|
|
ليل ونهار وسرير واحد |
|
|
|
|
تاريخ النشر
27/10/2009 06:00 AM
|
|
|
الغرفة التي دخلت إليها النساء الثلاث، بعد غروب الشمس، كانت صغيرة جداً ولا يوجد فيها سوى سرير واحد. قالت لهما المرأة السوداء التي فتحت بابها: - لا توجد سوى هذه الغرفة في بيت الطالبات، اقضيا فيها هذه الليلة فقط.. ويوم غد سأنقلكما إلى غرفة أخرى بسريرين. ومضت المرأة خارج الغرفة بعد أن أحكمت إغلاقها، فقالت الأخت الكبرى للصغرى: - لا أشعر بالنعاس. كنت نائمة طوال الطريق.. فنامي أنت في هذا السرير. - وكم الساعة الآن؟ - الثامنة. - سأنام أنا إذن من الآن حتى الصباح.. وفي الصباح نامي أنت إلى ان تشبعي من النوم.. ضحكت الأخت الكبرى موافقةً، وقالت: - تعالي فكُلي شيئاً إذن قبل أن تنامي. أكلت الأختان بعض أقراص الخبز المتبّل التي وضعتها لهما أمهما في حقيبة ملأى بطعام يكفي عدّةَ أيام، ثم ذهبت الأخت الصغرى إلى السرير ونامت، بينما جلست الأخت الكبرى تنظر من النافذة إلى بناية تقابل بيت الطالبات بدت أنها بناية مدرسة. كانت موحشة والمساء قد هبط.. وثمة حارس مسن ظهر من تحت سقيفة في باحتها الخلفية، ثم توجه محنيَّ الظهر إلى جدار بعيد وأشعل ضوءاً أبيض في أعلى الجدار، بدد ظلمة الساحة ولكنه لم يبدد وحشة المدرسة.. ما أن اشتعل الضوء في زجاجة المصباح حتى تحرك، قريباً منه، طائر صغير ذيله مشطور كالمقص وارتفع قليلا في الهواء ثم عاد إلى عشه ونام. بعد دقائق أضاعت الأخت الكبرى أثر الحارس لأنها التفتت بأفكارها إلى رجل حلمت به وهو يقود الحافلة في ظلام دامس دون أن تدري انه كان ينظر إليها بين الحين والآخر طوال الطريق الطويل الذي قطعته نائمة للوصول إلى هنا... ولكن الحارس ظهر مرة أخرى بعد ارتفاع آذان العشاء ومشى إلى الجامع المحاذي للمدرسة، فانصرفت الأخت الكبرى إلى الطعام، وغطت الصغرى في نوم عميق، فعاد الحارس بعد قليل وراح يغمّس قطعاً من الخبز في إناء صب فيه طعاماً من القدر. كان ضوء المصباح قد أخذ يكشف تحته عن سقيفة الحارس المسن وسجادة صغيرة مفروشة أمامها وموقد صغير لا زال يومض بالنار تحت إبريق ماء موضوع فوقه. أنزل الحارس الإبريق إلى الأرض، وبعد قليل راح يشرب الشاي ويدخن.. ثم استعمل منديلاً ليمسح وجهه، واستلقى على السجادة. مرت ثلاث ساعات تلتها ساعة أخرى، استيقظ بعدها الحارس من النوم ثم أجهش فجأةً بالبكاء بصوت عال وهو يدفن وجهه داخل منديله الكبير، فنهضت الأخت الكبرى من مكانها ومدّت رأسها خارج النافذة، وكادت أن تنادي عليه.. ولكنه صمت فجأة عندما ارتفع آذان الفجر ومسح دموعه بمنديله ونهض إلى قسطل قريب تعلوه حنفية ماء معوجة الرأس، فتوضأ منها ثم مشى إلى الجامع. أطرقت الأخت الكبرى برأسها على زجاج النافذة.. وأخذتها اغفاءة طويلة لم تستيقظ منها إلا ويد الأخت الصغرى تهزها لتوقظها من النوم. وأفطرت الأختان من طعام حقيبة الأم الذي يكفي عدةَ أيام. ونامت الأخت الكبرى في السرير الذي لا يوجد غيره في الغرفة، بينما جلست الأخت الصغرى وهي تراقب المدرسة التي بدأ الطلاب يملؤون باحتها بحقائبهم المرمية هنا وهناك.. هرجهم لم يوقظ أختها الكبرى من نومها.. وكانت تتقلب أحياناً عندما تعلو صيحاتهم وتشتد ضحكاتهم، ولكن دون أن تستيقظ. رأت الأخت الصغرى الطلاب يصطفون في طوابير الصباح وهم يرددون: عاش عاش..عاش... ثم يتحشرج المايكرفون بأصواتهم الحماسية، وهو يبث القصائد والأناشيد وبعض مأثورات الإدارة التي كان يلقيها رجل مربوع القامة أسود الشعر ويرتدي قميصاً أبيض اللون. التصفيق العالي جعل الأخت الكبرى تتململ في نومها مرة أخرى، ولكنها لم تستيقظ، فنادى رجل نحيف وطويل على الطلاب بأسمائهم وكان كلما يتلو اسما ينقص الطابور تلميذاً. كان الحارس قد اختفى من المدرسة.. والسنونو أصبح يحوم في فضاء الحديقة في ذهاب وإياب بين عشه وشجرة وحيدة مغروسة في ركن المدرسة، ومرت ساعتان تلتها ساعة أخرى، فازداد ضجيج الطلاب وارتفعت أصواتهم وهم يتدافعون حول حوض ماء كبير قبل الخروج من باب المدرسة، فاستيقظت الأخت الكبرى من النوم ورتبت السرير المبعثر وأعادته كما كان أول مرة. وعاد الحارس من صلاة الظهر في الجامع القريب وآثار ماء الوضوء لا تزال ظاهرة على جلبابه. تناولت الأختان طعام الغداء.. وسمعت الأخت الصغرى طرقات المرأة السوداء على الباب فقالت لها: - نحن قادمتان. قالت الأخت الكبرى وهي تنظر من النافذة: - رأيت هذا الحارس المسن يبكي ليلة أمس. - هل كان يبكي حقا؟ - نعم. - كيف عرفت انه كان يبكي؟؟؟. - سمعت بكاءه العالي ورأيته يمسح الدموع بمنديله. - وماذا رأيت أيضا؟ - لا شيء سوى أن الحارس كان يبكي. وأنت ماذا رأيت؟ - رأيت الطلاب جميعهم ومدير المدرسة، وصغير السنونو يطير من عشه لأول مرة. التفتت الأخت الكبرى بعينيها إلى أمام، وقالت: - كيف عرفت أنه يطير لأول مرة ؟؟ - هكذا بدا وهو يطير خلف أمه من العش إلى الشجرة.. كان خائفاً ومتردداً وغير مطمئن. انظري.. إنه يعاود الكرة. نظرت الأختان طويلاً من النافذة إلى باحة المدرسة، حيث الحارس يجلس قرب حوض الماء على الأرض، وصغير السنونو يمضي في طيرانه إلى الشجرة. بعد قليل نهضتا وغادرتا الغرفة.. الأخت الكبرى تفكر بالرجل المسن الذي كان يبكي في المساء والأخت الصغرى تفكر بصغير السنونو الذي طار للمرة الأولى. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ ميسلون هادي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|