كتب أورهان باموق هذه المقالة بناء على طلب من مجلة "دي زايت" الألمانية التي نشرتها بمناسبة الدورة السنوية لمعرض فرانكفورت للكتاب التي خصصت عام 2008 لتركيا. كما نشر الملحق الأسبوعي لجريدة "ميللييت" التركية الأصل التركي لها . في ما يأتي الترجمة الكاملة للمقالة:
شكلت مكتبة أبي نواة مكتبتي الخاصة. حين بدأتُ، بين السابعة عشرة والثامنة عشرة من عمري، أمضي معظم وقتي في قراءة الكتب، غزوتُ مكتبة أبي في صالون البيت، بقدر غزواتي لبائعي الكتب في اسطنبول. في تلك الفترة إنما بدأتُ أنقل كل كتاب قرأتُه فأعجبني، من مكتبة أبي إلى مكتبتي الخاصة في غرفتي، ليستقر على رفوفها بين مقتنياتي الخاصة من الكتب. كان أبي يشعر بالسرور من إقبال ابنه على قراءة الكتب، فكان يفرح حين يرى بعضاً من كتبه وقد انتقل إلى مكتبتي، وكلما رأى أحد كتبه القديمة في موقعه الجديد على أحد رفوف مكتبتي، علّق عليّ مداعباً: "أووه! تم قبول هذا المجلد أيضاً في المقام الرفيع!". في عام 1970، وكنت في الثامنة عشرة من عمري، بدأتُ ككل فتى تركي يهوى القراءة، أكتب الشعر. كنت أدرس فن العمارة وأشعر بأنني بدأت أفقد متعة الرسم، فكنتُ أكتب قصائد الشعر وأدخن السجائر ليلاً بعيداً عن الأنظار. في تلك الفترة قرأتُ جميع كتب الشعر التركي في مكتبة أبي الذي كان يرغب، في شبابه، أن يصبح شاعراً. أحببتُ تلك المجموعات الشعرية ذات السماكة الضئيلة والغلف الباهتة لشعراء دخلوا تاريخ الشعر التركي تحت عنواني "تيار التجديد الأول" (جيل الأربعينات والخمسينات) و"تيار التجديد الثاني" (جيل الستينات والسبعينات)، وكلما قرأت تلك المجموعات أحببتُ أن أحذو حذوهم في كتابة الشعر. شعراء التجديد الأول، أورهان ولي ومليح جودت وأوكتاي رفعت، الذين أدخلوا لغة رجل الشارع البسيطة وروحه الساخرة إلى الشعر التركي الحديث، وأداروا الظهر للخطاب الإنشائي للغة الرسمية المنتمية إلى عالم قمعي وسلطوي، نشروا مجموعة شعرية مشتركة عنوانها "الغريب"، فبات هذا العنوان اسماً يُطلَق على التيار الشعري الذي مثّلوه. كان يحدث أحياناً أن يلتقط أبي إحدى المجموعات الشعرية لهؤلاء الشعراء، في طبعتها الأولى، من رفوف مكتبته، ويقرأ علينا بصوت مرتفع وطريقة في الأداء تؤكد أن الأدب هو أحد أكثر ميادين الحياة روعةً، بضع قصائد ساخرة ومرحة تثير فينا البهجة والسعادة. أما تيار التجديد الثاني الذي شكل استئنافاً للأول، فقد تخلص من الصورة والسرد، وكان أقرب إلى الدادائية والسوريالية حيناً، واتسم حيناً بشيء من الفوضى والتزويق اللغوي اللذين أثارا حماستي. كنت أقرأ أولئك الشعراء (جمال ثريا وتورغوت أويار وإلهان برك، وقد رحلوا جميعاً) الذين كان شعرهم عويصاً على الفهم ومؤثراً معاً، فأحس بسذاجة من يشاهدون لوحة تجريدية فيذهب بهم الظن إلى أنهم قادرون على رسم لوحة مشابهة بأنفسهم. فكنتُ أرغب بكتابة قصيدة فوراً، بل وأجلس أمام الطاولة وأكتبها فعلاً، كذلك الرسام الذي يشاهد لوحة جميلة، أو لوحةً يعتقد أنه فهم كيف يمكن رسمها، فيسرع إلى مرسمه ليحقق ما يرغب به. الشعر التركي، خارج أعمال التيارين المذكورين، أثار اهتمامي كمسألة ثقافية أكثر منه كشعر، بسبب لغته المتكلفة البعيدة عن لغة الحياة اليومية، إذا استثنينا عدداً قليلاً جداً من القصائد والأبيات الجميلة والمختلفة. ما الذي كان على الشاعر المحلي أن يحميه من التراث المترنح وكيف، وهو تحت وطأة التأثير الساحق للتغريب والحداثة وأوروبا؟ بأيّ طريقة كان لنا أن ندخل في قصيدة حديثة، جماليات شعر الديوان ومراوغاته الأدبية التي ابتكرتها النخب العثمانية بفعل المؤثرات الأدبية الإيرانية، تلك الجماليات والمراوغات التي ما كان في مقدور الأجيال الجديدة فهمها إلا بمساعدة المعاجم وكتب التفسير؟ هذه الأسئلة التي شاع التعبير عنها بعبارة "الاستفادة من التراث"، شغلت أدباء جيلي بقدر ما شغلت أبناء الجيل الذي قبلي. بفضل الشعر العثماني القوي الذي لم يتعرض للمؤثرات الغربية، بفضل تراثه الممتد لمئات السنين، تسنّى لنا مناقشة المشكلات الأدبية والفلسفية، بيسر وراحة، بالانطلاق من الشعر. كان عدم وجود تراث نثري وروائي، يؤدي بالروائيين الأتراك المنشغلين بهواجس المحلية في الشكل والأسلوب، الى الالتفات نحو الشعر. في أوائل السبعينات، حين اندلعت حماستي للشعر ثم انطفأت بالسرعة نفسها، لأقرر بعد ذلك التحول إلى الكتابة الروائية، كان الشعر يعدّ، في تركيا، الأدب الحق، في حين عدّت الرواية جنساً شعبياً ذا قيمة أقل. ليس من الإجحاف القول إن السنوات الخمس والثلاثين المنقضية، منذ ذلك الوقت، شهدت ارتفاعاً في اعتبار الرواية وأهميتها، مقابل خسارة الشعر للأهمية التي كان يتمتع بها. ففي غضون الفترة المذكورة ازداد عدد قراء الأدب وتوسعت صناعة الكتاب بسرعة مدهشة. حين قررت أن أصبح كاتباً روائياً، كان المفهوم الأدبي المهيمن في ميداني الشعر والرواية معاً، لا يولي اهتمامه لتعبير الفرد المنعزل عن نفسه وروحه وطرافة تجربته الخاصة، بقدر اهتمامه بمساهمة الكاتب المنتمي إلى فريق أو جماعة أو مجموعة من الزملاء أو الرفاق، في تحقيق يوتوبيا اجتماعية ما (الحداثة أو الاشتراكية أو الإسلام أو القومية أو النزعة الجمهورية العلمانية، إلخ...). إن رائز الاستفادة من التاريخ والتراث لم يشكل قط مشكلة بالنسبة الى الكتاب الخلاّقين في بحثهم عن الجنس الأدبي الأكثر ملاءمة بالنسبة اليهم. انصب الاهتمام، بدلاً من ذلك، على حلم خلق مجتمع المستقبل السعيد والمتآلف، بل خلق الشعب أو الأمة، بالعمل يداً بيد مع الدولة. أفكر أحياناً أن الأدب الحداثي المتفائل، في شقيه "الجمهوري – العلماني – التنويري" و"المساواتي – الاشتراكي" سواء بسواء، قد اشتطّ في تركيز نظره على المستقبل إلى درجة فقد فيها القدرة على رؤية روح التغيرات والتحولات الجارية، طيلة القرن الماضي، في أزقة اسطنبول وبيوتها. لطالما بدا لي أن الكتّاب الذين صوّروا الحياة التي نعيش بدقة أكثر، ليسوا أولئك الذين اهتموا بحماسة بكيفية وصول تركيا إلى مستقبل مشرق، بل صنفان من الكتّاب، أولهما أولئك الذين عبّروا عن الحنين إلى الماضي، إلى ثقافة طواها الزمان، كأحمد حمدي تانبنار وعبد الحق شناصي هسار، وثانيهما أولئك الذين أحبّوا شعرية أزقة اسطنبول وحيويتها، من غير أحكام مسبقة، كأحمد راسم وسعيد فائق وعزيز نيسين. بعد انطلاق رحلة التغريب والحداثة، تمثلت المشكلة الرئيسية، لا في الأدب التركي وحده، بل بالنسبة الى جميع الآداب غير الغربية في العالم، في صعوبة التوفيق بين الأحلام المستقبلية وألوان اللحظة الراهنة، بين الحلم بإنسان ودولة حديثين، ومتع العيش في عالم تقليدي موجود في الواقع. الكتّّاب الذين حلموا بمستقبل راديكالي، كثيراً ما انخرطوا في معارك سياسية وصراعات من أجل السلطة، أودت بهم إلى السجون، فاتسمت نبراتهم وملاحظاتهم بالقسوة والمرارة. كانت في مكتبة أبي المجموعات الشعرية المبكرة لناظم حكمت التي صدرت في الثلاثينات، قبل اعتقال الشاعر. بقدر ما تأثرتُ بنبرة الغضب والأمل والإيمان بمستقبل مشرق، المبثوثة في تلك القصائد، كما بالتجديد الشكلي فيها المستوحى من المستقبليين الروس، تأثرتُ أيضاً بالشقاء الذي كابده الشاعر في السجون، وبالحياة داخل تلك السجون التي قرأتُ عنها في مذكرات ورسائل كتّاب واقعيين شاركوا ناظم حكمت فترات من سجنه كأورهان كمال وكمال طاهر. إن كتب مذكرات المثقفين والصحافيين الأتراك ممن تعرضوا للسجن، والروايات والقصص التي تدور حوادثها في السجون، تشكل مكتبةً قائمة بذاتها. لفترة من الفترات قرأتُ أدب السجون بكثافة جعلتني أعرف عن الحياة اليومية في المهاجع، وتلك اللغة الخاصة بالسجناء التي أحببتها كثيراً، وقواعد "الفتونة" داخل المهاجع، كما لو أنني خبرتُ السجن بنفسي. بدا لي، في تلك الفترة، كما لو كانت حياة الكاتب تجري في بيت يحرسه البوليس بصورة دائمة، ويخضع فيها للمراقبة الدائمة من الشرطة السرية، ويتم التنصت على مكالماته الهاتفية، ولا يستطيع الحصول على جواز سفر، ويكتب إلى حبيبته من سجنه رسائل وقصائد مؤثرة. هذه الحياة التي عرفت بها من الكتب لم أتشوق البتة لأحياها بنفسي، لكني وجدتها رومنطيقية. حين كابدتُ مشقات مماثلة بصورة طفيفة، بعد ثلاثين عاماً، وجدتُ العزاء في أن وضعي أقل مشقة بكثير من وضع أولئك الكتّاب الذين قرأت عنهم، في سنوات شبابي، برعب مفهوم ورومنطيقية غريبة. المفهوم التنويري والنفعي الذي يرى في الكتب ما يعدّنا لخوض غمار الحياة ومشقاتها، لم أتحرر منه، للأسف، إلا قليلاً. ربما يعود ذلك إلى أن سير حياة الكتّاب في تركيا أثبتت صحته على الدوام. والسبب الأهم هو أنه لم يكن، في تركيا في تلك الفترة، مكتبات كبيرة، يمكن المرء أن يعثر فيها بسهولة على أي كتاب يبحث عنه. ثمة وراء حلم المكتبة التي تخيلها بورخيس، حيث يكتسب كل كتاب فيها طابعاً سحرياً ملغزاً، فتكتسي المكتبة في مجموعها بحالة من الشعرية واللامحدودية الميتافيزيقية المناسبتين لفوضى العالم المحسوس، مكتبات ضخمة فيها أعداد هائلة من الكتب لا يمكن عدّها أو قراءتها. كان بورخيس مديراً لمكتبة من هذا النوع في بوينس أيريس. أما في اسطنبول وفي تركيا، فلم يكن ثمة مكتبة واحدة من هذا النوع مفتوحة للمهتمين، في سنوات شبابي. أما الكتب الأجنبية فلم توجد في أي مكتبة من المكتبات العامة في تركيا. إذا أردتُ أن أعرف كل شيء وأصبح شخصاً ذا معارف واسعة وعميقة، وإذا أردتُ التحرر من الحدود الخانقة للأدب القومي الذي تحميه الجماعات والأطر الصداقية والديبلوماسية الأدبية والمحظورات، كان عليَّ أن أبني بنفسي مكتبتي الخاصة الكبيرة. في الفترة الفاصلة بين 1970 و1990، بات شغلي الأهم، بعد الكتابة، هو شراء الكتب ليتسنى لي بناء مكتبة تضم جميع الكتب المهمة والمفيدة. كان أبي يمنحني مصروف جيب جيداً. منذ الثامنة عشرة من عمري وأنا أزور مرة في الأسبوع زقاق الصحافين في منطقة بيازيد في اسطنبول. كنتُ أمضي ساعات وأياماً في ذلك الزقاق حيث تصطف على الجانبين مكتبات صغيرة امتلأت عن آخرها بأعمدة من كتب لم يستطيعوا تصنيفها، وتتم تدفئتها بصعوبة بوساطة مدافئ كهربائية صغيرة، ويزدحم ببشر ينم مظهرهم عن الفقر الشديد، سواء في ذلك أصحاب دكاكين الكتب أو بائعو البسطات أو الزوار العاديون من هواة اقتناء الكتب. كنتُ أدخل أحد تلك الدكاكين التي تبيع الكتب المستعملة، وأتفحص جميع الرفوف والكتب المعروضة عليها، فأختار كتاباً أشتريه بعد مساومة على ثمنه مع البائع. قد يكون الكتاب الذي اخترته كتاباً تاريخياً يتحدث عن العلاقات العثمانية – الأسوجية في القرن الثامن عشر، أو مذكرات رئيس الأطباء في مشفى باكر كوي للأمراض العقلية، أو شهادة صحافي عن انقلاب عسكري انتهى إلى الفشل، أو كتاباً في فن العمارة يتحدث عن المباني العثمانية في مقدونيا، أو مختارات تركية من ملاحظات سائح ألماني زار اسطنبول في القرن السابع عشر، أو أفكار أستاذ جامعي في كلية الطب في جامعة تشابا حول الميول الفصامية والعصاب الوسواسي، أو ديوان شاعر عثماني نسيه الجميع مترجماً إلى التركية الحديثة ومزوداً شرحاً، أو بروشوراً دعاوياً مصوراً بالأسود والأبيض عن إنجازات محافظة اسطنبول في الأربعينات في مجال تعبيد الشوارع وتشييد المباني وإقامة الحدائق. في البدايات الأولى كنتُ أجمع كل الأعمال الأدبية الكلاسيكية العالمية والتركية (الأصح القول عن هذه الأخيرة "الكتب المهمة"). أما الكتب الأخرى، فقد اعتقدتُ أنني لا بد أن أقرأها ذات يوم، مثلها مثل الأعمال الكلاسيكية. حتى أمي القلقة عليَّ من كثرة القراءة، كانت تلاحظ أن عدد ما أشتريه من الكتب يفوق كثيراً قدرتي على قراءتها، فتقول لي متأففة: "لا تذهب لشراء المزيد قبل الانتهاء من قراءة ما اشتريته هذه المرة على الأقل". لم أكن أشتري الكتب كهاوٍ لجمعها، بل كمن يريد قراءتها جميعاً في مقبل الأيام ليتمكن من فهم معنى العالم وسبب الفقر والمشكلات العويصة في تركيا. في العشرينات من عمري لم أكن قادراً على إعطاء جواب شاف لزملائي ممن كانوا يزورونني في بيت ذويّ ويلاحظون امتلاء غرفه المطرد بالكتب، فيسألونني عن سبب ولعي باقتنائها. ترى هل كنتُ مهتماً حقاً وأملك من الفضول ما يكفي لأقرأ كامل صفحات كتاب يتحدث عن رمزية البيت في "حكايات غوموشهانة الخرافية"، أو خلفيات تمرد أدهم الشركسي على أتاتورك، أو الجرائم السياسية في عهد المشروطية الثانية، أو قصة الببغاء التي أرسلها السفير العثماني في لندن إلى السلطان عبد الحميد الثاني في اسطنبول بناء على طلب هذا الأخير، أو نماذج رسائل الغرام من أجل الخجولين، أو تاريخ استيراد القرميد المرسيلي إلى تركيا، أو المذكرات السياسية للطبيب الذي أنشأ أول مشفى للسل في تركيا، أو تاريخ الفن الغربي في كتاب من مئة وخمسين صفحة نشر في الثلاثينات، أو الملاحظات المكتوبة التي أملاها مفوض الشرطة على طلاب مدرسة الشرطة حول وسائل التعامل مع حالات صغيرة من خرق القانون في الشارع كالسلب والنصب وإطلاق الشتائم، أو مذكرات رئيس جمهورية سابق في ستة مجلدات محشوة بالوثائق، أو أثر أخلاقيات طوائف الحرف في الحقبة العثمانية على المشاغل الحديثة الصغيرة، أو تاريخ الطريقة الجراحية وأسرارها ومشايخها، أو مذكرات رسام منسي في باريس الثلاثينات، أو الألاعيب التي كان التجار يلجأون إليها لرفع أسعار البندق، أو النقد العنيف الصادر عن حركة ماركسية تركية مناصرة للسوفيات ضد حركة مناصرة للصين وألبانيا في خمسمئة صفحة، أو التحولات التي تعرضت لها مدينة أريلي بعد بناء مصانع الفولاذ فيها، أو كتاباً للأطفال بعنوان "مئة من أعلام الترك"، أو قصة حريق آك سرايا في اسطنبول، أو مختارات مما نشره صحافي طواه النسيان تماماً، في زاويته اليومية في فترة ما بين الحربين العالميتين، أو تاريخ ألفي عام لمدينة صغيرة في الأناضول، قد لا أتمكن من العثور على موقعها على الخريطة من النظرة الأولى، حشر في كتاب من مئتي صفحة، أو مزاعم معلّم مدرسة متقاعد توصل إلى معرفة قاتل كينيدي من قراءته للصحف التركية، وهو الذي لا يتقن الإنكليزية؟ في السنوات اللاحقة لن أستخف بهذه الأسئلة ولا بالسؤال الذي سأواجهه بكثرة، عما إذا كنت قرأت كل تلك الكتب، وسوف أجيب قائلاً: "نعم، حتى إذا لم أقرأها جميعاً، لا بد أن تنفع في شيء ما". كما يمكن الفهم من هذه الطريقة الجدية في الجواب، كانت علاقتي بالكتب، إبان شبابي، محدودة بنظرة شخص وضعاني متفائل لن يرحمه الزمان، يعتقد أنه سيمتلك العالم بوساطة المعرفة. كنت أعتقد أن من المحتمل أن أستخدم ما أراكمه من معلومات في إحدى رواياتي. كان بي شيء من دأب البطل العصامي لرواية "الغثيان" لجان بول سارتر، ذاك الذي يقرأ جميع الكتب في المكتبة العامة في إحدى المدن، وشيء من بيتر كلاين، بطل رواية "العمى" لإلياس كانيتي، ذاك الذي يفخر بكتبه ويستمد القوة منها كقائد عسكري يتباهى بجيشه. لم تكن فكرة المكتبة على الطريقة البورخيسية بالنسبة اليَّ، حلماً ميتافيزيقياً يوحي بلامحدودية العالم، بقدر ما كانت تلك المكتبة بالذات التي راكمتها كتاباً كتاباً في بيتي في اسطنبول. كنت أقتني بلا تردد كتاباً عن الأسس القانونية للاقتصاد الزراعي في الامبراطورية العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. من هذا الكتاب إنما عرفت بوجود النمور في الأناضول، في ذلك الزمان، وأنا أقرأ فيه عن طريقة تحديد الضرائب على فراء النمور. وعرفت من المجلدات الثقيلة التي تضم رسائل الشاعر التركي المكافح الوطني الرومنطيقي ذي النبرة التربوية نامق كمال (فيكتور هوغو الأدب التركي) التي كتبها من منافيه العديدة، أن شاعرنا الأسطوري هذا كان ذا لسان لاذع شتّام، وشخصية لا يستغنى عنها في الكتب المدرسية والنكات البذيئة للتلاميذ. حين كنت أقع بالمصادفة على كتاب مذكرات سياسية ممتع لنائب سابق دخل السجن، أو كتاب يتحدث فيه موظف شركة تأمينات عن أغرب ما صادفه في حياته المهنية من حوادث السير أو الحرائق، أو كتاب مذكرات ديبلوماسي متفرنج يصادف أن ابنته زميلتي في المدرسة، لم أكن أتردد لحظة واحدة في شرائها. كلما ازداد تعلقي بالكتب، خسرت من حياتي شيئاً، وكلما أدركت خسارتي هذه، انتقمتُ لحياتي الضائعة بشراء مزيد من الكتب. الآن، بعد مرور سنوات طويلة، أدرك الساعات الممتعة التي أمضيتها في تلك المكتبات الباردة، وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع البائع الذي يقدّم اليَّ كأساً من الشاي، أو أنقب في أعمدة الكتب العتيقة المغبرة. بعدما أمضيت نحو عشر سنين في زقاق الصحافين حيث بائعو الكتب المستعملة، حيث أشبع فضولي من المشاهدة والتنقيب، أي في أواخر عقد السبعينات، وصلت إلى اقتناع مفاده أنني رأيت جميع الكتب المنشورة بالأحرف اللاتينية، منذ قيام الجمهورية إلى حينه، وتصفحتها. فقد كنت أفترض أحياناً أن ما نشر بالتركية، في غضون خمسين سنة، بعدما انتقل الشعب بأسره، في عام 1928 بناء على رغبة أتاتورك، من الأبجدية العربية إلى الأحرف اللاتينية، لا يتجاوز في مجموعه خمسين ألف كتاب. من المحتمل أن هذا الرقم تجاوز بالكاد المئة ألف، في عام 2008. لعل الخطة السرية الكامنة وراء جشعي في شراء الكتب، تمثلت في الرغبة بجمع كل تلك الكتب في مكتبتي في البيت. لكني كنت أقتني الكتب غالباً بحافز داخلي ابن اللحظة. كان ثمة شبه بين شرائي للكتب، كتاباً بعد كتاب، ومن يبني بيتاً، حجراً فوق حجر. في بداية الثمانينات، رأيت من يفعلون مثلي، سواء عند بائعي الكتب العتيقة أو في المكتبات الكبيرة في اسطنبول. إني أتحدث عن أولئك الذين يمرون بالمكتبة في الخامسة أو السادسة مساءً، ويسألون البائع عن أحدث ما وصل إليه من كتب، ويتصفحون جميع الكتب الجديدة التي يعرضها عليهم. في الثمانينات كان ينشر في تركيا كل سنة نحو ثلاثة آلاف كتاب وسطياً، ومن المحتمل أن هذا الرقم قد ارتفع اليوم إلى ثلاثة أمثاله. وكان نحو نصف تلك الكتب التي رأيت القسم الأعظم منها، ترجمات من اللغات الأخرى. لم يكن يستورد الكثير من الكتب من الخارج، فكنت أسعى للاطلاع على تطورات الآداب العالمية من خلال تلك الترجمات، وأكثرها يفتقر إلى العناية ويتم إنجازها على عجل. في السبعينات كانت المجلدات التاريخية السميكة التي تعنى بالتنقيب في جذور تخلف تركيا وفقرها وأزماتها السياسية والاجتماعية، هي النجوم المتألقة على رفوف المكتبات. كتب التاريخ هذه الحديثة والطموحة، المكتوبة بلغة مشحونة بالغضب، كانت بخلاف كتب التاريخ العثماني القديمة – وكان يعاد طباعتها مجدداً بالأبجدية التركية الحديثة، وقد اشتريتها جميعاً -، لا تحمّلنا كثيراً مسؤولية الكوارث التي ألمّت بنا، بل تفسر فقرنا وجهلنا وتخلفنا إما بفعل قوى خارجية وإما بفعل حفنة من الأشرار الفاسدين بين ظهرانينا. لعل تلك الكتب كانت تجد جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين لهذا السبب بالذات. اشتريت أيضاً جميع كتب التاريخ والمذكرات والروايات التي تبرهن على وجود سر أو مؤامرة دنيئة أو لعبة مدبرة من القوى العالمية وراء الكثير من الانقلابات العسكرية في التاريخ القريب، والحركات السياسية، والهزائم العسكرية في السنوات الأخيرة من الامبراطورية العثمانية، والاغتيالات السياسية التي لها أول وليس لها آخر. اشتريت جميع الكتب التي كتبها معلمون متقاعدون عن تواريخ المدن، وإما نشروها بأنفسهم وإما نشرتها لهم البلديات، وكتب مذكرات لأطباء حالمين أو مهندسين أو جباة ضرائب أو ديبلوماسيين أو سياسيين، وقصص حياة نجوم السينما ونجماتها، وكتباً عن الطرق الصوفية ومشايخها، والمجلدات التي تفشي أسرار الماسونية وأعلامها، وجميع الكتب التي فيها شيء من المرح والحياة والواقع، أو شيء من تركيا على الأقل. في سنوات طفولتي قرأتُ بحب شديد الكتب التي كتبها عن أتاتورك أصدقاؤه المقربون. بخلاف هذه الكتب التي ألّفها أشخاص عرفوا أتاتورك عن قرب وأحبّوه، تحولت صورته لدى الأجيال اللاحقة، بفعل المحظورات التي منعتنا من رؤية الجوانب الإنسانية في شخصيته والكتابة عنها، إلى صورة إنسان فائق وسلطوي، وكثيراً ما تمت إساءة استخدام اسمه لشرعنة ضروب القمع والمحظورات السياسية. من المحال اليوم، بسبب الممنوعات المطبقة في تركيا، أن يتحدث المرء عن أتاتورك، في إحدى الروايات، كشخص طبيعي، أو يؤلف سيرةً مقنعة عنه، من غير أن يحال على القضاء. مع ذلك تؤلَّف عنه مئات الكتب سنوياً. ربما لأن الممنوعات تبسّط الموضوع العويص والمتشابك فتريح المؤلف، كما هي الحال في الكتب التي تتناول الإسلام. في منتصف السبعينات، حين تخليتُ عن أحلامي المتعلقة بالرسم والهندسة المعمارية وقررت احتراف الكتابة الروائية، كان ينشر في تركيا ما بين أربعين وخمسين رواية في السنة. كنت أراها جميعاً، وأشتري القسم الأكبر منها لعلّها تنفع ذات يوم، وأتصفحها قليلاً من أجل ما تنطوي عليه من تفاصيل الحياة في القرية، ومشاهد إنسانية من الريف، وشرائح من الحياة في اسطنبول وتركيا، أكثر من اهتمامي بقيمتها الأدبية. الناقد الشهير في الخمسينات نور الله أتاج الذي كان يدافع، من جهة أولى بالصوت العالي، عن محاكاتنا للحضارة الغربية، وفي الأخص الثقافة الفرنسية، ولا يتمالك نفسه، من جهة أخرى، من الاستهزاء بما يقترفه أولئك الكتّاب ممن ينقصهم التراكم الثقافي من أخطاء، حين يتنطحون لمحاكاة الفرنسيين، كتب يقول إنه علينا، في بلد مثل تركيا، شراء الكتب التي تنشر دعماً للكاتب والناشر. وقد عملت بنصيحته هذه. وأنا أقرأ تلك الكتب أو أتصفحها، كنتُ أحس، من جهة أولى، بمتعة الانتماء إلى ثقافة وتاريخ، وأفكر، من جهة ثانية، في الكتب التي سأكتبها في مقبل الأيام، فأشعر بالسعادة. لكنني كنتُ في بعض الأحيان، أستسلم لتشاؤم وكآبة خطيرين. كانت أخطاء الطباعة الكثيرة في أحد الكتب، وعدم انتباه كاتبه وناشره إليها، يشتتان تركيزي، ويثير حزني كتاب آخر لأن موضوعه الغني الذي يمكن معالجته بصورة حاذقة، تم قتله بسبب تسرع الكاتب وغضبه وحماسته. على كل حال، كنت أجد الموضوع على شيء من السخف ومثيراً للشفقة وكنت أشعر بالحزن لأن هذا الكتاب السخيف والبخس لاقى استحسان القراء، أو لأن ذاك الكتاب اللافت والساحر لم يلحظه أحد. كانت هذه المشاعر جميعاً تثير فيَّ قلقاً أكبر وأعمق، فتتضخم في ذهني وتتكاثف غيمة الريبة المدمرة التي يصارعها جميع المتعلمين في البلدان الواقعة خارج حدود الغرب، طيلة أعمارهم: ترى ما أهمية معرفة وجود النمور في الأناضول في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؟ أو ما معنى معرفة أثر الأدب الهندي في شعر آصف خالد تشلبي الذي يكاد القارئ التركي نفسه لا يعرفه معرفة جيدة؟ ولم أر أهمية تذكر في معرفة أن وراء حوادث السادس والسابع من أيلول 1955، حين اعتدى الرعاع على بيوت الأقليتين الأرثوذكسية واليهودية ومحالهم التجارية في اسطنبول ونهبوها، وقتلوا القساوسة، أجهزة الاستخبارات السرية التركية، كما الإنكليز الذين عارضوا تبعية قبرص التامة لليونان. كذلك لم أر أي أهمية في قراءة الحديث الذي تبادله أتاتورك مع شاه إيران أثناء الجولة في مضيق البوسفور. كنت أشعر بخواء الجهود التي بذلها أولئك الذين كتبوا، في مواضيع من هذا النوع، أبحاثاً أو روايات أو كتب تاريخ. كنتُ في فترات التشاؤم، أشعر بالقلق على "أهمية" ما أحتفظ به في مكتبتي بنجاح من تفاصيل تاريخ بطوله وثقافة ولغة بكاملهما، مثلي في ذلك مثل بطل روايتي الثانية فاروق، ذلك المؤرخ الذي قرأ في أرشيفات الدولة العثمانية وثائق تغطي مئات السنوات، ويحفظ جميع الوقائع في ذهنه، لكنه لا يقيم أي علاقات في ما بينها. ما هي أهمية أن نعرف اليوم من الذي أشعل حريق إزمير الكبير؟ وكان يبدو لي أن الأسباب الكامنة وراء الانقلاب العسكري في 27 أيار 1960، أو تأسيس الحزب الديموقراطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا تثير اهتمام أحد سوى بضعة أشخاص من أمثالي. ترى أكان ذلك بسبب فرط التسييس في الثقافة التركية، أم لأن الحياة في البلد كان يعبّر عنها غالباً من خلال السياسة، أم أن الشعور بالريفية أو الهامشية بالقياس إلى المركز الغربي، كان يقلل من شأن المكتبة القومية في نظر أبناء البلد؟ ثمة فكرة كثيراً ما أقلقت راحتي مع شعور بالخواء والبؤس، مفادها أن الوقائع والظواهر المذكورة في الكتب التي جمعتها بإخلاص في غرف بيتي، لا تتمتع بما يرضيني من أهمية بالنسبة الى البلدان الأخرى خارج تركيا. وإذا كانت فكرة أنني أعيش في مكان على هذه المسافة الشاسعة من مركز العالم، أقلقت راحتي أحياناً، في العشرينات من عمري، فإن هذا الشعور لم يحل دون حبي الشديد لمكتبتي. حين سافرت إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى، في الثلاثينات من عمري، ورأيت غنى المكتبات الأخرى وغنى الثقافة العالمية، آلمتني معرفة ضآلة ما يعرفه العالم من المكتبة والثقافة التركيتين. منحني هذا الألم، في الوقت نفسه، القدرة على التمييز، ككاتب روائي، بين ما هو أساسي وما هو عارض في الثقافة وفي مكتبتي، فكان تنبيهاً لي لأنظر بعمق أكثر إلى مكتبتي والحياة معاً. في رواية "البطء" لميلان كونديرا، ثمة شخصية تتحدث، في مؤتمر ذي طابع دولي، عن بلدها تشيكيا كلما سنحت لها الفرصة، فتصبح لهذا السبب موضع سخرية. يتم الاستخفاف بهذه الشخصية، عن حق، لأنها لا ترى شيئاً أو تفكر في شيء خارج بلدها، ولا ترى العلاقة بينه وسائر العالم والبشرية. لكنني تماهيت، وأنا أقرأ "البطء"، مع ذلك الشخص المضحك، لا مع من عاملوه باستخفاف، ليس لأنني أردت أن أكون مثله، بل كي أختلف عنه. فقط في عقد الثمانينات أدركت أنه يمكنني أن "أصبح أنا نفسي"، لا بالاستخفاف ببؤس ذلك الشخص الذي سمّاه نايبول "الرجل التقليد" بسبب ما فعله للتخلص من ريفيته وإذلاله، بل بالتماهي معه وفهمه، إذا استخدمتُ كلمات استخدمتها شخصيات روايتي "الكتاب الأسود". لم يقع الأتراك ضحية الاستعمار الغربي في أي فترة من تاريخهم. لذلك لم يعنِ تقليدنا للغرب، كما أراد لنا كمال أتاتورك، شيئاً مهيناً أو مذلاً كما يوحي كونديرا أو نايبول أو إدوارد سعيد، بل بات جزءاً لا يتجزأ من الهوية القومية التركية. الشخصية الأدبية أفروز بيك الأكثر شعبية – أو ربما الأكثر إثارة للنفور- التي خلقها كاتبها لنقد التوق إلى التغريب في وصفه "فرنجة وخفة وسنوبية"، تعبّر بكاريكاتوريتها المحببة، لا عن غنى المكتبة التركية، بل عن نزعة عرقية نراها مبثوثة هنا وهناك في كتابات القاص القومي ذي النبرة السجالية الحادة عمر سيف الدين (1884-1920) الذي رأى في التغريب حركة تخص الطبقة العليا المنفصلة عن الشعب. أشعر بنفسي، في هذه الأمور، أقرب إلى دوستويفسكي الذي كان يستشيط غضباً من المثقفين الروس الذين يعرفون أوروبا أكثر من معرفتهم بروسيا. لكني أيضاً، لا أرى ما يبرر كل هذا الحنق الذي أدى بدوستويفسكي إلى كره تورغنييف، لأنني أعرف، من نفسي، أن وراء كل تلك الحماسة لينصّب دوستويفسكي نفسه مدافعاً عن الثقافة الروسية والصوفية الأرثوذكسية (أأقول المكتبة الروسية؟)، يكمن رد فعل عاطفي منه على الجهل بتلك الثقافة، لا في الغرب فقط، بل حتى بين المثقفين الروس أنفسهم. في السنوات الخمس والثلاثين من مسيرتي الروائية، تعلمت ألا أرمي جانباً، من مكتبتي التركية، حتى أسخف الكتب وأكثرها ريفية وتخلفاً عن العصر، أكثرها بعداً عن الدُرجة، وأقلها ذكاءً، وأكثرها خطلاً وغرابة. لكن السر في قدرتي على حب تلك الكتب، لا يكمن في قراءتي لها بالطريقة التي أرادها لي مؤلفوها، بل لأنني قرأت تلك الكتب الغريبة والبعيدة عن الاهتمامات الشائعة، والجميلة أحياناً إلى حد لا يصدَّق، بأن وضعت نفسي مكان مؤلفيها، أو حاولت ذلك. لم يكن الطريق إلى التخلص من الريفية الهامشية، بالنسبة اليَّ، هي الهرب من الريف، بل التماهي مع هذا الشعور بالريفية إلى حدوده القصوى. بهذه الطريقة تعلمت معاً، التوغل في مكتبتي التي ازداد حجمها باطراد، ووضع مسافة بيني وبينها. هكذا أدركت، بعدما تجاوز عمري الأربعين، أن السبب الأقوى لحبي لمكتبتي إنما هو أن الغربيين والأتراك على السواء لا يعرفونها. أما الآن، فقد قيل لي: "فزتم بجائزة نوبل، كما أنها سنة تركيا في معرض فرانكفورت للكتاب، فهلا تفضلتم وعرفتمونا الى مكتبتكم التركية؟". أنا مستعد للقيام بذلك ولجعل الناس يحبّون المكتبة التركية، لكني أخشى أن أفقد حبي لها وأنا أفعل ذلك . عن التركية: بكر صدقي - النهار
|