|
|
دعايات شعبوية |
|
|
|
|
تاريخ النشر
03/03/2010 06:00 AM
|
|
|
لا يأخذنكم العجب : فبينما اتلقى سيل الدعايات الانتخابية في التلفزيون والشوارع، لاحظت شيوع رؤى تافهة وجد شعبية لدرجة انني احسست باحباط مهول وتساءلت: اترانا نعيش عصر انحسار الثقافة الرفيعة وسيادة الثقافة الواطئة! ام ترانا نعيش عصر تحول تلك الثقافة الواطئة الى ثقافة رفيعة! اظن ان هذا ما يجري في العراق وهو لا يعود الى حدث الانتخابات قدر عودته الى ما يمكن تسميته بـ"الاضطراب العظيم" الذي خلخل كل شيء .فكرة"الاضطراب العظيم " هذه ليست من عندي بل هي لارنست غيلنر ومفادها ان المجتمعات التي تشهد تحولات كبرى، اقتصادية او سياسية، تمر بمرحلة اضطراب عظيم في بناها القارة ، تنسحب طبقات او تختفي لتحل محلها طبقات اخرى ، ومع انسحاب تلك وحلول هذه تختفي أنماط من الثقافات وتظهر اخرى. قد لا ينطبق الامر على العراق حذو النعل بالنعل على اعتبار ان غيلنر اذ يتحدث انما يحيل الى مجتعات اوربا اثناء الانتقال من العصر الزراعي الى الصناعي . وهو يرى بهذا الصدد ان" الثقافة في المجتمعات المستقرة المقتنعة بنفسها غير مرئية في الاغلب لكن عندما يصبح الحراك والاتصال المحررمن البيئة جوهر الحياة الاجتماعية فان الثقافة التي كان المرء قد تعلم فيها الاتصال تصبح لب هوية المرء". لكن لا يهم ، فشيء قريب من هذا جرى في العراق بعد سقوط الدولة وانهيار بناها القديمة وانسحاب شرائح معينة وهو ما ادى الى انسحاب نمط من "ثقافة رفيعة" شكل طوال قرن صورة وطنية عن الذات او ما يسمى بـ"الدين المدني". في مثل هذا السياق برزت الثقافة "الواطئة"، موضوع التساؤل آنف الذكر، لملء الفراغ . لقد بدا الأمر في العراق منذ سقوط صدام كما لو كان مصداقا لعبارة اخرى لآرنست غيلنر تقول :" تكون الثقافات الواطئة في غضون الفترة المبكرة للتصنيع عرضة للاستيلاء عليها وتحويلها الى علامات مميزة للمحرومين وتستخدم لتحديد هويتهم وتوحيدهم اذا ما بدت واعدة سياسيا وبخاصة اذا عرفت مجموعة سكانية واسعة وملمومة الى هذا الحد او ذاك اقليميا". لا ادري ان كانت الفكرة واضحة لكن تعقيدها يمكن ان يتفتت اذا ما نزلنا الى التفاصيل ونبشنا فيها عن ملامح "البطل" الشعبي الذي يطمح الى صياغة منظومته ونسج سرديته في مرحلة التحول هذه. هل استحوذ الصاغة الجدد على ثقافتنا الواطئة وحولوها الى علامات ميزة لنا بوصفنا محرومين ومضطهدين! ان ذلك شبه مؤكد. والدليل دونكم : أحد المرشحين يقف وتحت يديه امرأتان تبكيان وثمة عبارة تقول "لن اغفر لمن ظلمكم" بينما مرشح آخر يعرض وثائق ادانة "فساد اداري" في البرلمان والى جانب الوثائق ارغفة خبز عفنة مع عبارة تقول " تلك شعاراتهم وهذا خبزنا". غير بعيد عن هاتين الصورتين ثمة مرشح بملابس القضاة يشير باصبعه الى متهم غير مرئي وهو في حالة عصبية. لن اتحدث عن السطحية ولا عن بعث الاشكال "الشعبوية" مثل الهوسات والردح والهلاهل ،ولن اذكركم ببروز الشاعر الشعبي وانزواء زميله الشاعر الفصيح ، رمز عروبة الدولة القديمة، بل سأقف عند بوستر انتخابي رأيته في انتخابات عام 2005 لن يبرح ذاكرتي : كان ثمة رجل دين يحتضن رضيعا مدمى نبت في عنقه سهم وتحت القطرات الحمراء كتبت عبارة " كي لا يقتل الرضيع مرة اخرى..انتخبوا ..". كانت صورة مثالية للاستحواذ على الثقافة الواطئة وتحويلها الى علامة مميزة للمحرومين ومن ثم استخدامها لتحديد هويتهم وتوحيدهم . وذلك ما جرى بنجاح. اليوم لا يبدو الامر مختلفا كثيرا . فمنطق "الشعبوية" لا يزال سائدا واكبر دليل هو سطحية الدعايات الانتخابية وبساطتها المفرطة. فهل ثمة شك في اننا نعيش مرحلة انحسار الثقافة الرفيعة؟ |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ محمد غازي الأخرس
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|