"كلما أشاروا هنا قلتُ هناك" شخصيات مستوحدة تستجلي شعرية التراجيديا
عندما أصدرت سهام جبار ديوانها الاول"الشاعرة " كتبت عنه مقالا في مجلة (افاق عربية) كان في موضوعه أقرب الى العرض منه الي النقد، وكان عنوان المقال (الشاعرة هنا المرأة هناك) وفيه أشرت الى ان الشاعرة تخرج من التاريخ لتكتب وتقدم رؤيتها الفلسفية الخاصة عن المرأة خارج مفهوم الانوثة بالمعني السالب للكلمة. ديوانها الجديد (قديما مثل هيباشيا) يتجه ايضاً الى خارج التاريخ و لا يبتعد كثيراًعن هذا المنحى، لانه لا يكتب عن الظواهر التي تتلاشى بقدر الكتابة عن الطبيعة نفسها والتي يقول عنها ايفان تورجينيف انها نادرا ما تجيبك بكلمات مفهومة عندما تطرق على بابها. ولكن الشاعرة اذ تتدارس الوجود بالشعر، تقترب من الواقع أكثر هذه المرة وتضع قدميها، على خط الاستواء حتى وهي تنظر شمالا وهذا هو مايميز برأينا الادب الذي يجمع بين الجمالي والتقدمي، وهو ايضاً ما نراه في تجربتها الشعرية الجديدة التي اختارت لها شخصية تاريخية هي (هيباشيا) تقول عنها المصادر والمراجع انها عالمة ومفكرة من الاسكندرية، و تصفها دائرة المعارف البريطانية بأنها فيلسوفة مصرية وهي المرأة الاولى التي لمعت في ميدان الرياضيات واجتمعت لها الفصاحة والتواضع والجمال مع قدراتها العقلية الممتازة وكانت تلقي محاضراتها في المتحف او في المكتبة فيهرع الناس الى سماعها والتزود من علمها وجاءت النهاية المأساوية لهذه الفيلسوفة الجميلة نتيجة ان المسيحيين الاوائل كانوا ينظرون الى هيباشيا علي انها تجسد العلم والثقافة والفلسفة الوثنية مما جعل الثائرون يعترضون عربتها ويوقفونها ثم ينهالون عليها طعناً الى أن ماتت الفتاة التي عاشت للفكر وحده، بعد أن رفضت الزواج وترهبنت في محراب الفلسفة. وفي القصيدة التي تحمل عنوان الديوان (قديما مثل هيباشيا) تقول الشاعرة: "قديما مثل هيباشيا/ ليست يداي سوى يديك/ وفمك شفة مثل شفتي/ وأنت بعض ظلامي وليس يكفي غير الظلام ليكتمل/ عرش مستوحدة". ان هذه الشخصية التراجيدية المستوحدة، شأنها شأن الشخصيات التي ستتميزفي التاريخ كونها خرجت من تاريخ النساء المألوف بمعناه الجسدي المحض، ستواجه الكثير من التحديات وقد تنتهي الى مصائر معنوية مشابهة لمصير هيباشيا، مما يجعل هذه المعاناة أزلية لوجود انساني رفيع لا يجد سقفاً يحميه على الارض فينفي او يغترب أو يلجأ الى حماية نفسه بوسائل تقدمية يكون الادب والفن منها، أو بوسائل رجعية قد تتناقض مع ما يؤمن به من افكار او ما يتمتع به من وعي، وهذا ما يحدث للمرأة المثقفة في كل زمان ومكان، فكيف وقد اصبحت بعد الاحتلال واقعة بين سندان العنف ومطرقة المجتمع الذي تقهقر عقوداً الى الوراء حيث نقرأ من قصيدتها (الأماكن): "أنا التي لم تنفجر عند كل محو/ أنا التي أتبقى على الاشجار/ مضللة ثمرَ التطلع/ كلما أشاروا هنا قلت هناك".
باب العراق وفي مقطع اخر تحت عنوان (قصائد) تقول الشاعرة: "عالقةً بالشطب تغني/ سأمحو التلال التي لن أرتقي/ ملبّدةً بغيم سقطاتِها/ ولا نهايةَ لهذا التوحّش/ ولأسنان الأسف التي تعضّ بالحفرة/ التي اسمها الوطن". و اذا كانت مفارقة هيباشيا هي التراجيديا الفردانية للخروج من التاريخ، فثمة تراجيديات جماعية اخرى تتقدم الصورة عندما تدخل الشاعرة الى تاريخ بانورامي من الدماء والنذور وحروب السفاحين وشواهد القبور حيث لا يتبقى للروح، بعد ان تقطعت بها الطرائق ونفذت القوة وبلغ السيل الزبى غير أن تطرق على كل الابواب باب العراق و باب الحياة و باب الله وأن تنظر الى مسيرة الاجيال التي انسلخت أعمارها بين يعيش ويسقط وبين الحضارات وعقائد الحروب والاصابع المحناة التي تطرق على الابواب: "يا باب هذا العراق/ وقد غسل الكافور ثوبي/ واستحم بجرحي/ في التوابيت ملتفة النخيل/ يذهب التراب بنفسه ويعود/ وأذهب وأعود/ من مآذن الى حفر". في قصيدة (أبدٌ مصغ) والتي تكتبها الشاعرة رداً على الاطلاقة الطائشة التي أصابتها وهي في طريقها الى البيت عندما كانت في العراق، تضعنا سهام جبار أمام معادلة تضع الموت على طرفيها لأن الامر أصبح هكذا: أن تموت او لا تموت تلك هي المسألة. ولكنها تقاوم ذلك وتقول: "أمحو انهمال جسدي بالتيمم بالكتابة/ أرد عن دجلة صيفه المضيع اللبن/ يا لبن الأبد تمسّحْ بشفاهي وارتع بقلبي ربما ألهج بصنعك حياً/ أركض بالحزم المشتعلة/ وأعيش أعيش أعيش/ وتلك هي المسألة".
الصمت والحرية ان سهام جبار تدرك في تجربتها الشعرية الجديدة ان القصيدة لا تحتمل أن تكون حقلاً للدرس الفلسفي فقط، فلهذا نراها تتجه الى مشاركة القارئ لنصها مشاركة قد تجعله كاتباً للنص مادام يشاطرها التجربة العراقية التي عمت على الجميع، وكما يقول زولا ان الفنان موجود لكي يعيش بصوت عال وهذا ما حدث في قصائد تصل بسلاسة وسلام الي المتلقي مثل (أماكن) و (مجالسة) و (تجوال) و(برق يترنح) و (هذه الطبائع) و (ها تختبئ) و(نشر) التي تبدأ بصورة جميلة: أنا أقرأ وانت تضحك/ فعلى الجانبين/ مدينتان/ الصمت والحرية/ الموت والولادات/ هل أنت صبي وحكمتي تدغدغك". ان الشاعر أو الفنان عموماً هو الفاني الرائي الذي يعيش صراع فكرتين تتنازعانه هما الحياة والاستخفاف بها، ومن هذا الصراع تولد أمجاد المبدع الذي يمعن في التأمل والتفكر في المكان ولكن هذا لا يمنعه قط عن الاحتفال بالحياة والانتصار لجمالها في مكان اخر، بل هو أكثر الناس حبا بالحياة وتعلقا بأوهامها عندما يجد الجد، وسهام جبار تستعمل العنوان الجميل لديوانها الاول (الشاعرة) لقصيدة من هذا الديوان تقول فيها: "مجدها السحائب/ والعلل الخيالية/ والفلك الغائص باللؤلؤة". فما أشد تعلق الشاعر بهذه الاحلام حتي عندما يكون الغياب هو سيد الموقف والاوجاع تقف بالمرصاد على الباب حيث ترعي الشاعرة أغنام كتاب الموت، فهل ثمة من سحائب ويقين بوجودها وهي التي تقول في قصيدتها (الأماكن): "سأكتب اني قرأتُ فأزددتُ عمى". |