حجلنامة ـ خاص، محمد عفيف الحسيني
عن دار أزمنة في الأردن، صدر حديثاً الكتاب الشعري الأول، للشاعر وليد هرمز ـمن أسرة تحرير مجلة حجلنامة ـ ، تحت عنوان "نواقيس الكلدان". في طباعة فاخرة، وبصفحاته الخمس والثمانين. وبغلاف من عمل الفنان الكردي عمر حمدي "مالفا". النص الشعري في الكتاب، هو تدوين لسيرة النواقيس، والرحيل، والغياب، والإيروتيك، والتصوف، واللغة المشغولة عليها بإتقان بركاتي. نص متوحد في سيرته، يسرد سيرة الكلدان، وسيرة جيرانهم، وسيرة القلاع، وسيرة الحب في موته.
ألمٌ هو هذا الكتاب الشعري؛ الألم الذي في مديح الحياة، أو الموت. ربما أراد به الشاعر إعادة ذكرى الأبُ، الأمُّ البصرة، والعماديَّة، والكرك، والمدن الأخرى التي مرَّ بها، أو عاش فيها، أو اختلقها من خياله. ثمت مافي الكتاب من روح الإنجيل أيضاً، من عصارة رنين النواقيس في المنفى، أو في الذكرى. "نواقيس الكلدان"، يُقرأ مثل تعويذةٍ، مثل أناشيدَ الكهنة، مثل حُبْ، مثل رغبة جنسية، مثل تمتمات المتصوفة، مثل حجر قديم، مثل أطعمة وأشرِبة مُباركة، مثل نباتات غير عمياء، مثل قصص بورخيس المُبْصرة، مثل الغزوات الرومانية، مثل نصوص سليم بركات، مثل نصوص إيكولوف، مثل النبي هرمس، أساطير سومر وبابل، وأخيراً، مثل أساطير وليد هرمز، نفسه، الأساطير الهرطوقية، في كتابه الهرطوقي الشاعري: نواقيس الكلدان.
من كتاب الحب، "كتاب النواقيس"، هذه المقاطع:
عَطْشانةٌ أنا، لِسَماع سِرِّ مُجون الكِلْد، أسلافِ الغواية. خِفافاً جاؤوا مع صيحة الشُّرود الفاجر. أقاموا، ثمَّ بَنوا المَعابدَ، الأبراجَ، والزَّقورات اللَّولبية، وسوَّروها بأسْوارٍ سامقةٍ. هَنْدسوا المَسلاَّت مِنْ طين عَرَِقهم. كانت الحاناتُ المعابدُ، مَلاذاً ومَهْجعاً. ارْتشفوا الخَمْرةَ بكؤوسٍ جُبِلتْ من غِرين النُّطفة الأولى. شربوا، ثملوا،وخطُّوا على ألواح الطِّينِ نشيد العشق والخَلْق وفداحة الخلود، بَعد أنْ فخَروها بشمس زفيرهم الفوَّار. تدثَّروا بحنين نِسائهم الأليفات. غفوا قليلاً على مَعْدن الشَّهقة ـ شهقة العَرَاءِ. لِمَ التدوينُ على الألْواح؟. كي لاتُنْفى شهقة الأرواح. *** كانت الألواحُ الحناجِرُ الجَمْرُ، بوحاً رَطِباً بندى فِضَّةِ الفجر وتشابيه اللون. قِرْطاساً لتدوين آلام حُكماء "اور"، ونثر السَّارداتِ. ضراوَةُ النَّرجس، ضراوة "حينما في العُلى" ألمُ الحافرينَ على صَلصال المَسلاَّت، بسالة "شَمْخَة" في تعليم "أنكيدو" مباهِجَ البَاه. رقصوا مُنْتعشينَ بسلوى البَنفسج، استنشقوا طَلْعَ القَصَب، هاموا بالنار النَّازلة مِنْ أصابع الكاهنات. ***
أرْخَتْ النِّسْوةُ أصابعهنَّ للطين المُكحَّل بالنُّحاس. صنعنَ دِناناً مفخورة بشهْقتهنَّ. أركنوها مذاودَ المعابد. طَلَيْنَ أجسادهنَّ بعَسلِ القصب الأخضر، حتى تعتَّقت بِلذائذهُنَّ الملذَّات طهَّرْنَ عيونهُنَّ من هباء العُتمة. رقَصْنَ نصفَ عاريات، فبرهنَّ أنَّهن أسطورة. *** رقَصْنَ لأول كاهن نبيذٍ. لـ "هِرْمِسَ"، الذي وقف على حافَّة الماء، ثم نظرَ إلى الأعلى، هامَ بالهلال،نصف القوْس المُعلَّق في هُدب السماء، فأشارَ إلى أتباعهِ أنْ يُدَوِّروا من طين النَّهر أقداحاً للخمْرِ.
***
سألَ الأتباعُ كاهِنهم: ـ لِمَ ياحكيمنا، كأسنا هذه مُدوَّرة؟. ـ لأنها في راحة الكف تدور، وفيها بنت الكَرْم تدورُ، كما في لوعة الرأس.
***
للقِنْديدِ بألوانهِ اِمتحان اليقظة. يستدرجنا للبكاء. يُلْبسنا أجنحة ملائكة النسيان. يُداعبُ القلقَ فينا. يُطهِّر مرايا أجسادنا. يُمسِّدُ ثرثراتنا. يَسْتدرج نُعاس الأميراتِ إنْ مَسَّهُنَّ الخَدَر، ساعة مَبْرق الفجر. يَفضحُ أنيسَ طيش الفكرة.
*** هِرْمس، ياأمير نبيذ القلب المُعتَّق، أميرنا الشقيِّ، أنظر، نجوم الغبطة تُغطي فجرَ الكِلْد. دِلَّنا، على حدائق أفلاككَ، أيُّها الشَّفيع، الذي أغوى وسواسنا، دِلَّنا، ياربَّ القيَّافينَ، نحنُ أهلٌ لجسارتِكَ، دلَّنا، ياشهيق الألم على حريق أكتافنا المُثقلة، بعرشك الأزرق، وبأسكَ العَنود.
***
ثمَّتَ أميرةٌ تائهة في سرابِ "موآب". طالعة كالنُّورِ من قلعة "ماخيروس"، تقطر من جسدها ينابيع "أرنون"، ارشِدْها، كَمْ تشتهي الرَّاحة في مهجع قلعتكَ، لها مالنا من لوعة الغياب، من وجع أضلاعكَ.
هاأنَّكَ رفَعتها نجمةً خضراءَ، تدور في فلك طاووسَكَ،
انثرْ لها بياض المَجْد، وادخلها مملكة الكلد، مُدثَّرةً بنرجس الوَجْد. |