لاهمية الحوار الشامل الذي اجراه عبده وازن في جريدة الحياة ولتشعبه نعيد هنا نشره بالكامل على حلقتين.
**
قد لا يحتاج هذا الحوار مع الشاعر أدونيس الى مقدمة، فالشاعر يقدّم نفسه هنا، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً. إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثاً عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجهاً آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى. إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.
أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.
الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة. هذا الشاعر الكبير الذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحياناً في موقع المساءلة. يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية والمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكناً حصره داخل تخوم الشعر والقصيدة، فهو مفكر أيضاً، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثور ويتمرّد... ولا يهادن. هذا الشاعر الذي يختصر عصراً بكامله، بأسئلته الشائكة وشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادراً ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي ما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقين بعينه.
> من الشخص الأول الذي ترك أثراً في حياتك؟
- والدي!
> كيف تتذكر والدك؟
- كان تأثيره يفعل بصمت، ودون وعيٍ منّي. وعي حقيقي. هكذا لم اكتشف هذا التأثير إلا بعد موته. ومات في الستينات من عمره، بشكل مفاجئ في عام 1951، في حادث سيارة احتراقاً مع جميع ركابها. هذا الموت أنشأ بيننا علاقة جديدة، قوامُها الذكرى. صرت أستعيد حياتي في ظله، قبل موته، في البيت، في القرية، في الحياة العامة. صرت أتذكر هذا كله، وأشعر فيما أتذكر أنه لم يكن أباً، بقدر ما كان صديقاً. ومن جديد، أخذت أتعرف إليه، بوساطة التذكّر، لا سيما كيف كان يعاملني وأنا طفل.
> الى أي طبقة كان ينتمي والدك؟
- الطبقة ما دون الوسطى، إن صح أن نستخدم هنا كلمة «طبقة». يمكن أن تنطبق عليه كلمة «فلاّح» أو «مزارع»، مع أنه كان لدينا عامل يُسمى في القرية «مرابع» – يأخذ ربع ما يجنيه من الأرض التي يحرثها ويزرعها ويحصدها، أو من الأشجار المثمرة التي يقطفها، وبخاصة الزيتون. ولم تكن لدينا أرض كثيرة تستحق أن يشرف عليها «مرابع». إنما كان لأبي وضع معنويّ كبير ومتميز، بسبب علمه وكرمه. فقد شُيّخ، مثلاً، مع أنه لا ينحدر من عائلة شيوخ. شيّخ تكريماً وتقديراً. هذا الوضع هو الذي استدعى أن ينوبَ عنه عاملٌ للعناية بما كان يملكه، على قِلّته.
أذكر أنه لم يكن يفرض عليّ شيئاً. كان يترك لي حرية التصرف إلا في ما يتعلّق بالحرص على التعلم. ولم تكن عندنا آنذاك مدرسة. كنت أذهب الى «الكُتّاب»، نهاراً، وفي المساء كان هو نفسه يعلّمني قراءة الشعر العربي، ويحاول أن يجعلني، في الوقت نفسه، أحفظ القرآن عن ظهر قلب.
> هل كنت ابنه شبه المدلل؟
- كنت ابنه البكر. غير أنه كان يهتم كثيراً بإخوتي: محمد، وحسن وحسين وليلى وفاطمة التي كانت طفلة عندما توفي. في هذا كله، أكتشف الآن مدى تفتّحه، وصداقته. وكيف كان يحرص على تربيتنا، منمّياً فينا روح الحرية والاستقلال.
كان يأخذني معه في بعض زياراته الى أصدقائه خارج قريتنا، في قرىً أخرى مجاورة أو بعيدة. ويقدّمني إليهم بشيء من الفخر والزهو.
غير أنه، كما أتذكر الآن، كان يشعر بالمرارة عند كان يرى بعض أصدقائه يرسلون أولادهم الى التعلّم في مدارس المدينة، بينما لا يقدر هو، لضعف إمكاناته المادية أن يرسلني الى المدينة للتعلم مثلهم. هكذا بقيت في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، دون مدرسة. وحتى هذه السن لم أعرف سيارة، ولم أر الهاتف، أو الكهرباء... إلخ. ثم حدثت المفاجأة – الأعجوبة. ففي سنة 1943، أخذت سورية استقلالها عن فرنسا، وسمّيت الجمهورية السورية، وانتخبت رئيسها الأول: شكري القوتلي. وانتشر خبر قراره بزيارة المناطق السورية للتعرّف إليها، ومن ضمنها منطقة جبلة. ولا أعرف كيف خطرَ لي أن أكتب له قصيدة، وأن ألقيها أمامه، وكيف خُيّل إلي أنها ستعجبه، وأنه بناءً على ذلك، سيدعوني لرؤيته، وأنه سيسألني: ماذا أقدر أن أقدّم لك، وأنني سأجيبه: أريد أن أتعلّم، وأنه سيُلبي هذه الرغبة.
وفعلاً، تمّ هذا كله كما تخيلته، وحرفياً تقريباً. وكانت المدرسة الأولى التي دخلتها، المدرسة الفرنسية الأخيرة في سورية أو مدرسة اللائيك، للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. طبعاً، كانت هناك أهوالٌ دون إلقاء القصيدة أمام رئيس الجمهورية. يلقيها قروي طفلٌ في الثانية عشرة من عمره، فقيرٌ، وليس له أي سند. لكنها تفاصيل يطول الدخول فيها، ولذلك أرجئ الخوض فيها، وإن كانت ممتعة وعظيمة الدلالة.
> بعض التفاصيل...
- دخلت المدرسة سنة 1943 وأنا بالقمباز القروي. كان طُلابها جميعاً من أبناء الأثرياء في مدينة طرطوس، وفي ضواحيها، وفي مدينة صافيتا المجاورة، وما حولها. وبقيت بينهم، بالقمباز، حوالى ثلاثة أشهر، كأنني أعيش في حلم. ثم جاءتني بدلة على الطريقة الغربية، وكانت واسعة جداً. وأتصوّر الآن أنها كانت مضحكة. لكن. هذا تفصيل، كما أردت.
تفصيل آخر. بعد أن سمع الرئيس القصيدة أخذ شطراً من بيت فيها، وبنى عليه خطابه. الشطر هو: «فأنت لنا سيفٌ، ونحن لك الغِمْدُ». تفصيل ثالث. تجاذبَني منذ دخولي المدرسة اتجاهان: شيوعي، وسوري قومي. ترددت كثيراً بينهما. ثم، ذات صباح، رأينا على باب المدرسة بضعة طلاب قيل لنا إنهم طردوا منها. وعندما سألت عن السبب قيل لي: لأنهم تظاهروا ضد وجود حامية فرنسية في مدينة طرطوس، كانت قد استمرت بعد الجلاء. فقررنا مباشرة، بعض أصدقائي وأنا، أن ننتمي الى الحزب السوري القومي، تأييداً لهؤلاء الطلاب، وتعاطفاً معهم. هناك تفاصيل أخرى مؤلمة...
> أذكر منها واحداً على الأقل...
- هيّأ زعيم المنطقة آنذاك، أي زعيم العشيرة، استقبالاً كبيراً للرئيس على الطريق الرئيسة المؤدية الى مدينة جبلة، مركز المنطقة. وكنت في البداية أفكر بإلقاء القصيدة في أثناء هذا الاستقبال. لكن عندما رآني زعيم العشيرة، وعائلتي تنتمي إليها تقليدياً، أمرَ بطردي قائلاً: لا أريد أن أراه، هنا. والسبب هو أن أبي لم يحضر، فقد كان مناوئاً له، بينما حضرت العشيرة بكاملها الى جانب حلفائها.
> لكن، صورة الأب غير موجودة لديك، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الرمزي أو الشعري.
- ربما، على المستوى الشخصي، إلا في مقطوعتين صغيرتين كتبتهما تحية ورثاء. أما على المستوى الرمزي، فأعتقد أنه عميق الحضور في شعري، لكن على نحو معقّد أختصره في هذه الصيغة: ضد الأبوّة مع الأب.
> هل كانت ثورتك على الشعر القديم ثورة على الأب، كذلك؟
- على الأبوّة، بالأحرى. لا نثور على الأب شخصاً ووالداً، وإنما نثور على أُبوّته معرفة وسلطة.
> هناك شخص كان حاضراً في حياتك أكثر من والدك وهو شيخ من العشيرة نفسها كان مرجعاً ثقافياً لك.
- هو الشيخ أحمد محمد حيدر. وأنت هنا تبالغ كثيراً. لقد تحدثت عنه مرة واحدة، في ذكرى تأبينه، في قصيدة عمودية قرنتُ فيها بينه وبين أبي. كانا صديقين، وكانا معاً ضد زعيم العشيرة، الذي أشرت إليه. إضافة الى أنهما كانا بين المجددين في ميدان الدين. كانا معاً بين أهم رموز المعارضة للزعامة العشائرية، أو الطائفية آنذاك. وهي معارضة لاقى أبي، بسبب منها، صعوبات كثيرة في حياته وعمله.
> تحدثت عن والدك بشغف، كما لو أنه رأس البيت وظلّه وكل شيء فيه. كيف تنظر الى والدتك، خصوصاً أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور في حياتك؟
- الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة الى الأب الذي هو دائماً في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بها لا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصاً أنها لا تقرأ ولا تكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم.
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لم أعد أراها إلا قليلاً في العُطَل المدرسية. حتى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو «تربيتي العقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية. هي في حياتي، منذ البداية، جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءاً من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلة الشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافة الأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معاً. وعندما يحدث أن يموت الأب باكراً، وتبقى الأم بعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة. مثلاً، أين تسكن الأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيق زوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهم معهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، في حالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحس الحضور.
ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابناً يضع أمه في مأوى للعجزة. لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضها الشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي، غالباً، «ثقافة» الأم، و «الثقافة» التي هي غالباً «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناك مشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناك قضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرح وتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية.
> أشعر أنك تتكلّم عن الأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هل تركت أثراً؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟
- الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة إليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائناً مفرداً، مستقلاً، منفصلاً، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنما أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها الى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أو الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن شاعراً أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعاً» أو «شيئاً»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها.
> وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ الى خبز أمي؟ ألا يترك هذا أثراً وجدانياً فيك؟
- تقصد شعرياً؟ هذا البكاء الشعري، بالأحرى يضحكني.
> هل عنت لك الأم شيئاً كامرأة؟
- أيضاً هذه من المشكلات الثقافية – الاجتماعية: وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقال لا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأة جميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيده وأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء. منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة من عمري كنت جزءاً من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هي بالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي، أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة. المدينة ابتكار إنسانيٌّ عظيم، لكن نحن أبناء الريف لم نعرفه إلا متأخرين جداً. لذلك الأمور عندنا مختلفة. هناك فرق كبير بين حياة الريف وقيمه وحياة المدينة وقيمها. هناك فجوة يمكن أن تكون السبب في كون حياتي اليوم حتى سن العشرين نوعاً من التذكر، نوعاً من الاستعادة أكثر مما هي جزء مكوّن من حياتي أعيه وأستطيع أن أحلله أو أتأمل فيه.
> متى خرجت على ثقافة العائلة والبيئة والقرية؟
- بدأ هذا الخروج مع عملي في الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان، وأعتقد أنه لا يزال حتى الآن، يمارس الحياة المدنية داخل صفوفه، وفي العلاقات ما بين أعضائه.
> من الشخص الأول الذي ربطك بالحزب؟
- لم أدخل الحزب بتبشير من شخص بعينه، وإنما دخلته، مصادفة، بفعل الحادثة التي أشرتُ إليها، وأعني طرد طُلاب ينتمون إليه، من المدرسة – اللاّئيك. غير أن المسؤول الذي تولى إدخالي رسمياً كان الأستاذ إلياس جرجي قنيزح.
> هل تعرّفت الى أنطون سعادة شخصياً؟
- قابلته مرتين. الأولى، عام 1947 كما أتذكر، في أثناء زيارته اللاذقية، أو 1948. كان ذلك في حفلة استقباله، وكنت في السابعة عشرة من عمري. ولعل قيادة الحزب هي التي شاءت أن أتعرّف إليه، لأنني كنت بدأت أبرز في الحركة الطلابية، لا شاعراً «قومياً»، فقط، بل ناشطاً فعّالاً، أيضاً، في صفوف الطلاب. رجل ساحر: هذا هو انطباعي عنه في هذه المرة.
المرة الثانية، كانت في مكتبه في بيروت، عام 1948. المناسبة هي أنني فزت بجائزة «العروة الوثقى» الأولى، في مسابقة شعرية تدور حول موضوع «اليتيم». كان حلماً، بالنسبة إليّ، أن آتيَ الى بيروت. أن ألقي قصيدتي في قاعة «الوست هول» في الجامعة الأميركية، كما أخبرني المشرفون على الجائزة. وقد نَظّم مسؤولو الحزب في اللاذقية أمرَ مجيئي الى بيروت، وكانوا مسرورين جداً. ونظّم لي مسؤولوه في بيروت أمر زيارة الزعيم، كما كنا نسمّيه، في مكتبه. هكذا، منذ وصولي الى بيروت، وقبل ذهابي الى الجامعة الأميركية، زرته، وبقيت معه فترة قصيرة، لم أعد أذكر شيئاً مما قاله لي. أذكر أنني أصغيت إليه، مأخوذاً به – بشخصه، وتواضعه، وبساطته، وحضوره المُدهش. ولم أكن قرأت من كتاباته إلا أشياء قليلة.
في الجامعة، أصرّ القوميون على أن ألقي القصيدة، واضعاً شعار الزوبعة. لكن، عندما رآه أعضاء الرابطة، غضبوا ورفضوا أن ألقيها وأنا أضعه. وعندئذٍ حدثت شبه معركة بينهم وبين القوميين تدخل فيها رئيس الجامعة وقتذاك، الدكتور قسطنطين زريق. وحلّت المسألة بانتصار القوميين، ويبدو أنهم كانوا يشكّلون الأكثرية الفاعلة بين طلاب الجامعة. كانت معركة شكلية، يمكن تفاديها. منذ ذلك الحين، أخذت أقرأ أنطون سعادة، خصوصاً كتاباته حول الأدب، مثلاً كتابه المهم: «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وقد أثّر فيّ كثيراً. في كل ما يتصل بالعلاقة بين الشعر والأسطورة، وبينه وبين القارئ. وكانت له في هذا الصدد مقولة بالغة الأهمية، وهي أن الشعر يجب أن يكونَ منارة لا مِرآة.
جذبني في الحزب، في تلك الفترة، الجانب المسلكي، النظريّ والعمليّ. فقد كان أعضاؤه يعيشون في ما بينهم مبادئهم في العلمانية، واللاطائفية، وحرية التديّن أو اللاتديّن، واحترام المرأة والنظر إليها بوصفها، كالرجل، حقوقاً وحريات وواجبات. حتى أن بعض القوميين كانوا يتزوجون مدنياً، في ما بينهم، قبل أن يسجّلوا زواجهم، رسمياً أو شرعياً. وزواجنا، خالدة وأنا، تمّ أولاً في الحزب، ثم سجّلناه، طبقاً لأعراف الزواج الرسمية. وجذبتني أيضاً بعض الأفكار، كمثل موقف أنطون سعادة من العروبة، واللغة العربية. وكمثل رأيه في شخصية أو هوية المجتمع السوري، وفي النظر الى ثقافة الغرب أو الحضارة الغربية.
> هل توضح هنا ما تقصد إليه؟
- مثلاً، كان يقول، وهذا في صلب دستور الحزب، إن الأمة السورية أمة عربية، وإن الثقافة العربية جزءٌ أساسي ومكمّل للثقافات التي سبقتها في سورية: الكنعانية، الفينيقية، والبابلية – الأشورية، والسومرية... إلخ، وإن هذه الثقافات كلها تشكل وحدة لا تتجزأ. لكن، بما أن الثقافة العربية واللغة العربية آخر ما احتضنته سورية، فإن الثقافة السورية ثقافة عربية، ولغتها هي اللغة العربية. كان أنطون سعادة، للمناسبة، يعشق اللغة العربية. وقيل لي إنه كان يتحدث في البيت مع أطفاله باللغة الفصحى.
> هل لديك مثل آخر؟
- نعرف جميعاً أن هذه البلاد تتألّف بشرياً من أقوامٍ متعددين في أصولهم وثقافاتهم. ورداً على العِرْقية في النظر الى الشعب، كما كان يقول دعاة القومية العربية، الذين نظّروا لها كأنها نوعٌ من العنصرية، ابتكر مفهوماً جديداً هو «السلالة التاريخية»، قائلاً إن الشعب السوري مزيج مركّب فريد من السريان والآشوريين والأكراد والأرمن والعرب وغيرهم، وأنهم تمازجوا عبر التاريخ بحيث يشكلون سلالة تاريخية واحدة، في ما وراء الأعراق. وهكذا يكون العرب جزءاً لا كُلاً. ويزول كذلك مفهوم الأقليات. ومن أجل ذلك قال بانتساب الشعب الى الأرض التي يعيش عليها، لا إلى اللغة، ولا إلى الدين، ولا إلى العِرْق. فالناس الذين يسكنون في سورية هم شعبٌ سوري، لا فرق بين فرد أو آخر، وبين أصل عِرقيّ أو آخر. الوطن واحد، والشعب واحد. والمواطنية هي الأصل. لا الانتماء المذهبيّ أو العِرقي أو اللغوي. والمخجل أن بعض كتّاب اليسار لا يزالون يتّهمونه بالنازية.
> كيف عشت لحظة إعدامه الأليمة؟
- أعدم بطريقة لا يقرّها إنسانٌ عاقل، أو يحمل ذرة من احترام نفسه، واحترام الإنسان وحقوقه. وكان إعدامه جريمة مريعة. جريمة بشعة. وسوف تبقى عاراً كبيراً في تاريخ لبنان، السياسي والحقوقي.ولا أزال أتساءل باستغراب كبير، كيف أن الكتّاب والمفكرين اللبنانيين والعرب، لم يقولوا كلمة واحدة ضد هذا الإعدام. باستثناء كمال جنبلاط.
> الشائع أنه هو الذي اختار لك اسم أدونيس...
- هذا خطأ. فأنا نفسي اخترت هذا الاسم. ولهذا الاختيار قصة رويتُها كثيراً، ولا أريد أن أكررها.
> كيف كانت علاقتك ببعض القوميين الكبار من أمثال فؤاد سليمان وغسان تويني؟
- كان لهما احترامٌ كبير عندي. لم أكن اجتمع بهما، غير أنني تتلمذت عليهما في أشياء كثيرة. أذكر انني زرت فؤاد سليمان في مستشفى الجامعة الأميركية، في أواخر حياته. شعرت أنه فرح جداً بهذه الزيارة التي كانت الأخيرة. أما غسان تويني فقد توثقت علاقتي به، بعد أن تخلّى كلانا عن العمل الحزبي. عرفت كذلك سعيد تقي الدين، وكان إنساناً فريداً. ساعدني كثيراً في حياتي الأدبية، وهو الذي كتب مقدمة لقصيدة «قالت الأرض».
> مَن مِنَ القوميين أيضاً كان لهم حضورٌ في حياتك؟
- هشام شرابي. يوسف الخال، وكان قد ترك الحزب عندما التقيته في بيروت، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. محمد يوسف حمود، وكان شاعراً شديدَ الالتزام بالحزب. وكان هناك شعراء انفصلوا عن الحزب، قبل أن أعرفه، غير أنني قرأتهم وأَفَدْتُ منهم كثيراً، مثل سعيد عقل وصلاح لبكي.
> هل كان لديك موقف نقدي معيّن من أنطون سعادة؟ هل حاولت أن تعيد قراءته، على ضوء العلوم الجديدة، والمعطيات السوسيولوجية الجديدة؟
- أبداً. الحقيقة أنني لم أنتقده، وإنما حاولت فهمه وتأويله، بطريقة خاصة، ومختلفة. مثلاً، في ما يتعلق بآرائه في الأدب، وفي الدين، وفي الاقتصاد، وفي السياسة. لكن تأويلي هذا لم يكن يلاقي، غالباً، التأييد أو التحبيذ.
مرة، مثلاً، كتبتُ افتتاحية في جريدة «البناء»، في أواخر الخمسينات، بعنوان: «يسارية الحزب القومي الاجتماعي»، فأحدثت ضجة، وغضب عليّ بعض قادة الحزب، مثل أسد الأشقر، وإنعام رعد. والغريبُ أنهما، بعد فترة، أخذ كلاهما يتحدث عن يسارية الحزب، ويبشّر بها، ويدافع عنها. مقابل ذلك، كنت أنتقد كثيراً، وباستمرار، الممارسة الحزبية القيادية، وبخاصة، على الصعيدين السياسي والثقافي. وهو انتقادٌ أدّى في الأخير الى أن أنفصل نهائياً عن العمل الحزبي، وعن الحزب. وصرت أنظر الى أنطون سعادة، بوصفه مفكراً، وفي استقلال كامل عن الحزب الذي أنشأه وكنت عضواً فيه.
> هل شعرت بأنك أصبحت أكبر من أن تكون حزبياً؟
- لم أطرح بهذه الطريقة مسألة علاقتي بالحزب، خصوصاً أنني كنت، طوال بقائي في الحزب، حراً في فكري وعملي.
> لم تشعر يوماً أنك تنتمي الى فكر أنطون سعادة؟
- لا يمكن أي عاقل يعمل لبناء مجتمع جديد، إلا أن يتبنى كثيراً من أفكار أنطون سعادة، في فصل الدين عن الدولة، والعلمانية، ووحدة المجتمع في سلالة تاريخية، وفي العلاقة بالآخر، وفي كثيرٍ من قضايا الأدب، والثقافة بعامة. أقول: يتبناها، لكن طبعاً، منظوراً إليها دائماً في أفق التغيّر والصيرورة. هكذا لا أزال، شخصياً، أَسْتضيء بكثير من آرائه.
> هشام شرابي، كيف تنظر إليه؟
- أكاديمي من طراز أوّل. كان، بوصفه كذلك، رجل بحث واستقصاء، تركيب وتأليف. أضاف كثيراً الى النظرة النقدية عند العرب، في الثقافة والاجتماع. أطروحته عن البطركية، أو الأبوية، في المجتمع العربي بالغة الأهمية. وما كتبه عن فلسطين، عميقٌ وآسرٌ.
> كيف كانت علاقتك بخليل حاوي؟
- معقدة ومرتبكة. لكن، لم أقل عنه كلمة واحدة سيئة، خلافاً لما كان يقوله عنّي بين أصدقائه وتلامذته.
> هل أثرت السياسة في هذه العلاقة، فهو كان قومياً عربياً على ما بدا؟
- على العكس، كان سورياً قومياً. وكان عضواً بارزاً في الحزب. المسألة بيننا كانت شعرية. كنتُ، لسبب أو آخر، أكثر حظوة منه في صفوف الحزب، على الصعيد الشعري. ولهذا كان يغار مني كثيراً. ولم تنشأ بيننا علاقة صداقة.
> متى انقطعت علاقتكما؟
- لم تكن هذه العلاقة، منذ البداية، أكثر من علاقة تعارف. وأكرر أنني من جهتي، لم أقم بأي عمل يمكن أن يسيء إليه، شخصاً أو شعراً. كنت حريصاً جداً على احترام مكانه ومكانته.
> كيف تستعيد صورة خليل حاوي الآن، بعد هذا الزمن، وهل تقرأه؟
- لا أقرأه. كما انني لا أقرأ الشعراء الذين جايلتهم. غير انني أرى في شعره أمرين مهمين: الأول، هو أنه كسر اللغة الشعرية المتأنقة الزخرفية القائمة بذاتها والتي تتمثل، أساسياً، في شعر سعيد عقل. وهو في ذلك يتابع شعر الياس أبي شبكة. الثاني، هو أن الشعر عنده قائمٌ جوهرياً على رؤية للإنسان والعالم، لا انفصال فيها بين الشعر والفكر. هكذا أحترم تجربة خليل حاوي، وإن كنت لا أتذوق شعريتها، جمالياً.
> لكنّه تحوّل الى القومية العربية؟
- لا أظن. لا أرى في كتاباته انعطافاً نوعياً يفصله عن رؤية أنطون سعادة الثقافية. وهذا لا يعني أنه لم يتعاطَف سياسياً مع القضايا العربية.
> هل هذا ينطبق عليك؟ أصلاً، أنت كنت خارجاً من الأساس لأنك اشتغلت كثيراً على التراث العربي.
- قد نكون متفقين في ما يتعلق بالأمرين اللذين أشرتُ إليهما، على المستوى النظري. غير أن الشعر، كما تعرف، يفلت أخيراً حتى من النظرية التي يُكتَب باسمها، أو يصدر عنها. والأساس إذاً في نقد الشعر أو تذوّقه لا يُلتمس في اتجاه الشاعر أو في النظرية التي يقول بها، وإنما يُلتمَسُ في نسيج الشعر ذاته، في طريقة تعبيره، وفي بنيته اللغوية – الجمالية. وفي هذا نحن مختلفان.
> ماذا باتت تعني لك القومية، السورية أو العربية أو غيرهما في زمن العولمة؟ لقد فقدت القومية في العصر الراهن مسوّغاتها، حتى بات الانتماء القومي أشبه بالتهمة؟
- لا أظن أن الانتماء القومي انتهى، أو سينتهي. ربما يحصل ذلك عند أفراد. لكن، أستبعد ذلك عند الشعوب. في ما يتعلق بي صرت بعيداً جداً عن النظر الى القومية نظرة أيديولوجية سياسية. لكن الانتماء الى لغة وشعب وثقافة شيء آخر، وهو أمرٌ مفروض بحكم الطبيعة والواقع.
> هل يمكن القول إن أنطون سعادة صار من التراث؟
- هو من التراث، بالمعنى الإيجابي العميق. وهو لذلك، لا يزال حاضراً، وحيّاً. لكن، بوصفه مفكّراً ورائياً، لا بوصفه مؤسسة حزبية.
> الى أي من شعراء الحزب السوري القومي، كنت تميل؟
- نشأ في الحزب شعراء كثيرون. بعضهم لم أعرفهم إلا بشعرهم. أشرت الى بعضهم ممن سبقوني، وتعلّمت منهم كثيراً. وبعضهم من جيلي. وبعضهم من جيل لاحق. أحببت شعر محمد الماغوط، وسنية صالح، وكمال خير بك، وأورخان ميسّر، تمثيلاً لا حصراً.
> الشاعر السوري بدوي الجبل، كيف كانت علاقتك به؟
- علاقة إعجاب، من جهتي. أما من جهته هو، فلم يكن مرتاحاً الى اتجاهَي الحديث في الشعر. ولا أعرف إن كنت تعرف أنه قريبي. فهو ابن خال أمي، عائلياً.
> بدوي الجبل، ترك فيك أثراً؟
- ربما. وقد يكون أثره فيَّ أكيداً. غير أنني لا أعي ذلك، ولا أعرفُ أن أدلّ عليه. بدوي الجبل هو بالنسبة إليّ، آخر شاعر كلاسيكي عربي كبير.
> كيف تنظر الى كمال خير بك؟
- كان يمثّل في شخصه الوحدة بين الشعر والحياة. كان في عمله شاعراً، وفي شعره عاملاً. كان صديقاً نموذجياً. وقد نذر حياته للنضال في سبيل الحزب والقضية الفلسطينية. ومات في حَلْبة النضال.
> وكيف تراه، شاعراً؟
- كان حسّه الشعري عميقاً وعالياً. وقد جسّد وعيه الشعري في كتابه النقدي عن الحداثة في الشعر العربي، أطروحته لنيل الدكتوراه في جامعة جنيف. وهو كتاب – مرجع.
> هل تعرّفت الى إلياس أبو شبكة، شخصياً؟
- كلا، مع الأسف.
> كيف كانت علاقتك مع سعيد عقل الذي كتب، كما يقال، نشيد الحزب القومي؟ وكيف تنظر الآن الى شعره؟ في أي موقع تضعه، هو الشاعر الطالع من صميم اللغة العربية. وما رأيك في دعوته الى القومية اللبنانية والى الكتابة بالحرف اللاتيني؟
- لم تكن علاقتي بسعيد عقل الشخص، جيدة. مع أنني رأيته أكثر من مرة. غير أنني أفدت من لغته الشعرية في سنواتي الكتابية الأولى. كانت امتداداً متألقاً للغة شاعرين أحببتهما: أبي تمام، وأبي نواس. فقد قبضَ فيهما على مفتاحٍ تخييلي – ذهني، أوصله في النتيجة الى أن «يسجن» لُغته في «غرفة العناية الفائقة»، مفصولة عن العالم وأشيائه. غير أنه ابتكر القصيدة القصيرة التي تبدو كأنها تتدلى على صدر اللغة كمثل «عقد فريد». أما قيمة هذه القصيدة، تجربة ومعرفة وكشفاً، فأمرٌ آخر يصعب الآن الدخول فيه. وقد بالغ في اللعب، والتقليبِ والصقل، بحيثُ انحصَر شعره بين عتبتين: «امتلاء» اللغة، و «فراغ» التجربة. وليست دعوتُه الى القومية اللبنانية إلا نوعاً من الأصيص الوطني لهذه اللغة – الزهرة. أصيصٌ بلا ماء.
أما دعوته الى الحرف اللاتيني فدعوة شاعر يُنكِرُ هو بنفسه ما خلق له هويته الشعرية وجعله هو هو. دعوة شاعرٍ يخرجُ من شعره ومن نفسه على السواء. وهي الى ذلك دعوة من يرى الوجود، إنساناً وشعراً وفكراً، في «الحَرف». كأنه يريد أن يُحل الأداة – الآلة، محلَّ خالِقها، الإنسان. إن مشكلة اللغة ليست لغوية. إنها عقلية – إبداعية. مشكلة اللغة في العقل الذي يستخدمها، لا في الحروفِ التي تُشكّلها.
> أخوتك هل كانوا حاضرين في حياتك أم انهم كانوا على هامش هذه الحياة؟ هل أنت على علاقة بهم تتخطى مسألة الدم والقربى أو كنتَ غريباً حتى في العائلة؟
- أعترف أن العلاقة معهم يغلب عليها الطابع العائلي. بعضهم يدرك، خصوصاً أخي محمد وأختي فاطمة، يدركان بعمقٍ معنى نشاطي الشعري والإبداعي إذا شئت، فعلاقتي بهما ثقافية، لكن علاقتي بالأخوة الآخرين يغلب عليها الطابع العائلي.
> ماذا عنت لك العلاقة بالأخت، فهذه العلاقة دار حولها الكثير من الكتابات في الروايات والشعر؟
- لي أختان: ليلى الكبيرة ماتت. والثانية فاطمة. غيابي عن العائلة منذ طفولتي منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري، لم يترك لي فسحة أو مجالاً لاكتشاف مثل هذه العلاقة. العلاقات مع الأخت ومع الأخوة جزء من الثقافة أكثر مما هي جزء من الصلات الحية اليومية وذلك بسبب وضعي الشخصي. اليوم أحرص على رؤية أختي فاطمة باستمرار. خصوصاً أنها فنانة تتمتع بموهبة كبيرة في الرسم.
> فوجئ القراء وأصدقاؤك بأنك بنيت لك مقبرة في القرية وكأنك تريد أن تعود، بعد عمر طويل، الى القرية. ماذا يعني خط العودة هذا؟
- أظن أن الرغبة في العودة الى التراب الذي مسته قدماي للمرة الأولى، هو نوع من الاعتراف بالأمومة، نوع من العودة الى الأمومة لا الى الأبوّة. طبعاً لم أبنِ قبراً كما قيل وإنما أشرت الى أنني أحب أن أقبر في زاوية من مكان معين، في حديقة البيت.
> بعد هذا التطواف الأوليسي الذي عشته ستعود الى القرية. هل تحلم الآن بأن تقضي جزءاً من حياتك في القرية؟
- الحقيقة، هناك مشكلة، من جهة أنا كائن متغرّب منفصل غير مرتبط، مدينيّ. من جهة ثانية لم أعش كما ينبغي مرحلة الطفولة، ومرحلة العلاقة بالأمومة، ومرحلة العلاقة بالأبوة. هل رغبتي في العودة الى القرية نوع من الثأر تقوم به الطبيعة فيّ ضد المدينة، ويقوم به الاستقرار الطبيعي ضد الترحل المديني؟ أعترف بهذه المشكلة، ولا أعرف كيف أحلّلها.
> أسألك كشاعر ومثقف، ألم تجذبك فكرة القومية العربية؟
- لم تجذبني إطلاقاً.
> هل قرأت الفكر القومي العربي، كما تجلّى على أقلام روّاده؟
- قرأت الفكر القومي العربي كله تقريباً بدءاً من زكي الأرسوزي الى ميشال عفلق مروراً بالأشخاص الذين بينهما. بدا لي، وهذا ما تزداد قناعتي به، أن القومية العربية، كما نظّر لها كانت مشكلة تضاف الى المشكلات التي يجب الخلاص منها. كانت القومية العربية في هذا التنظير نوعاً من الدعوة الدينية. كانت تزعم أن الحقيقة كامنة فيها، وأنها تجسّد هذه الحقيقة في الوحدة، وفي الدولة الواحدة. وهذا حجابٌ على حقائق الواقع. حقائق الواقع تؤكد أن هناك عناصر كبرى متعددة ومتنوعة ومتباينة تشكل المجتمع العربي. فكرياً وإنسانياً، لا يمكن أن نكون إلا ضد نظريات تتيح في المجتمع الواحد، أن تهيمن عليه الكثرة العددية الدينية، وأن ينظر الى ما عداها من الجماعات، بوصفهم أقليات. أكره هذه الكلمة، ويجب أن تُلغى. العناصر الموجودة في المجتمع سواء كانت مسيحية، عربية الأصل، أو مسيحية غير عربية الأصل، وسواء كانت عناصر تتحدر من التاريخ القديم كالآشوريين والسريان والصابئة أو من عناصر الإثنيات الأخرى كالأرمن والأكراد وغيرهم، هؤلاء جميعاً عناصر تكوينية في المجتمع العربي، ولا يمكن النظر إليها بوصفها أقليات والعروبة نفسها جزء من هذا التكوين وليست كله. إذاً نظرية القومية العربية نظرية حَجب واختزال، تحمل الكثير من العنصرية، وكان طرحها في الماضي يبدو كأن العرب غزاة ومحتلّون، قاموا بالغزو الديني الإسلامي لهذه المنطقة. الإسلام هو أيضاً يجب أن يُنظر إليه بوصفه جزءاً من ثقافة المنطقة وليس كلها. لذلك كنت ضد القومية العربية باستمرار ولا أزال، ضِدّها، في صيغتها العنصرية السائدة.
> هل تعرفت الى ميشال عفلق؟
- مباشرةً، لا. لكن تعرفت إليه مرة بطريقة مداورة. كان يأتي الى فندق «بلازا» في الحمرا لأن صاحبه كان صديقاً له، كما كان يقال. مرة قال لي يوسف الخال: ميشال عفلق هنا. ما رأيك أن نجتمع به ونسأله لماذا سورية البعثية القومية التقدمية الاشتراكية تمنع مجلة كمجلة «شعر»؟ على الأقل نعرف منه لماذا تُمنع هذه المجلة. فقلت له أنا شخصياً أستطيع أن أقول لك الجواب سلَفاً. إنما سأنتظرك في مقهى «الهورس شو». إذهب أنت إليه الى الفندق وسأله أنت بنفسك. بعد ترداد وإصرار قلت لن أذهب معك. سأنتظرك هنا. ذهب وحده، وبعد اجتماعه به، جاء الى المقهى حزيناً. قال لي ميشال عفلق بعد نقاش طويل: إذا كان الحزب في دمشق يمنع هذه المجلة فالحق معه، كانت نظرته أيديولوجية ضيقة لا يتحمل أي نوع من الخلاف ولا يفهم أي نوع من التعدد. هذا دليل آخر على الفساد والفاشية في نظرية القومية العربية. بنية حزب البعث العربي نفسه، والأحزاب القومية العربية التي سبقته، بنية دينية، وليست بنية علمانية، عقلانية تعددية.
> ولكن ألم يكن الحزب القومي أيضاً مماثلاً لحزب البعث العربي؟
- طبعاً. أكرر أن جميع الأحزاب القومية واليسارية ذات بنى دينية بجميع أشكالها. أعتقد أن هذا من العلل الكبرى في العمل السياسي العربي. ونتيجة لانغلاق هذه النظريات، وعدم تطورها، فقد تحوّلت أفكارها الى طقوس ومظاهر. وبدلاً من أن يعيد أصحابها النظر فيها فتتكيف مع التطورات الاجتماعية، فقد بقيت كمثل الأديان ترى أن على الواقع أن يتكيف معها هي. فهي مطلقة لا تتغيّر، رغم أن الواقع يتغير.
> ألم يحاول البعث أن يجذبك إليه؟
- لا. منذ البداية قطعت كل علاقة معه. يكرهني حزب البعث – المؤسسة، ولا يزال، لكن، لي صداقات كبيرة مع بعض الأشخاص الذين ينتمون إليه، أو يتعاطفون معه.
> والحزب الشيوعي؟
- أميل كثيراً الى بعض الأفكار الماركسية، وكفكرة الشيوعية بالذات، فهي فكرة عظيمة. غير انني، بالمقابل، كنت ضد جميع الأفكار الشائعة في الأوساط الشيوعية العربية، حول الأدب والفن، باسم الواقعية الاشتراكية.
> لكنك، على علاقة طيبة مع بعض الشعراء الماركسيين والشيوعيين، مثل سعدي يوسف وغيره.
- طبعاً.
> هل تركت لبنان في بداية الحرب الأهلية اللبنانية؟
- لا، أبداً. عشتها بكاملها حتى عام 1983.
> هل وجدت لنفسك موقعاً في هذه الحرب؟ كنت تركت الحزب السوري القومي.
- تركته قبل ذلك بمدة طويلة. منذ 1961. وهذه الحرب لم تكن حرباً. كانت فتكاً ونهشاً ونهباً ووحشية.
> بالنسبة الى القيادات السورية، هل كنت على علاقة بأحدهم؟
- أبداً. ولم أعرف أي شخص قيادي كبير معرفة شخصية.
> حتى حافظ الأسد لم تتعرّف إليه؟
- أبداً. لم أجتمع به في حياتي كلها. مع أنه كان يلتقي أدباء وكتّاباً كثيرين. ومنهم نزار قباني، محمود درويش وآخرون.
> كيف تنظر الى حافظ الأسد؟
- لا أستطيع أن أتحدث عنه إلا من خارج، فكراً وعملاً، خصوصاً أنني لم أعرفه شخصياً. ولهذا يظل رأيي فيه جزئياً و«بعيداً». هكذا أعجبت بسياسته الخارجية، غالباً. كانت تدل على رؤية عميقة، تاريخية واستراتيجية. أعجبت كذلك بقضائه على الطفولة اليسارية، البطّاشة والجاهلة، في حزب البعث، فقد دمّر «قادتها» سورية، على جميع المستويات.
> ذهبت الى سورية وأقمت فيها فترة خلال الحرب اللبنانية، وأصدرت ملحقاً أدبياً لجريدة «الثورة»، ماذا عنى لك هذا الانتقال من بيروت الى دمشق، وكم دام؟
- أولاً، ذهبت وحدي. خالدة، بقيت في بيروت مع أرواد ونينار. لم يكن عندنا بيت، بعد طردنا من بيتنا في الأشرفية. لكن خالدة وأرواد ونينار بقينَ في مدرسة «الكارميل سان – جوزيف»، وكانت خالدة أستاذة الأدب العربي فيها ولم يكن في مقدور المدرسة أن تستقبلني معهن. لهذا ذهبت الى دمشق، وبقيت الى أن تمكنّا من استئجار شقة، قرب مبنى اليونسكو، لا نزال نسكنها حتى الآن.
ثانياً، لست أنا من أصدر ملحقاً أدبياً. أصدره الصديق الشاعر علي سليمان، وكان رئيساً لتحرير جريدة «الثورة». فطلب مني أن أشارك في التخطيط لهذا الملحق، وفي تحريره، مع الصديق الشاعر محمد عمران الذي رئس تحريره. فوافقت تحية له. وكان ملحقاً ممتازاً لم تعرف الصحافة السورية حتى الآن ما يرتقي الى مستواه. غير أن علي سليمان دفع ثمن ذلك غالياً، فقد نُحّي عن رئاسة تحرير الجريدة. ثمّ هُمِّش. ولهذا قصة طويلة.
> كنت ممنوعاً من الذهاب الى سورية، أو غير مرحبٍ بك؟
- لم أدخل سورية طوال عشرين عاماً بين 1956 و1976. ولم أبق فيها إلا فترة سنة جامعية، هي سنة 1976. أقول ذلك، لأنني عندما وصلت الى دمشق، كان الدكتور محمد الفاضل قد أسندت إليه رئاسة الجامعة السورية، وكان صديقاً عزيزاً، فأحببت أن أقوم بزيارته. سُرّ كثيراً بزيارتي له، وطلب مني أن أكون أستاذاً في الجامعة، قائلاً: السيد الرئيس أعطاني ثقته الكاملة وكلّفني أن أبني جامعة مثالية، إدارة وكفاءة ومعرفة. ويسعدني أن تتعاون معي، وتنضم الى هيئة التعليم في الجامعة السورية.
تأثّرتُ كثيراً بحرارة استقباله، وبعرضه الكريم، واعياً، استناداً الى خُبرتي، أن السلطات العليا سترفض قطعياً دخولي الى الجامعة، علماً أنني سأرفض أنا شخصياً هذا الدخول لو افترضنا أنها طلبت مني ذلك، خصوصاً أنني حريصٌ جداً على بقائي كما أنا أستاذاً في الجامعة اللبنانية.
غير أنني لم أشأ أن أصدمه. وقلت له بلطف: أنا شخصٌ غير مرغوبٍ به في سورية، إلا الى حدٍّ معين وضمنه. ولا أتصوّر أن الجامعة تدخل في هذا الحد. قال مؤكداً: السيد الرئيس أعطاني الصلاحية الكاملة في التخطيط والاختيار، وفي جميع الشؤون المتعلقة بهما. لذلك أرجوك أن تقدّم، شكلياً، طلباً للتعليم في الجامعة السورية.
قلت تأدّباً: آمل أن أكون مخطئاً، وأن تكون أنت المُصيب. وأردفت ممازحاً: سأقدّم لك طلباً، ولعله أن يكون مناسبة، لكي تعرف عملياً مدى قُدراتِك التنفيذية.
قدّمت طلباً. وبعد شهر أو شهرين اتصل بي وقال أحب أن أراك. أتيتُ، فرأيته حزيناً. قال: معك الحق. رفضت الطلب جميع المؤسسات الأمنية، وذكرها. كانت أربعاً أو خمساً بين عسكرية ومدنية. لكن، لا بد من الإشارة الى أن بعض أعضاء القيادة في الحزب كانوا الى جانبك. كنت صامتاً، أصغي إليه دون أية مفاجأة. ثم قال لي: سأدعوك أستاذاً زائراً، لهذه السنة 1976، ومثل هذه الدعوة من حقّي، ولا يقدر أحدٌ أن يُبطلها. أرجوك أن تقبلها. قبلتُ، تحية له أيضاً. لكن، لم تنته السنة حتى اغتالَه من اغتالُوه. فهم لا يزالون مجهولين. وقيل إنهم أشخاصٌ مُتديّنون أصوليون، اختفوا. ولم أفاجأ أن يكون المسؤولون في الجامعة أَنهوا دعوتي، قبل نهاية السنة، ولم يتيحوا لي تبعاً للتقاليد الجامعية واحتراماً لها أن أمتحنَ الطلاب الذين تابعوا محاضراتي، وكان عددهم كبيراً.
> ماذا أفادتك هذه الإقامة القصيرة في سورية بعد طول هجر؟
- عرفت في هذه الفترة القصيرة التي أمضيتها في جامعة دمشق، أشياء كنت أجهلها، وتعلّمت أشياء كثيرة.
> هل ما زلت تحتفظ بهويتك السورية؟
- قانونياً، لا تسقط الهوية عن المواطن السوري.
> اذكر إحدى مقولاتك الشهيرة: «لا أستطيع أن أكون لبنانياً، ولا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً». ما قصدت بهذه العبارة؟
- الإنسان في لبنان مُمتهَنٌ، فهو يُقَوَّم في الدولة، في الحياة المدنية، بمعيار طائفي، وبانتمائه الطائفي، لا بمعيار إنسانيته ومواطنيته، وكفاءته. بعض البلدان العربية أقل سوءاً على هذا الصعيد. الإنسان فيها يقوّم إجمالاً، بحسب ولائه للنظام القائم، أو عدم ولائه، في معزل، إجمالاً، عن انتمائه المذهبي أو الطائفي. ويزداد الأمر سوءاً في لبنان بتقويم اللبناني، داخل طائفته نفسها، بمدى قربه أو بعده من زعيمها. على هذا المستوى، لا أستطيع أن أكون لبنانياً.
غير أن لبنان، من جهة ثانية، خلافاً للبلدان العربية أو لمعظمها، يتكوّن من مادة بشرية فريدة: إثنيات، وأديان، وثقافات متنوعة. وهذا يقدّم مكاناً لبناء مجتمع تعددي أو تنوعيّ يندرُ مثيله في العالم. وهو، إذاً، مشروعٌ منفتح يبدو فيه لبنان، كمثل الحب أو كمثل الشعر، لا نهاية له، يُبتكر ويُعاد ابتكاره باستمرار. ويبدو في إطار العالم العربي ضروري الوجود، ضرورة مطلقة. وعلى هذا المستوى، لا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً.
> هل حصلت على الجنسية اللبنانية بسهولة، أم خضت معركة؟
- كان الأمر سهلاً. اكتشفت، بفضل بعض الأصدقاء، خصوصاً المحامي الراحل نعمة حمادة، والنائب الراحل أحمد إسبر، أنّ لي أرومة عائلية في قرية حجولا، قضاء جبيل. وقد ساعدني كثيراً في هذه المسألة الراحل الصديق ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية. هكذا أخذت الجنسية اللبنانية استناداً الى هذه الأرومة. كانت بمثابة استعادة.
> نعود الى بيروت التي كانت مدينتك، وبالذات الى الستينات، كيف تحدد علاقتك بشخص مثل ميشال أسمر عرفته أنت عن كثب؟
- كنت سعيداً بمعرفته. وقد عملتُ معه في نشاطه الثقافي الذي كان عالياً، وحراً، ومتنوعاً، ومنفتحاً. وفي مُناخ هذا النشاط تعرّفت الى عددٍ من الأشخاص الذين كانوا آنذاك من أهم الوجوه الثقافية في لبنان.
لعب ميشال أسمر دوراً عظيماً في حركة الثقافة اللبنانية، أتمنى، للمناسبة، أن يُقدَّر كما يجدرُ، وكما يقتضي لبنان – الثقافة.
> والإمام موسى الصدر الذي كان أحد نجوم الندوة اللبنانية؟
- تعرفت إليه في إطار نشاطها. كان ذا هيبة وجاذبية وتأثير. غير أن علاقتي به كانت محدودة، لأنني لم أكن أعمل أو أنشط في سياق ديني. وكنت ألتقي به، بوصفه رجل دينٍ، يحمل قضيته، على نحوٍ منفتح، ومحبٍ.
> مثل رجال دين آخرين...
- مثل الشيخ عبدالله العلايلي، والشيخ صبحي الصالح، والمطران جورج خضر، والمطران غريغوار حداد والأب يواكيم مبارك، والأب ميشال حايك، تمثيلاً لا حصراً. فهؤلاء جميعاً كانت لي معهم صداقات، ومشاركات في أعمالٍ ثقافية متنوعة. ولا بد هنا، في هذا الإطار، من ذكر أشخاصٍ آخرين، مثل رينه حبشي، وسلوى نصار، وخليل رامز سركيس، وجواد بولس، ومنوال يونس، وحسن صعب، وبهيج طبارة، وكمال الحاج، وجوزيف زعرور، وفؤاد كنعان، وموريس صقر، تمثيلاً لا حصراً.
> خلال هذه الفترة، بدأتم بإنشاء مجلة «شعر». الآن، يقال إن المؤسس هو يوسف الخال. وأحياناً يقال أدونيس يوسف الخال. أو يوسف الخال وأدونيس.
- صدر العدد الأول من المجلة، شتاء 1957. والتقيته في بيروت للمرة الأولى، في تشرين الأول (اكتوبر) 1956. كان يعمل في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك ضمن البعثة اللبنانية التي كان يرئسها أستاذه شارل مالك. كنت أعرفه بالاسم، ولم أكن قرأت له شيئاً. في سنة 1954، نشرت قصيدة طويلة في جريدة «البناء» التي كانت تصدر في دمشق، بعنوان «الفراغ»، نشرت، في ما بعد في مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن دار مجلة «شعر»، بعنوان «قصائد أولى». قرأ القصيدة وهو في نيويورك، ويبدو أنها أعجبته. اتصل بي، وكان كما بدا لي، من حديثه، أنه يفكّر بإنشاء مجلة خاصة بالشعر. وقال إنه فرح بالقصيدة، خصوصاً بخروجها على التقاليد الوزنية. واتفقنا على أن نلتقي في بيروت. هكذا التقينا في أواسط تشرين الأول 1956، في «مقهى نصر» وحدّثني عن مشروع المجلة.
هو، إذاً، صاحب الفكرة، والعامل الأول على تأسيسها. غير أننا عملنا سوياً، بوصفنا فريقاً واحداً، منذ العدد الأول الذي صدر بعد حوالى شهرين أو أكثر قليلاً، في شتاء 1957. وعندما نتصفح العدد الأول نرى أنني هيّأت شخصياً حوالى نصف صفحات العدد، وتحديداً 42 صفحة من أصل 109 صفحات. وقد حرصتُ، خلافاً لرغبته، على ألا يظهر اسمي في هيئة تحرير المجلة، وأن يكتفى باسمه وحده، لأسبابٍ خاصة متنوّعة.
>وهو كان صاحب الامتياز؟
- لا. كمال الغريّب كان صاحب الامتياز.
> لم يظهر اسمك في العدد الأول! لماذا؟
- لم يظهر، في هيئة التحرير، كما أشرت. لكن ظهرت لي في العدد قصيدة «مجنون بين الموتى»، وهي ذات شكل مسرحي، كتبتها في سجن القنيطرة العسكري، في سورية، عام 1955، وكان أشدَّ قسوة من سجن المزّة في دمشق. إضافة الى كثير من المواد الشعرية الأخرى، وبخاصة المواد المترجمة التي لم أوقعها باسمي الشخصي.
> سجنت بتهمة سياسية؟
- نعم. ولكن دون جرم، إلا إذا كان يُعد انتمائي آنذاك الى الحزب السوري القومي جرماً. غير أنني خرجت من السجن، دون محاكمة، كما كان الشأن في خروجي من سجن المزّة.
> متى ظهر اسمك في هيئة تحرير مجلة «شعر»، رسمياً؟
- بعد صدور العدد الأول، كان يوسف يصرّ باستمرار على وضع اسمي الى جانب اسمه، قائلاً: هذا حق، وضروري. والأفضل أن يظهر اسمانا معاً رئيسين أو مديرين للتحرير، وصاحبي المجلة. وكنت دائماً أجيبه: ننتظر قليلاً. أخيراً، بدءاً من العدد الرابع الذي ظهرت فيه ترجمة «ضيّقةٌ هي المراكب»، قبلت أن يظهر اسمي سكرتيراً للتحرير. وفي بداية السنة الرابعة، العدد 14، قبلت أن يظهر اسمي مديراً للتحرير. وحلّ شوقي أبي شقرا محلي، سكرتيراً لهيئة التحرير. وفي هذا العدد نفسه نشرت المجلة، للمرة الأولى، ثلاث قصائد نثر لأنسي الحاج. ثم انضمّ في بداية السنة الخامسة، العدد 17، 1961، الى هيئة تحريرها. وبدءاً من شتاء 1962، العدد 21، صار اسمانا يوسف الخال وأنا يظهران مقترنين على هذا النحو: «صاحبا المجلة ورئيسا تحريرها: يوسف الخال وأدونيس». تلك هي الوقائع. ولا أقدر، مع ذلك، أن أمنع الآخرين نقاداً ومؤرخين وشعراء، من أن يتحدثوا عن المجلة وتأسيسها، كما يَحلو لهم.
> كيف تنظر الآن الى يوسف الخال؟ ما العلاقة التي ربطتك به، علماً أنكما شخصان مختلفان تمام الاختلاف؟
- عن الشق الثاني من سؤالك أقول كنا متفقين، على الرغم من اختلافنا في أشياء حول إعادة النظر في الثقافة العربية، والشعر بخاصة، والتأسيس لصورة جديدة لهما، وحول الحرية الكاملة في النظر والتأسيس. ولم تكن آراؤنا في التفاصيل متطابقة دائماً. وقد ارتقى اتفاقنا هذا في الممارسة الى مُستوى الصداقة. كنا صديقين، بالمعنى العميق لكلمة صداقة. وقد أعطت لهذه الصداقة بعداً عملياً واجتماعياً وسياسياً، قناعتنا المشتركة بالعلمنة، ومدنية المجتمع، والتعددية الثقافية والانفتاح على الآخر وثقافاته. أما عن الشق الأول من السؤال، فأرى أن ليوسف الخال أهمية كبيرة أوجزها في ثلاثة أمور:
الأمر الأول شعري، وهو أنه أول شاعر عربي حديث كتب قصيدة موزونة مدوَّرة، وغير مقفّاة. وكتبها بشعر قريب الى النثر، أو كأنه النثر – أعني قريب الى الحياة اليومية ولغة الحياة اليومية، دون انفعالية أو حماسية متضخمة وفضفاضة. هكذا كسر للمرة الأولى، فنياً، لغة التأنق الشعري اللبناني: لغة سعيد عقل وأمين نخلة، على سبيل المثال، والتي وصلت الى درجة قتَلت الشعر، وأصبحت رنرنة لفظية.
الأمر الثاني ثقافي، وهو أنه، من ناحية أولى، صدر في كتابة الشعر عن رؤية توحد بين الشعر والفكر. خلافاً للنظرة التقليدية السائدة التي تفصل بينهما فصلاً كاملاً. وأنه، من ناحية ثانية، أدخل البُعْدَ المسيحي في الشعر، بوصفه عنصراً مكوناً من عناصر الثقافة العربية، وجزءاً عضوياً منها، جمالياً وفكرياً وأن فهم الثقافة العربية، في معزل عن هذا البعد، إنما هو فهمٌ ناقصٌ وسطحيٌ.
والأمر الثالث لغوي، فهو يقترح أن نكتب اللغة كما ننطقها. لا يتبنَّى اللغة الدارجة، ولا الحرف اللاتيني، وإنما يتبنّى اللغة الفُصحى نفسها لكن من دون حركاتها الإعرابية.
وهو اقتراحٌ متقدمٌ ورائدٌ، إذا قيس بالمقترحات الأخرى في هذا الإطار. وأنا شخصياً، لا أوافق عليه. لأنني أرى باختصار أن ما يسمى بمشكلة اللغة العربية من حيث تراجعها، لا تُحلّ لغوياً. المشكلة اللغوية هنا هي، في المقام الأول، عقلية – ثقافية. حين يموتُ عَقْلُ أمة تموت لغتها. واستخدام اللغة الدارجة أو المبسّطة أو الخالية من الحركات الإعرابية، لا يُعيدُ لها عقلها. كيف نستيقظ عقلياً؟ تلك هي المسألة.
> ولكن، ألم يسبقه جبران في ما يتعلّق بالمسيحية؟
- لا. رؤية جبران كونية، غير أن المسيحية جزءٌ منها. ويُعبّر عن هذه الرؤية من شُرفة كونية، تتخطى الثقافات الوطنية أو القومية. يوسف الخال نظر الى المسيحية العربية، بوصفها جزءاً عضوياً من الثقافة العربية، شعراً وفكراً ولغة. وهو في ذلك يصحح النظرة العربية السائدة التي تُهمل المسيحية على هذا الصعيد وتنظر إليها كأنها غير موجودة. لا تكتمل القراءة الثقافية العربية إلا إذا اقترنت فيها عضوياً قراءة الكتب السماوية بقراءة الكتب الأرضية. والمسيحية العربية ليست مجرّد كنيسة، وإنما هي كذلك ثقافة وفن، ورؤية ثقافية وفنية. |