ناصر)التي أدتها في الكنيسة البيزنطية في عمان ،و أقرأ لكم المزيد من قصائدي الجديدة شبيهة قصائد الهايكو .. كنا كلما التقيناه في أيامه الاخيرة نغادره ورجفة الخوف تنوش قلوبنا ، ولاننطق مفردة الفقد التي كانت تتراءى لنا فيما وراء الليل ،وذات مساء خريفي شيعنا بمودته الغامرة لدى باب داره بعد ان احتسينا القهوة التي اعدها لنا بيده و قال : - لاتغيبوا عني ، أسعد بحضوركم ،كثيرا تعلمون كم انا وحيد هذه الأيام ..هاتوا كل ماتكتبون .. عندما أغلق الباب واختفى في الليل ، خنقتني غصة وبحت للصديقة الشاعرة (دنيا ميخائيل )بمخاوفي ، ففاجأتني بالهاجس ذاته : أحس انه على وشك الغروب ، كنا نرى ببصيرتنا اقتراب الزائر الأخير ونسمع حفيف الأجنحة ونحس مذاق الرماد في أفواهنا ..
3 قبل أسبوع من رحيله أعارني نسخته الوحيدة من روايته ( يوميات سراب عفان ) - لا تزال النسخة في مكتبة بيتي المهجور في بغداد- وعلق ضاحكا :أية مصادفة لو كنت قرأت كتابك ( عالم النساء الوحيدات ) لقلت ربما حدث شيء من التأثر والتـاثير بيننا – لكن لا أنا قرات كتابك ولاأنت وكتابك صدر 1986 وروايتي صدرت 1992- اقرأيها ستجدين فيها تقنية روائية مختلفة ستعجبك لطفية لاني اعلم مزاجك الرؤيوي وتوقك لتخطي المحددات – نتحدث عنها في زيارتكم التالية .. وقبل رحيله بأيام أربعة تهاتفنا وكنت موشكة على الانتهاء من قراءة الرواية واخبرته أننا سنتحدث عنها عندما نلتقيه مساء الأربعاء ، وفي صباح الاثنين 12 كانون الاول 1994 اتصل بي كاتب صديق يبلغني نبأ رحيله ويطلب منى كتابة كلمة في وداع جبرا ، قلت له : لا لاأستطيع الكتابة وعاجزة عن البكاء ايضا .. غادرنا جبرا والغى مواعيدنا في مفكرته دون أن يخطرنا بعزمه السري على الرحيل ، قال لي بنبرة أعتذار وهو يتأمل كتابي عالم النساء الوحيدات: - تأخرت لأكتب عنك ، كنت أخشى أن لاأجد أحدا من كتابنا يقترب من تشكيل النص الجديد بحس فني وطاقة رؤيوية تأملية ويعتمد على ثقافة العصور ويجول بين الأزمنة حتى قرأتك .. 4 المقدسي المفعم بالمحبة وعنفوان الحياة حتى آخر الكلمات ، المبدع الذي بقي فتيا في منجزه زاخر القلب بالسماحة والتواضع ، هذا المقدسي كان صلبا كسنديانة في جبل المكبر ، عذبا كقطرة مطر في قيظ بغداد ،غافلنا ذلك اليوم وأعلن انتهاء المجابهة بين قلبه المتعب وحياة الوحدة وعقد الهدنة مع الزائر الاخير ، تخلى عن احتفائه المتجدد بالطبيعة والموسيقى والفنون وترك يده التي تزخرفها وشوم الزمن للزائر الملحاح تصحبه الى ماوراء الزمان في محاولة لاعلان فوز الموت ، لكن استاذنا كان هو الفائزفي سباق الموت بما ترك وما ابقى في ذاكراتنا وحيواتنا ونسقنا الثقافي منذ خمسينيات القرن الماضي .. 5 حين ذهبت مساء لأحضر التشييع كانت الجنازة قد مضت ألى مقابر خارج المدينة ، تأسيت وبكيت لحظتها ، ترى من سيعد القهوة الشهية باصرار مضيف كريم وأب حنون ؟ كان يقول لنا عندما تبادر واحدة منا لإعداد القهوة:- - لايمكن يجب ان اعملها بنفسي .. وحين نعترض كان يقول بنوع من الفخر والتأسي: -اربعون عاما وانا أغلي القهوة لرفيقة العمر (لميعة ) حتى يوم رحيلها قبل عامين ،لم اتوقف يوما عن اعداد القهوة لها ، أنا أجيد غلي القهوة ، لاتتدخلن في اختصاص عمري .. تقول دنيا او داليا : بل نحن نعدها استرح استاذ . يقول بإصرار: هذه فرصة لن تتاح لسواي من الرجال ان اعد القهوة لسيدات رائعاتو مبدعات رائعات أيضا .. 6 بعده لم يحدثنا احد عن موسيقى الباروك وقداسات باخ ولم نعرف أحدا عرّب كلمة (سويت ) وجعلها (متوالية موسيقية) ولم نعد ننصت الى التراتيل المقدسية بصوت تانيا ناصر مع عزف السيدة اغنس بشير العراقية – الجورجية زوجة الموسيقار فكري بشير ، ذات يوم فرط شريط التسجيل من الطراز القديم وجاهدنا جميعا لإعادته الى البكرة لكننا عجزنا فقال لنا : لابأس هذه فرصة لاطلب نسخة منه على الفيديو ، وفي المرة التالية كان قد هيأ شريط الفيديو للحفل الموسيقي ذاته وهرع الينا كطفل فرح لدى الباب يفتح لجمعنا الصغير ويرحب بنا عندما طرقنا زجاج نافذة المكتبة ( التي دمرها التفجير الوحشي ) كان جرس البيت عاطلا والموسيقى دافقة في الغسق ، فنقرنا كعصافير المساء الخجلة على الزجاج فعرف نقراتنا الحيية وطفح وجهه بشرا وهو يفتح لنا باب الحكاية .. 7 كان يقول لي : ان فن الكتابة – فن النص المعاصر يجب ان يؤسس على وعي حاد بالزمن – الزمن العمودي بطبقاته المتعاقبة ويقوم ايضا على استيعاب ثمار الفكروالفلسفة والمعرفة والموسيقى والفنون كلها ، الادب يجب ان يتقدم الجموع لاأن يتبعها وينصاع لها ، الادب يقود ولايقاد .. يقول ايضا : الكتابة مثل التأليف الموسيقى ، انا حرصت على هذا في جميع رواياتي - وحياتي ايضا – انا احببت كتابتك يالطفية لانك امسكت بالسر فعلتيها نصوصك تحفل بالموسيقى والجمال وتستحضر الازمنة بسلاسة التدفق الموسيقى .. وعيت الدرس قبل حديث جبرا وتمسكت به بعده واستغرقتني موسيقى الكتابة وكلما انجزت نصا او رواية تذكرت كلماته الحانية وموسيقى الباروك التي كان لايمل سماعها ، كان باخ حاضرا كل مساء موسيقى كنسية وموسيقى دنيوية تغمر فضاء المكتبة الصغيرة في بيت جبرا .. 8 كان يعتزم الشروع بكتابة رواية جديدة وبدا انه محتدم باجوائها وشخوصها وقال : - المهم في الرواية الصفحات الثلاث الأول ، وبعدها تتدفق الرواية مثل سيل ، أنا محتشد بتفاصيل هذا العمل لكن المشكلة الوحيدة هي في اتخاذ قرار البدء متى يقرر المرء العمل ، ربما سأبدا قريبا .. أساله : وماذا تكتب الان ؟؟ -مسودة كلمة كان مفترضا ان القيهافي ملتقى الشعر العربي في تونس حيث سيجري تكريمي هناك – إنما تعرفين السفر مرهق – أجد صعوبة بالسفر في السيارة الان وفي برد الشتاء ، لاطيران في العراق الان ، سيقرأها الصديق ماجد السامرائي نيابة عني .. لا لن اسافر ، لاطاقة لي على تحمل مشاق السفر .. نعم عرفنا ذلك فقد غير وجهة سفره الى الأقاصي وغادرنا دونما وداع .. مررت امام البيت مساء تشييعه وسمعت موسيقى باخ تتسلل من نافذة الغرفة التي صارت رمادا الان ولم اترجل من السيارة لانه كان منشغلا بلذة الغياب ولن يسمع طرق اصابعي على النافذة المغبرة في ذلك المساء ..
كانت هذه الشذرات من الذكريات مشروع مقالة طويلة عن الراحل جبرا ابراهيم جبرا أعيد الان لم شتاتها بعد فاجعة الانفجار التي استهدفت السفارة المصرية في شارع الاميرات حي المنصور. |