(الصورة: مشهد من البصرة - لا علاقة للصورة بالموضوع)
ضاع أثر محمد روزنامجي، لا أحد يخبرك عن المكان الذي انزوى فيه بعد تقاعده من وظيفته في دوائر الحكومة العدلية، وسمعت أنه ما زال حياً. لن تجد من يخبرك عن هذه الشخصية التي يدلّ لقبها على الوقت، وكان ديدنها أن تلعن الزمن وعبيده، فقد اختفت مع شخصيات (الجيل الضائع) في أحد الأمكنة التي حفر فيها تحت هذه التسميات (مدفن الفراغ) و(زنزانة الزمن) و(مقبرة الأيام) و(مزبلة القدر). كان حظه أن يعيش في زمن السادة والعبيد، وأن يختار شخصيات قصصه من الدرك الأسفل، قبل ان تُركن إضبارته في غرفة إحدى المحاكم ويعلوها الغبار. كانت القصص أيامئذ تنعقد على ثلاثة عناصر (أرض وبشر وزمن) فاختار روزنامجي هذا العنوان الكبير ليطبع تحته قصصه العشر المكتوبة خلال الأعوام 1949ـ 1957، ولم يزد عليها.
ولد محمد روزنامجي عام 1927 في محلة جديد حسن باشا، وبدأ الكتابة عندما كان طالباً في ثانوية التفيض عام 43ـ 1944. وبعد تخرجه في كلية الحقوق عام 1948 عمل محامياً، وشغل وظيفة كاتب ضبط في مديرية التسوية عام 1952، وكاتباً في إحدى محاكم البصرة بعد ثورة 1958، وفي المحكمة الشرعية بالكرخ بعد عام 1964، ومديراً للتحرير في ديوان وزارة العدل، عندما اكتشفه أحد محرري مجلة ألف باء في تشرين الأول عام 1974، وبعد شهور صدرت مجموعة قصصه الوحيدة عن وزارة الإعلام. وربما كانت قصة (أفكار بلا أقنعة) التي نشرتها المجلة مع الحوار آخر ظهور لبطله على مسرح كبير، يتحرك يميناً ويساراً, قبل أن ينهي خطبته بعبارة مكررة: ((بالت عليك الثعالب! بالت عليك الثعالب!)). في أثناء إقامته في البصرة اتصل بأدبائها وصحفييها (محمود عبد الوهاب ومهدي الصقر ويوسف حداد وعبد الرزاق حسين وعبد اللطيف الربيعي وعبد الزهرة الجندي) إلا أنه على عادة الموظفين الموثقين بسجلات الذمة اختفى عن عيون الرقباء والأصدقاء، وذاب مثل كسر حسابي في سجلّ الزمن ذي الجداول والحقول، ولم تفلح مؤسسات النقد الأدبي تصحيح حسابه مع تداعيات الوحدة والضجر واجترار الأفكار الوجودية حول ((البشر والزمن)) حتى غاص تماماً في الغبار المتراكم على مؤسسة الكتّاب التي حبست ((عبيد الزمن)) ولم تهمل اسماً واحداً من أصدقاء الروزنامجي المقربين والثانويين. لكنك وأنت تنقّب في ملفات المؤسسة الروزنامجية ستعثر على لقطات وجودٍ ناقصة لم تشبع فضول روزنامجي الذي سبقك إلى كتاب البشر الضائعين، وأنت تتعقب خطواته في دهاليزها المظلمة ستعود بحمل ثقيل من التداعيات والمعابثات التي نثرها وراءه. ستضطر إلى إزاحة أكداس من الجمل السود المغلفة بدلالات العجز والضياع، تشعر بثقل الألفاظ الراقدة في العتمة، تهرب من رقباء المؤسسة الحُدب الذين طال مكوثهم تحت السقوف الواطئة، ستنفض يديك وتتراجع عن بحثك. مثله مثل أدباء مرحلته المفقودين، يلزم جمع أوراق إضبارة روزنامجي الشخصية الدخول إلى المؤسسة المنقرضة بكوارث التاريخ العراقي المتعاقبة والبحث بين رفوفها عن مواد وتفاصيل لسدّ الثغرات الكثيرة في حياته. ستتعلق بأيّ شيء عارض كمرض لوزتيه المزمن ووفاة طفله بالحصبة في إحدى سنوات إقامته بالبصرة، برسائل ومقالات وأخبار منزوية في خانات صحف ذلك الزمان، بأي شيء لإعادة تركيب صورة موظف تخيله الفنان فيصل لعيبي بوجه منهك وشعر مبعثر وشارب كث وسترة مفصلة من قماش مخطط، كائن عاش في ((مدفن الفراغ)) وكتب قصصه القصيرة بين جدرانه. لو أفلحنا بتركيب صورة ذلك الكائن، ووقفنا على بواعث قصصه، ولو حصلنا على جداول أعمال شخصياته التي عبث بتفاصيلها اليومية كما يعبث مخرّب بحياته وحياة رفاقه، لرأينا مقدار السرَف السردي غير المقيد بنظام أو اتجاه أو نهاية. كان عبثه من نوع كحولي، حاد ومتقلب وغير مسبَّب برادع أخلاقي. سردُ قصصه محموم عُرف بمصطلح زمانه ((تداعياً حرّاً)) للألفاظ والصور والمعاني. سردُ سكرٍ ولعنة أعمته المطالب الجسدية، وضغط الوظيفة، وانحلال العلاقات الرفاقية, وضلّته عن سبيله الإنساني. أينما وُجد هذا السرد (عند نزار عباس مثلاً) وُجد معه ذلك الإيقاع التقريعي الشديد، وذلك التداعي الروحي المشتت. لم يكن روزنامجي يعرف إلى من يوجّه خطابه الناري، أإلى نفسه أم إلى قارئ يعرفه بالذات، أم إلى زمان البشر الذين يتخبطون معه في مدفن الفراغ؟ جاءت لحظة صدور قصصه التي جمعها، أو أغري على جمعها، فكانت هذه لحظة الانفصال عن الأرض والبشر والزمن، لحظة الضياع التي استمرت حتى اليوم. |