(1) في الكتابة ندخل خرائبنا، او كهوفنا الشخصية، نبحث عما اخفيناه فيها او ما القت الصدف، طبيعة، ثقافة او تجارب. احيانا نجد عينات منسية من قراءات او ايحاءات او تجارب واحيانا نفاجأ بما لم نره، لم نفكر فيه من قبل، لم نعرف مصدره.
تذكرت، وانا اكتب هذه الانتباهه قولا لـ "جوزف كونراد" مؤلف "قلب الظلام" و "الاعصار" و"لورد جم"... "الانسان، وبعد ولادته، يسقط في حلم، مثل رجل يسقط في البحر. فاذا حاول التسلق، الصعود الى الهواء، مثلما يحاول المجربون ذوو الخبرة، يغرق. اليس كذلك؟ كلا، عنصر الطريق الى الغرق يرفع من قواك ونفسك وبقوة يديك وقدميك تصنع عمقا، والبحر العميق يرفعك الى اعلى ... هكذا حين تواجه الغرق المميت..". في حياتي الادبية واليومية، اوشكت مرارا على الغرق. ولكن حين تفهم ما حولك، حين تفهم البحر، تعاملْ معه بحرا او ملجأ او بنادق. وليست شجاعة مقاومتك الفاشلة، ولا تعطِ عدوك فرصة انتصار نهائي. عليك الان ان تنحرف عن طريق النار وتستمر في صراعك مع البحر او الرداءة. وحين انظر الى وراء، اتتبع المراحل التي بدأت فيها افهم، استطيع ان أميز مرحلتين. في المرحلة الأولى رأيت ان حياتي ليست كما اريد. ليست كما اتمنى وان عليَّ ان اغيرها بقوتي انا، بنفسي، لاجعلها مختلفة عما هي. انا لا استطيع القول متى بدأت المرحلة الاولى، كل ما استطيع أراه، وانا انظر لنفسي في اوراقي القديمة وملحوظاتي وهوامشي، اني لم اكن مقتنعا وانني اسير في طريق غائم او غير واضح تماما واني نادرا ما كنت افعل كل المستطاع واني كنت اتطلع للاحسن، وان كل ما اتمناه لا يتعدى حالة من حالات الحلم بما اريد ان يكون. لم يكن عملا جادا للتغيير. عادة كنت اعيش ضمن شعور عام بان الامور تسير للأحسن وان سعيا للاحسن يجري. لكن هذا الشعور كان غالبا ما ينفجر بحادث بؤس او تعاسة، فارى كل شيء حولي كريها. هذه اللحظات لا تدوم طويلا. فبعد راحة ليل. اعود الى تفاؤلي الغائم قليلا، مقدرا بان حياتي هي حياتي الخاصة التي يجب ان اعيشها واني اذا لم اتدبر شؤونها كما اريد، لا احد يفعل ذلك من اجلي. في هذا السطح الهادئ والثقة بان ما اريده سيتحقق بالتأكيد، بدأ الوعي بالقلق او المربكات الفكرية، التي حتى الان ما كنت اعرفها ولكن اعانيها. (2) الادباء الفنانون عموما يسلكون هذا التيه ويحسون ثم يفقدون الاحساس بما يجب ان يجعل الحياة احسن. فواحدهم اما يرسم يأساً أو يكتب حزنا منقطعا عن الفعل اليومي الجاد وعن الاتصال الحميم بالمجرى الحي القوي والصاخب للحياة. فهو لا يعرف الحياة ولكن يعانيها. هذا بالتاكيد يفقر الكتابات ويعدمها الخصب الحياتي. حين تقرأ "القصر" لـ "كافكا"، تجد هذا الكاتب يقدم تفصيلات دقيقة عن القرية والحانة والقصر والخدم والناس هناك، ما يشعرك انه ليس محزونا معزولاً ولكنه منغمر- ولا اقول مغمورا، في تفاصيل الحياة والاشياء. شخصيا، لا اظن كتاباته بغير هذه يمكن ان تعيش او حتى يمكن ان تُقْرأ. وأي منا، مهما كان متوحدا، لو راجع ملحوظاته وخربشاته على ظروف الرسائل او على صفحات الكتب، او بعض الدفاتر، لوجد نقاطاً ضوئية قوية تشعر واحدنا بكم من اللحظات الموحية القوية النافذة والمضيئة مرت به ولم يحسن الاستفادة منها. وانها تكشف عن حالات "عقلية" تختلف كثيرا عما نتصوره عن انفسنا. وارى اننا حين نجهل حياتنا الذهنية، نجهل اسباب تعاستنا او اكتئابنا. فنكتب، حين نكتب، صفحات غائمة بينما يكتب غيرنا كتابات غائمة ايضا ولكن تشف عن حياة ووجود مشعين، ذلك الاشعاع الذي يجعل من الكتابات ادبا يقرأ بامتاعٍ وجدوى. اما لماذا كتاباتنا غائمة، لا تشف عن حياة فيها اشراق خفي، ووراءها ضوء يمنح لحظاتِ إبهاج، فسبب ذلك في رأيي هو التقليد. بدقة أكثر، هو عدوى القراءات. نقرأ كتابات غائمة من غير ان نملك ما وراءها من حياة وتفاصيلِ حياة ولابهجة اللحظات المضيئة المنفلتة من المواجهات. هي بايجاز تفتقد العيش اليومي والتماس الحي بالتفاصيل. وفي حال كهذه، يصير اعتمادنا على تجارب الاخرين وتماسّهم مما لاصلة لنا به فتتحول مواجهات الاخرين المكتوبة التي عزلتها الكاjبة عن واقعها الحي الى رعب او الى اجواء غائمة. هي التي تسربت الينا بغير مقدمات ولا تجربة. فقد ظلت التجربة بعيدة ووصلتنا اخبارها. والتجربة في واقعها اليومي غير التجربة المقروءة هي قد تكون اصغر حجما مما في الكتابة ولكنها في الكتابة اكثر رعبا بسبب ابتعاد الحياة التي كانت حواليها والتي كانت تلطفها الطبيعة وحركة الاحياء وحضورهم مما يجعلها بعضا من حياة، بعضاً محتملا لأن الآمال والمفاجآت والأضواء ليست بعيدة عنها. هي ليست في قفر كما الكتابة على الورق الابيض القاحل.
(3) اكيد جدا، ليس كل اصحاب المؤلفات الروائية الضخمة ولا كل الفنانين الكبار والاسماء الشعرية الكبيرة، سعداء. وليسوا دائما بعيدين عن الاكتئاب. لكن الملكية العظيمة من التجارب ومن استيعاب الحياة ومعايشة التفاصيل والشخوص والامزجة واحداث العالم، ملأتهم بزخم وطاقات فاعلة. وان الحياة داخلهم في حالة تأجج واضطرام. فلا سكون او خمود. فواحدهم يكتب الصفحات ومازال لديه ما يكتبه. وهو يعبر عن دواخل النفوس وما يزال بحاجة لان يكشف اكثر لقد اختفى الانسان الضامر المتوحّد من كيانه ليحل فيه شخص قوي ممتلئ خصيب يضج طاقة وفعلاً. الكتابات لا تجيء من هزال وفقر، ولا من ابتعاد محزون وتهيب. الكتابات العظيمة تأتي من غنى بالتجارب وامتلاء بالتفاصيل والاحداث والوعي بما وراءها. وانت حين تقرأ الكتابات الباهتة تحس بفقر الدم والشحوب. وحين تقرأ الكتابات المزدحمة الطافحة بالحياة والافكار والعواطف، تحس بعظمة الكاتب وعظمة الحياة في داخله وتدفقها بين سطوره. هنالك دائما مادة ساخنة. هناك نبض ودورة دموية وغنى، كلها تساعد على ابتداع الاشكال والمضامين الواضحة والمتميزة. صحيح اننا في الادب لا نحدد نمطا اونماطا من اشكال الادب ولا نستطيع ان نحدد مضامين هذه الاشكال. فمثلما هي فردية ذاتية ذات صلة بالسيكولوجية والطبقة او الفئة او الانحدار العائلي والمستوى المعيشي ومستوى التحضر، فالاشكال والمضامين أيضاً ذات صلات اكيدة، وتتأثر تاريخيا وآنيا، بالصراع اليومي ونوعه. الثقافة، في كل الاحوال مصدر الخصب الادبي ومنها مزايا الابداع. واذا كنا في الحياة اليومية نستطيع ان نحدد الانماط السياسية للصراع او للعمل الكفاحي، فابدا لن يكون الادب موحدا ايديولوجيا و لاجماليا. تلك هي طبيعة الفن عموما وطبيعة الادب، ما دام وراءها مبدعون افراد. وفي ازمنتنا، وفي ظروف عالمنا كله تقاطعات ومع القلق السياسي وامتداد نفوذ الثقافة العالمية، يصبح للقوة الفردية ومميزاتها الدور الاول في الاستقبال والاستيعاب ومن بعد في التفاعل الابداعي. اننا هنا لانتعامل مع المؤثر طبقة او فئة ولكننا نتعامل معه افرادا وبدرجة اطلاعنا ودرجة فهمنا وعواطفنا في الاختيار والرفض. لكننا مع هذا كله لا نعدم القدرة ولا البصيرة على تمييز الجماعات التي تعبر عن الاتجاهات الجمالية والفكرية للعصر، عصرنا نحن. واقول نحن لان العصر بالنسبة للمثقف الامريكي ليس هو العصر بالنسبة لمثقفي شرق المتوسط وان كنا معا نعيش سنواته واحداثه واضاءاته.واذا كانت الطبقات، في عرف من مضوا، او الفئات من قبل، هي التي تنتج ادباءها الجادين، فقد صارت الطبقة او الفئة تنضوي تحت لواء الاتجاه الفكري. كان للمستقبليين مبدعوهم الجادون وللحداثويين اليوم، باتجاهاتهم الفكرية المختلفة، أدباؤهم الجادون وسيكون للتيارات الفكرية القادمة مبدعوها الجادون المتميزون أيضاً. اعتقد ان هذه "اللا مباشرة" منحت الأدب ظلالا ناعمة تنسجم وجماليات عصرنا، مثلما تنسجم وروح العصر الكبير الذي صارت تلتقي فيه الذات بالإنسانية العامة. لقد تجاوز الإنسان اليوم، تجاوزت الذات ما كان مركزيا من قبل وهو الطبقة او الفئة او العقيدة. الذات بمدخراتها وقدراتها الإبداعية، والإنسانية بسعتها وافقها، هما سمتا الإبداع المعاصر وهما "العنصران" الفاعلان فيه. ربما يشكلان اليوم افضل ظواهر العصر الإبداعية والاجتماعية. الذات، بثقافة الزمان الجديد ووعيه لم تعد معزولة عن عصرها. لقد التحمت فيه ليشتركا في النسغ مرة أُخرى. لقد تمكنت، بعد النضج، من عبور الخنادق التي كانت تعزل الاثنين! |