... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
موت البوسطجي : رسائل وافكار متبادلة ما بين نجم والي ومالك المطلبي

تاريخ النشر       12/11/2009 06:00 AM


رسالة الى نجم والي
كم ثانية يستغرق فتح بريدك الألكتروني! إن هذا الوقت هو كل ما تبقى لمرور الرسائل، أو المكاتيب، التي لا تعني غير الاتصال عن بعد، وهذا البعد امّحى كليًّا؛ صار كناية عن هذه الثواني، وفي هذه الكناية تثوي التوريات التاريخيّة لعصور المكاتيب.
نجم والي، الروائي القاص الشاعر، بَضْعَة الجنوب العراقي المتسربل بغبش المياه السومرية، ينكأ (يقشـّر) جلد الذاكرة، ويمنحني، من ثـَمَّ، ممرًّا آمنـًا إلى الأوليّ الذي هو القوة التي سمتني فعلا رسالة نجم والي، أو مكتوبه الألكتروني! يا لمأساة الازدواج عندنا! كان وراء هذا الموضوع.
 
حمام الزاجل
يسميه التداول العامي، وليس الثقافي، الحمام الزاجل، وإنما هو حمام الزاجل، فالزاجل صفة للرجل (المطيرجي)، وليس للحمام، ومعناه المصوِّت لحمائمه وهي تتبختر في الفضاء، ومنه سُمّي نوع من الشعر العربي بـ«الزّجَل».
وبريد الزاجل هو أصل الاتصال بالمكاتيب، وينطوي كتابه على مفارقات سوداء، ملطّخة بالدماء، ليس هذا مقامها.

البريد
لم تعرف العرب العاربة البريد بالمعنى الغربي النافذ اليوم للعرب المستعربة بمصطلحَي، وإنما كان معناه الدابة التي تحمل المكاتيب، أو على نحو أدق، البغلة المرتـّبة في الرباط ، ثم سُمّي به الرجل الذي تحمله البغلة، وهو المكلف بنقل البريد ، ثم بعد ذلك، أطلق البريد على المسافة التي يستغرقها سير البغلة. أما الآن فقد تخصص مصطلح البريد في عصرنا، قبل أن تمسه جرثومة الطاقة الألكترونية، كما تعلمون، بالمكاتيب والطرود والبرقيات، وصار الناقل يُعرف بساعي البريد (وهي اختزال لما كان في العربية، أي الساعي بالبريد) وتشيع في أنحاء أخرى لفظة البوسطجي، وهي مأخوذة من قاموس أحفادنا الأوروبيين (باعتبار أصولهم المنحدرة من أصلابنا أيام تحريرنا للأندلس من براثن المحتلين الأسبان!).
وفي العمارة، مركز محافظة العمارة، تعيش إحدى العوائل المشهورة، مُعَرّفة ببيت البوسطجي. هذا عن المحمول، والحامل الإنسيّ، أما الحامل الأول، الحيواني، أي البغلة البريدية، فلم يعد لها ذكر، وذلك لنقل اختصاصها إلى حَمْل الطابوق، واختراق شوارع بغداد. كلما رأيت البغال تنطلق كالسهام، قرب سوق الشورجة، استذكرت أصولنا البريدية، ومن يدري! فربما كان الغرب يغطـّ في جهله؛ فتكون البغلة، عندئذ، أحد توظيفات العقل العلمي العربي!
 
بريد الحلفاية
والحلفاية ناحية تبعد عن مركز العمارة، بما يقارب عشرين كيلومترًا، إلى الجنوب الشرقي. وحين مات عامل بريدها (رسن حسن امجيد) تكوم البريد مدة ثلاثة أيام، إلى أن تم نقل اختصاص أحد منتسبي الشرطة إليها.
تقطع الرسالة البريدية بين الحلفاية والعمارة، كي تتحول إلى جواب، عشرة أيام كمعدل متوسط. أما الجوابات المقبلة من بغداد، فتقع خارج الانتظار. وحين هبطت الظروف الفارغة ذوات الشرائط الحمراء والزرقاء، على الحلفاية، وهي تحمل عبارة «البريد الجوي «على مهاد (خلفيّة) أزرق، مع لوغو (الهُويّة) المكون من طائرة، ساد الارتباك دائرة بريد المشرح (الحلفاية) وقرر مديرها (رحيم زيدان) الاتصال بمركز المدينة للاستفسار إنْ كان يمكن استخدام ظروف البريد الجوي لحمل البريد العادي. وقد جاءه الجواب بالتريث، ريثما يسألون بغداد عن ذلك!
وكان غلاف الرسالة لا يمثل حاويًا حافظـًا وحسب، بل له وظيفة إشارية، إذ يجب توزيع فاعليه في أمكنة محددة من الغلاف. فالفاعل اللغوي (المرسل) يكون اسمه وعنوانه على مثلث إغلاق الرسالة، في حين يُوضع اسم الفاعل المادي (ساعي البريد) في الغلاف الأول من الظرف؛ تحت اسم المفعول (المرسل إليه). هذا التوزيع يشير إلى دلالته، وإنْ كان فارغـًا، وهذا هو البعد الإشاري (أو كما يحلو للمتغرّبين أن يسموه بالبعد السيموطيقي). إن مفتاح الرسالة الجنوبية، هو: «إنْ كنتم، (أو إذا كنتم) تسألون عنا فلله الحمد سالمين، ومن طرفنه...» و(إنْ كنتم، وإذا كنتم)، في لغة التداول، تـُستخدمان للتعليق المشكوك فيه، وهذا الشك، بمعناه النفسي والاجتماعي، وليس بمعناه الفلسفي، هو منفى اللذة للشخصية الجنوبية، لكثرة ما كـُذِب عليها. ولعل نظرية المؤامرة هي أحد النتاجات السياسية لمجتمع منزوع التفكير، أو مجتمع يُفكـّر نيابة عنه.

الدسكرة
وإن أرسل المكتوب عن طريق شخص المسافر، وليس رسميًّا (بالبريد) يُسمى عندئذ، بالدسكرة، وبعضهم يقلبون الدال تاء، فيقولون تسكرة. ولا أعرف شيئا عن أصول هذه الكلمة، ولا كيف دخلت لغة الاستخدام، وتخصصت بالبريد المنتدب. المهم أن الدسكرة هي مَنـْفذ بصري للاتصال، فالجواب بالدسكرة، لا تنوب عنه السطور التي يدبجها المرسل إليه وحسب، بل تشمل الخطاب الشفوي لناقل الدسكرة عما وقعت عليه عيناه خصوصاً!
 
الطابع
لم يعلق في ذاكرتي، من الطوابع، إلا ذلك الطابع الذي يحمل صورة الملك فيصل الثاني، وقد دُمِغت بختم الجمهوريّة العراقيّة. وكان ذلك يمثل حلا وسطا، في استمرار البريد برمز ملكيّ، ونشوء أول ملمح براغماتي في قلب الثورة في الرابع عشر من تموز، العام 1958 ، تلك الثورة التي كانت تسحل في بغداد، وتدمغ في الحلفاية! لينتهي بها الأمر إلى تأسيس جمهورية الصالحية، حيث يمكن لأي جهة مغامرة أنْ تسيطر على العراق برمته، بسيطرتها على الكيلومتر المربّع الواحد المُسمّى بالصالحية، الذي يضم منصة إلقاء البيان الأول الركيك للثورة؛ دار الإذاعة العراقية، وتأمين مرسلات (أبو غريب)!
الطابع المدموغ الذي تلا الرابع عشر من تموز، هو السنتمتر المربع الوحيد ضمن مساحة العراق البالغة يقدم لنا إشارة إلى إمكان التعايش بين المتناقضين في مكان واحد، لكن تلك الإشارة لم تكن تـُرى، أو تـُسمع، وسط فحيح اللاعقل العراقي، وهذا مُؤدّى المثل « ...  في سوق الصفافير!».

المؤلف
في ناحية الحلفاية (المشرح) كانت كتابة الرسالة وظيفة في نظام الإدارة المعمول به. إذ يتوجه من يريد إرسال مكتوب، أنْ يتجه إلى العرضحالجي، ويقرفص بين يديه، ليدلق في سمعه كل أسراره، وحين ينتهي من ذلك، يعود أدراجه، من غير أنْ يشك، قِيد أنملة، بتحريف ما تفوّه به. ويعود سبب ذلك إلى أن النظرة إلى الكاتب، تعتبره كائنـًا مقدّسًا. وقد رأيت أناسًا عديدين، قادرين على الكتابة، يتوجهون إلى العرضحالجي لتدبيج الرسالة التي ينوون إرسالها. وكلمة (تدبيج) تشير إلى التقنية في كتابة الرسائل، التي لا توجد إلا عند ذلك المخول، عُرفاً، في كتابتها.
 
موت المؤلف
مع دخول عصر العولمة، المحسوب بالثواني وأجزائها، مات مؤلف المكاتيب، ليس موتا مفهوميًّا بالمعنى البارتي، بل هو موت فيزيقي، إذ اختفى من دون أن يترك أثرًا، بعد أنْ اختفى موضوعه، والأثر الوحيد المتبقي، هو ذلك المتروك عَرَضـًا في ذاكرات محدودة، مرمية في الهجرة الداخلية والخارجية، وهذا هو مغزى كلمات نجم والي «وواحد مثلي لم يستطع تهريب شيء من بلاده، شيء غير الذاكرة» في رسالته لي. من الغريب أنْ أمة عظيمة ظلت منذ عصورها الشفاهية، تتحصن داخل الذاكرة، التي أفضت إلى هيمنة العقل النقلي في ثقافتنا، على حساب العقل الابتداعي، لكن من الأغرب، أن هذه الأمة العظيمة، استمرت في عصر الطباعة، بهدم كل نشوء أرشيفي، لصالح الذاكرة المحشوة بكل صور الكوابيس الشرقية، إلا من تلك الذاكرة المهرّبة، كذكرى وطن مفقود! وبموت مؤلف المكتوب، تمزق الأرشيف الثقافي لهذه الظاهرة. ولعل تلك السطور التي أكتبها، هي أقرب إلى نعي هذا المؤلف، منها إلى استعادة أثره.

أدب الرسائل
حاول كثير من مؤرخي الأدب العربي أن يبحثوا في رسائل الكتاب، البيانيين خصوصاً، عن عناصر أدبية، وسواء أكانوا نجحوا في ذلك، أم تعسفوا، فإنهم أوجدوا ذلك النوع في الجنس الأدبي، وأسموه أدب الرسائل.
غير أن موت مؤلف الرسالة الأصليّ، وسقوط لعبة البلاغة، بإزاء نظم الاختزال الحاسوبي، سبب أفول هذا النوع الأدبي، الذي لم يعد له أثر في الحياة الأدبية، إلا في المقررات المدرسية، ذات الأهداف التعليمية، لا الإبداعية.
 
إلى نجم والي
عزيزي نجم والي،
السلام عليكم إن كنتم تسألون عنا فلله الحمد سالمين. لقد تلقيت رسالتك التي لم تكن رسالة شخصية، أو هكذا كنت أراها وأنا أفرغ من قراءتها. ولهذا وجدت أنها من النوع العام، أو البريد المفتوح، فقررت، من غير استئذان منكم، واعتمادًا على «الميانة» الجنوبية، أن أجعل منها موضوعًا، متنازلا عن ملكيتي الخاصة لصالح الآخر المفترض، قارئنا المبجّل! كيف قـُدِّر لك أن تقابل ثائر سعيد حسون. ذلك الذي علمني أبوه (أستاذ سعيد) حسون ، أول درس في الصف الأول في مدرسة المشرح الابتدائية، فقد انهار بدخوله جبل الخوف الذي كان يجثم على صدورنا نحن الأجنة المترقبين! غنى وصفق ومثّل، وحين حاكيناه انفرجت الأزمة. سعيد حسون هو الصفعة التي تلقيتها كزلزال، عقوبة على توقفي عند باب المقهى بحثا عن وجه أخي القادم من بغداد! فما الذي كان سيحدث لو كنت خطوت داخل المقهى؟ سعيد حسون هو أول مخرج مسرحي تعليمي، ليس في الحلفاية، كما أظن، بل في الجنوب برمته، إن لم أقل في العراق، حين أخرج مسرحية «شعواط» ومثّل بطولتها في بعض أيام العرض، بعد أن انسحب الطالب بطل العرض، لمرض ألمَّ به. سعيد حسون شقيق مدير مدرستنا الأستاذ جمعة حسون، الذي كان يقع خارج تصوّراتنا، ومن سبب حادثة النطلون الأول التي كنت بطلها! يا للذاكرة!
أيها المبدع الرائع،
أنتظر وصول أعمالك بفارغ الصبر، ومن جهتي سأرسل إليك، مؤلـَّفين لي، وبعض المقالات التي أظن أنها تقع في نطاق اهتمامك.
شكرًا لك. لقد كتبتني موضوعًا عن أثر تحت ممحاة! اسلم لي
مالك المطلبي
 
عزيزي الدكتور مالك المطلبي المحترم،
تحيات طيبات من شمال الكرة الأرضية،
لا تعرف كم أنا سعيد بحصولي على «إيميلك» البريدي وقدرتي على مراسلتك. آخر لقاء لنا كان سريعًا ومليئًا بالفكاهة في مقهى البرلمان قبل مغادرتي الجحيم العراقي بفترة. لكن من ترعرع شب (من الأفضل القول: شابّ من شيب) في العمارة العتيدة. لا يمكنه أن ينسى لحظة في حياته مهما كانت قصيرة، لكنها حميمة. أنت بنكاتك «السوداء» تستطيع أن تجعل كل جلسة خالدة للأبد. وواحد مثلي لم يستطع تهريب شيء من بلاده، شيء غير «الذاكرة»، لا يمكن أن يعيش بدون تذكر، على الأقل البعض من لحظات حياته الحميمية. اللحظات هذه هي التي جعلت البلاد التي نأت عنا ونأينا عنها، تصبح حاضرة في حياتنا، هنا في شمال الأرض، صباح مساء...  أتابع أخبارك كلما وجدت لذلك منفذا. وضحكت جداً عندما قرأت حديثك عن المجد الذي حصلت عليه، عندما كنت أول من لبس بنطلوناً في الحلفاية (المشرح)، للمشاركة في فيلم «مغامرات عنتر بن شداد». أنت الآخر لا تنسى لحظة حميمية في حياتك. كل ألقاب العالم وجوائزه لا أعتقد انها تعادل تلك اللحظة التي رفعها بها زملاؤك الأطفال في مدرسة الحلفاية. أي مجد توجوك به؟ لا أدري بأي عينين ستقرأ أو تلتهم سطور روايتي الجديدة (ستصدر بعد شهرين على الأقل)، «ملائكة الجنوب: كتب عماريا»، عندما تجد قصة الفيلم وصلاح أبو سيف وقصصاً أخرى نشأت هناك على ضفاف دجلة، وعلى ضفاف الأنهر التي تفرعت منه، الكحلاء والمشرح، وزملاء آخرين لهما... قصص العمارة التي تُحَد من الماء إلى الماء... ماذا عن قصص بيت المطلبي؟ أين أصبحوا جميعاً؟ هل أعدهم؟ أي قصص خطوها في المدينة تلك... في كانون الثاني 2004 كنت هناك بعد 23 عاماً؟ في السوق قابلني فجأة «ثائر»، إنه ابن الأستاذ «سعيد»، إذا تذكرته، المعلم سعيد الذي لعب دورًا بارزًا في فيلم «خنيجير وانعيمة»، ربما هو من مواليد 1960 أو أقل، ثائر هذا حضنني وبكى، وقال لي، هل تعرف، لم تعد المدينة هناك، منذ أن غادرتموها أنتم، ، وهو يقصد أنتم كل الطبقة المتوسطة، المتعلمة، أو كما قال مُعرّفا أنتم بنفسه، كل طبقتها المتنورة. قصص العمارة لا تنتهي يا عزيزي... كان جدي والي، بستنجي المقبرة الإنكليزية (هل تتذكر المقبرة؟ في العدد الاخير من مجلة «الاديب الأسبوعي» هناك فصل من روايتي: زيارة المقبرة الإنكليزية). كان جدي يقول لي: «الطريق طويل للقصة يا جدي... »، نعم الطريق طويل للقصة، لكنه لا يعني شيئاً لمن يشعر بسعادة. بنشوة وهو يروي قصة ما... ذلك هو شعوري وأنا أكتب لك هذه الرسالة القصيرة التي أرجو أن تقرب المسافات بيننا، وتزودنا بلحظات حميمية جديدة.
محبتي
نجم والي
 
 ملاحظة: أكتب لي عنوانك لكي أرسل لك البعض من رواياتي. صحيح أنني أرسلت لك أصلاً نسخة من «صورة يوسف» على عنوان صديقنا الرائع محمد مزيد. لكنني أستطيع أن أرسل لك نسخة أخرى مع «تل اللحم» و«مكان اسمه كميت» و«الحرب في حي الطرب» على عنوانك مباشرة. في انتظار أن ترسل لي ما تختاره يدك من إبداعاتك.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%





 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni