|
|
الديمقراطية التوافقية ... المغالطة الكبرى |
|
|
|
|
تاريخ النشر
14/04/2010 06:00 AM
|
|
|
شهد الشهر الماضي اكثر من تصريح يتعلق بالنظام السياسي في العراق، التصريح الأول اطلقه السيد رئيس الوزراء، تضمن تحفظاته على ما أسماه "الديمقراطية التوافقية" في العراق، لأنه حمل في طياته مشاكل عانت منها الحكومة الحالية، ومن ثم، فانه يؤيد مبدأ الديمقراطية الذي يمنح "الأكثرية" حق تشكيل الحكومة، كما عد النظام الرئاسي أفضل من النظام البرلماني الذي أنتجه دستور عام 2005. واطلق التصريح الثاني القيادي في المجلس الأعلى الاسلامي صدر الدين القبانجي خلال لقائه مجموعة من طلاب الحوزة العلمية في النجف، تحدث فيه عن حق الشيعة في الحاكمية في العراق بوصفهم "الأكثرية". أما التصريح الثالث فقد صدر عن مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، وتحدث من خلاله عن أن العراق لا يحكم بأغلبية طائفية وإنما بأغلبية سياسية. هذه التصريحات الثلاثة فتحت الباب أمام ردود متباينة افادت، في مجملها، ان "الديمقراطية التوافقية" خيار لا بديل عنه. والواقع ان التصريحات الثلاثة المتقدمة والردود عليها تنطلق كلها من مقدمة مفادها أن النظام السياسي العراقي هو نظام ديمقراطي توافقي يقبله البعض و يعترض عليه البعض الاخر! و مع ذلك ينبغي ان نطرح السؤال اللآتي : هل النظام السياسي في العراق نظام ديمقراطي توافقي، ام نحن يإزاء مغالطة بحتة شاعت بعد نيسان 2003؟ و للاجابة عن هذا السؤال لا بد من تحديد مفهوم الديمقراطية التوافقية بداية. يتحدث آرنست ليبهارت في كتابه "الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد" عن ان احد القضايا الثابتة في علم السياسية هي صعوبة تحقق الديمقراطية المعيارية بنموذجها البريطاني الذي يقوم على مبدأ حكم الأكثرية، والذي يسميه نموذج المعارضة ـ ضد ـ الحكومة، في المجتمعات التعددية. وأن البديل لا بد ان يكون ما يسميه "الحكم بالاجماع"، أي الحكم من خلال ائتلاف واسع، ويتحدث عن أربعة خصائص أساسية للديمقراطية التوافقية: أولا. الحكم من خلال ائتلاف واسع يضم الزعماء السياسيين من القطاعات الهامة في المجتمع التعددي. ثانيا. الفيتو المتبادل، الذي يستعمل كحماية إضافية لمصالح الأقليات الحيوية. فهذا الفيتو هو وحده ما يمنح كل مكون ضمانة كاملة للحماية الأساسية. ثالثا. التمثيل االنسبي في التعيينات في مجالات الخدمة المدنية، وفي تخصيص الأموال العامة. رابعا. درجة عالية من الاستقلالية لكل مكون في ادارة شؤونه الداخلية الخاصة. ويعمد الكاتب الى تحليل طبيعة الديمقراطية التوافقية الناجحة في أربعة بلدان أوربية صغيرة هي النمسا، وبلجيكا، وهولندا، وسويسرا. فضلا عن بلدين مشرقيين هما لبنان وماليزيا. كما يتحدث عن إخفاق هذا النموذج في حالة قبرص. وينهي الكاتب كتابه بتقرير الحقيقة التالية: ((الخيار الواقعي بالنسبة الى الكثير من المجتمعات التعددية في العالم غير الغربي ليس خيارا بين النموذج المعياري البريطاني للديمقراطية والنموذج التوافقي، بل بين النموذج التوافقي للديمقراطية وبين انعدام الديمقراطية تماما)). هذه هي باختصار خصائص الديمقراطية التوافقية، فما مدى حضور هذه الخصائص في النظام السياسي العراقي؟ يشيردستور 2005 الى ان العراق بلد تعددي (المادة 3)، و يدعو الى مراعاة "التوازن" بين مكونات المجتمع العراقي في بناء القوات المسلحة (المادة9/أولا)، وينص على مسألة إدارة كل مكون لشؤونه الخاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية (المادة 41)، وإدارة الأوقاف والشؤون الدينية (المادة 43/ب)، إلا أن قراءة هذا الدستور و تحليل مواده يبين بوضوح أننا بأزاء نظام سياسي برلماني يقوم بالكامل على مبدأ "الأكثرية". فالمادة (49/ثانيا) تنص على أن: ((تتخذ القرارات في جلسات مجلس النواب بالأغلبية البسيطة بعد تحقق النصاب ما لم ينص على خلاف ذلك))، وهذا يعني ببساطة أن العنصر الأول والأهم في الديمقراطية التوافقية لا يتحقق ، فالأغلبية البسيطة تطيح تماما بمبدأ الحكم بائتلاف واسع. وحيث ان الأحزاب والتجمعات السياسية الرئيسية في العراق تقوم على أسس إثنية ومذهبية، فإن التشابك بين "الأكثرية السياسية" و"الأكثرية الديمغرافية" سيبقى قائما، ولا مجال للفصل بينهما. كما أن الدستور أغفل تماما الحديث عن "الفيتو المتبادل"، ما عدا الجملة التي نقلت عن "قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" 2004 ، الواردة في المادة(142/ رابعا) والتي تتحدث عن رفض ثلثي ثلاث محافظات أو أكثر. وهي مادة كانت مصممة للكرد حصرا ولا يمكن عدها فيتو متبادل، لأن التوزيع الجغرافي للسنة العرب، لم يتح لهم الافادة من هذا الفيتو المفترض على الرغم من أنهم ديمغرافيا اكثر من الكرد! ولا يمكن عد صلاحية رئيس الجمهورية (أو مجلس الرئاسة حاليا) بعدم المصادقة على القوانين (المادة 73/ثانيا) فيتو رئاسيا يمكن أن يتم الدفع به، لأن بامكان مجلس النواب تجاوز صلاحية الرئيس هذه، (المادة 138/ج)، فضلا عن أن الرئيس بدءا من العام القادم، سيكون ممثلا لمكون واحد ، ومن ثم لا يمكن أن يعكس ذلك مبدأ الفيتو المتبادل المقصود هنا. والدستور أغفل تماما الإشارة الى قضية التمثيل النسبي في التعيينات في الادارة المدنية العامة. لاسيما أنه لا وجود لإحصائية دقيقة تظهر الحجم الحقيقي لكل مكون، ومن الواضح من النماذج الخاصة بالتعداد السكاني القادم انه ليست هناك آليات لمعرفة الوزن الديمغرافي للمكونات جميعا، حيث لم يشتمل النموذج على سؤال يتعلق بالمذهب، ومن هنا فان الادعاءات المتعلقة بهذا الأمر ستبقى قائمة مما يمنع الوصول الى تمثيل نسبي حقيقي حتى في القوات المسلحة التي تحدث عنها الدستور. أما بالنسبة للخصيصة الرابعة والمتعلقة بالادارة الذاتية، فهي متحققة فيما يخص إقليم كردستان حصرا. وعلى الرغم من اللامركزية القائمة، فإن طبيعة التوزيع الجغرافي، لا تجعل مثل هذا الأمر متحققا (في بغداد وديالى مثلا مع نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة). بخاصة في ظل صعود القوى السياسية الرافضة لفكرة الأقاليم التي أقرها الدستور، وعدم تطبيق (المادة 41)، بل والحديث عن دمج الوقفين السني والشيعي في كيان واحد. ببساطة ليس ثمة شيء من الديمقراطية التوافقية في نص الدستور العراقي. إنها أسطورة قامت على ممارسات سياسية براغماتية لا تستند إلى اي إطار دستوري او قانوني، كما انها لم تتحول إلى اعراف غير مكتوبة، أو قواعد متفق عليها بدليل هذه التصريحات المتكررة عن رفضها، ومن أعلى المستويات. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. يحيى الكبيسي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|