أريد أن أعلن في مساحتي الهامشية هذه عن رغبتي الملحة في إزاحة فكرة (المثقف العضوي) عن مداولات صراعنا الثقافي والاجتماعي، الملبدة بالأساطير والأفكار الشمولية، وأدعو بقوة إلى فكرة المثقف اللاعضوي (المتخلّي) عن مجاله التاريخي الذي تحوّل إلى ثقب حيوي في درع الطبيعة المعادي لفعالية العقل المفكر المكتشف أبعاد وجوده الطارئ، ولمتعة النفس الشاعرة باتساع الحدود والمجالات الإنسانية كشعورها باختلاف الليل والنهار، وانجلاء الأوهام تحت ضوء الشمس. إن (التخلّي) هو دفاع المثقف السلبي الأخير في تكتيك العمليات الدامية حول ثقوب الأخطاء التاريخية والكوارث اليومية، بل قد يكون انسحابه في هذا الوقت بالذات أنبل انسحاب من حرائق العاصمة القديمة.
التهمتْ فكرة العضوية الثقافية خيرة مفكرينا الذين تصدوا لرؤوسها الوحشية المتعددة، وفنّدت بنفسها رأي أفلاطون الذي اعتقد أن الرؤوس الجائعة، بعد أن تأكل فرائسها المقربين إليها، فالأفضل أن ندعها يفترس بعضها بعضاً، حتى نتقي عدوانها وشرورها. والأرجح أن هذه الرؤوس الأسطورية الشرهة أخذت تغذّي حيويتها من ضحايا الأيديولوجيات التي ترعاها وتقدّم القرابين استرضاء لرهبتها، وكل شيء تتناوله من ثقوب اليمين واليسار وما يتوسطهما، سيتحول إلى عصير من العظام والدماء يتقطر في محاضر المؤتمرات ومقالات الصحف وبيانات الأحزاب. لن تتوقف الماكينة الأفلاطونية هذه عن الجرش والهرس، ما دام عصير عضويتنا النتن يصب في أفواهها. إنني أصحح هنا خطأ متأصلاً في خارطة التوزيع الحيوي لقوى المجتمع والحياة، وأشير يائساً إلى الثقوب الجائعة في درع الطبيعة العراقية المهيبة، وأتضرع مخلصاً ألا تجتذب إليها مزيداً من المتخلّين، المنسحبين من معارك العاصمة (المثالية). حين تشتد المعارك حول ثقب المتخلّي (وأعمق أغواره ثقب سرطان نهري، وأوسع أبعاده قصيدة من ديوان الشيوعي الأخير) ينفتح المجال الحيوي في لغة الضحايا والمتخلّين، وقد يتسع ثقب السرطان ليغدو نفقاً يحمله من منطقة (المثال) المحروقة إلى أرض السلام والنور. قد لا تميز لغة المتخلي من غيرها من لغات الثقوب اللاغية، حتى تدرك أنها ليست فورية أو خاملة، ليست نتوءاً صوتياً أو ميكروفوناً أو شاشة أو زراً دوغماتياً، وقد لا تبتعد ذبذبتها المترادفة إلى أبعد من بوصات، فهي دون سمع الكائن المتعدد الرؤوس، وخارج قدرته على السحق والالتهام. وحين يرسلها (ثقبها) الحيوي، كرسائل من نوع غريب، دون سمعي، يكون الصمت قد صقلها ومنحها قدرة الانتقال والتصويت والاحتجاج. ولأنها تنبثق في غير أوانها، وتجري قراءتها على وفق أضدادها العضوية، يتفكك مبناها على عجل وينحرف معناها تبعاً لترادف فصول المعارك والحرائق. غالباً ما توصف لغة المتخلّي بأنها غامضة، شريدة، حالمة، ضالة، خائنة.. وقد ترجع إلى ثقبها كاسفة هضيمة، في ذبذبة مضادة لسيل الأصوات المتعالية حول ثقوب الصراع، وهذا سبيلها كي تذخر إرسالها إلى حين آخر. قد تكون فكرة (التخلّي) حلاً فردياً، وخلاصاً رومانتيكياً، إزاء فقدان الشعور بكتلة (الرأي العام) التي تخلخلت عضويتها تحت ضربات الرؤوس المستأثرة بالهرم السلطوي، ورُمّزت شعبيتها بصور متفرقة على شاشة التلفزيون. ألم تر أينما أدرت رأسك جداراً ميثولوجياً ترتسم عليه الصور المتصاعدة من الثقوب؟ لعلك انتبهت إلى شكلين متوالدين من مخلوقات أفلاطون، شكل الكائن الخرافي المتعدد الرؤوس، وشكل الهرم ذي الطبقات الذهبية والفضية والحديدية، وهما صورتان من سحر الدولة المقلوب الذي ينقل مكان الهرم من عصر إلى آخر، تحت حراسة الكائن الخرافي. وحين فرّخت مخيلة أفلاطون مئات الصور التلفزيونية، كان هرم السلطة الهليني مع حارسه قد استقرا على أرض العراق، وأزاحا عضوية الدولة الحديثة إلى أحد الثقوب، فأصبحت حقيقتنا التاريخية لا أكثر من مونتاج صوري، وسلسلة من شاشات، وصراع حول ثقوب. ما الحلّ لإزاحة هذه الأشكال الشبحية التي انتُخِبت بديلاً لأشكال عضوية كانت يوماً شعاراً ودليلاً على موقع النخبة السائرة في مقدمة الصفوف؟ سُحقت النخبة العضوية، وما يمثلها من صور انقرض بانقراض أدوات التصوير والتمثيل الشعبية. استولت شاشات الشوارع الكبيرة على إرث القوة العضوية العظمى للرأي العام، وحصلت رؤوس الكائن الخرافي على غذاء صوري غزير. إلى أين ننسحب، وأي الثقوب يقبل هذه الرؤيا؟ |