ليس بحثا عن الطفولة وبراءتها، بل هو بناء معماري لهما، ما يقوم به كاظم جهاد في ''معمار البراءة''، رغم ما تحمله كلمة ''معمار'' أو تحيل إليه من البعد الهندسي، لكن الشاعر قد يكون قصد البعدين العمراني والهندسي معا، باعتبار أن من طبيعة الشاعر وعمله الشعري أن يكون مهندسا أو معماريا أيضا، إلا أن عبارة ''عمارة البراءة'' تظل أقرب إلى الشعر وأكثر بعدا من الهندسة الجامدة، وهي تعبر عن العمران أيضا، لكن اختيار الشاعر لهذا العنوان يجعلنا ندخل الديوان بروحية اختياره البعدين المذكورين اللذين يقول هو نفسه إنهما ''شديدا التصادم''.
ثم إنه يؤكد في ''ديباجة'' الكتاب أن ''البراءة في عرفي.. تفترض بناء مضطردا، وأمام مشاريع العالم، السوداء في الغالب، تنشئ البراءة عمائرها..الخ''. ويقول في قصيدته ''معمار البراءة'' إن ثمة ''موسيقى تأتيه من خارج الوقت تنبئه بأن بياضه هو كل معناه/ وبأن جل ما يقدر أن يفعله هو أن يمعن في تبييض البياض''.
قراءة شعر كاظم جهاد، ليست عملية سهلة، بل هي تتطلب قدرا من الجهد والاجتهاد، هي مثل قراءة كل شعر حقيقي يحمل رسائل وجدانية وفلسفية، من دون الاستغناء عن غنائيته العذبة، فهو حمال مأساة إنسانية، مأساة تبدأ من ''روائح تمزج نارنج طفولتك'' ولا تنتهي ''بسخام مدن معبورة على عجل''. وما بين العالمين/ الزمنين ثمة طفل يمضي في دروب الحياة قائلا ''ولدتُ من خيالي الطموح''، ولكن هذا الخيال يظل يحتمي ببراءة الطفل، وكما هي العلاقة شائكة بين المعمار والبراءة، تبدو العلاقة بين الخيال والبراءة علاقة شائكة أيضا، فبينما البراءة تضبط سلوك المرء وتحدد انطلاقته يذهب الخيال إلى عوالم غير مطروقة وبلا حدود أو ضوابط.. وهذا تناقض آخر بين خيال الطفل وبراءته.
بين هذه المتناقضات تكمن هوية إنسان كان يرتدي جلدا ليس جلده، ظامئا إلى المطلق، و''يبلغ البساطة الهانئة''، وبارعا ''في تأثيث الفراغ''، وراصدا ''السقوط في الديمومة''، أو ''هزيمة النسر'' مع ''لطائف المعنى''، لكنه يبقى محميا ببراءته، وهو يتنقل بين الذاتي المحض وبين الذاتي الجمعي، بين أزمنة عدة، راصدا رومانسية مهلهلة حينا، لكنه يمتلك ''رغبة أن يعتنق الحياة مثل ديانة''.
في رحلة الشاعر هنا سرد لحياة حقيقية، من جهة، وتأمل في الحياة بصورتها المطلقة، من جهة ثانية. فثمة ''عراقيون: وسط فخاخ من الظلام''، وهنا شتات وهجرات حيث ''كان ينبغي أن يتكور القلب نفسه في شكل قارب أرياف يبحر في ظلمات الدنيا..''، وهناك ''نسوة يُخرجن للرب أثداءهن ضراعة وغضبا''، وهناك شخص ''يتحسس جدران رأسه ليتحقق من أن حجر الذاكرة لا يزال في مكانه''، وهناك أيضا ''الإيغال في الجهل العارف الذي يجوهر القلب''، وهناك شخص يهمس ''آنف من اجترار ماضيّ''.
هذا في ما يخص الجزء الأول من الكتاب، معمار وقصائد أخرى، وفي الجزء الثاني ''دراسة يد وقصائد أخرى''، يستعير الشاعر من عوالم طفولته، من خرافاتها ووقائعها، طفولة يقول إنها ''شاءت الصدفة أن تأتي سوداء كأغمق ما يكون''، لكنه يقترب أكثر من راهنه بتأملات تتلمس أسئلته الوجودية، ويظل سؤال الموت/ الحياة هو الأشد حضورا وتكثيفا للوجود، والموت هنا ليس بالضرورة أن يأخذ صورته المادية، بل هو يتخذ صورا عدة، تبدأ بحديث عن ''أنشوطة الشيخ الطفل'' و''الدهليز الضيق/ الحياة'' وعن ''الكائن المعمر الذي لم يولد قط''، وجسد ''وحده بلا ساكن أو مستأجر''، وتتكثف في صورة العدم البدئي فهو ''على عدمه ينتصر ألف مرة/ ثم من عدمه ينبعث ثانية عدمُه البدئيّ''.
كما يقارب الشاعر في هذا الجزء بعض أسئلة الكتابة بما تشكله من قضية مؤرقة، فهو يكتب عن القادمين.. من بلد الرمال، وتنظيف الروح من آثار زيارتهم، بوصف هذا التنظيف محواً هو ''من آيات الكتابة''. كما يكتب عن ''الكتابة بالأحشاء تعبير مستنفد/ سأهبه كل معناه''. وهنا يمتزج الشاعر والإنسان في كيان واحد. وحتى في ما يتعلق بالصورة والرؤية إليها، فهو يريد ''صورة.. لا خلابة فيها ولا إبهام.. بهية معتدلة وطبيعية وحيية وجارحة وعذبة..''. إنه فهمه للفن وعلاقته بالحياة.
وفي محاولة لبناء المشهد، تأتي المعاني نفسها تقريبا ويتم الحفر في داخلها وتعميقها، ولكن في صيغ وصور مختلفة في كل مرة، الطفل نفسه متعدد الوجوه والملامح، محاطا بذلك الواقع المأسوي من جانب، وبالشقاوة والخرافات والبحث عن المدهش من جانب آخر، وهذا العالم هو الأشد تأثيرا في حياة الطفل، ففي عالم الفلاحين والصيادين والبيوت البسيطة المفتوحة على مصراعيها، وجد الطفل عالمه الشرس إلى جوار عالمه البريء. عالم يكون فيه ''الركض وراء الخنزير البري'' يعادل ''الجري وراء قوة غاشمة وتطويع الخوف''.
وهناك العالم المدهش حد الحضور الكثيف لـ''خرافات الطفل والموت''، وعالم ''مقبرة القرية/ (حيث) يعقد الفتية مهرجانهم الربيعي''، وثمة ''فتاة مسكونة بأوجاع جنسها'' وصبي يعتبر ''المفاجأة شرط وجوده: عندما لا يبقى ما يدهشه/ يشعر بشيخوخة ثقيلة/ تنشر على كتفيه معطفها الأسود''.
تجربة تتسع للأحلام والكوابيس، فترسم ملامح شخصية وأبرز معالم حياتها، في قصيدة تختلف في بنائها وصورها ومعانيها، وتتطلب قراءتها المزيد من التركيز على رموزها ودلالاتها. |