باريس – أنطوان جوكي
ثمّة مثالٌ لبناني يقول: «أعطِ خبزك للخبّاز وإن أكل نصفه». ولكن مع الأسف بعض الصحافيين العرب لا يعملون بهذا المثال بل نجدهم يتعدّون غالباً على «كار» (مهنة) غيرهم وينصبون أنفسهم متخصصين في مجالاتٍ لا كفاءة لهم فيها على الإطلاق. وما يدفعنا إلى خوض هذا الموضوع هو المقالات التي قرأناها هنا وهناك عن ترجمة شاكر لعيبي الصادرة حديثاً للقصائد التي كتبها الشاعر الألماني الكبير راينر ماريا ريلكه بالفرنسية (دار «المدى»)، مقالاتٍ مدحت هذه الترجمة إلى حد جعلتنا نسرع إلى البحث عن نسخة من هذا الكتاب وكل ظنّنا أن لعيبي قام بجهدٍ «لا سابق له» (وفقاً لأحد هؤلاء الصحافيين) يوفّر لنا إمكان قراءة أحد أهم شعراء العالم بلغتنا العربية. وإذا بنا نقع على ترجمة ضعيفة تعجّ بالملابسات والأخطاء التي تتجلى لأي قارئ متمكِّن من اللغتين ما إن يقوم بمقارنة النص العربي بالنص الأصليّ.
تبدأ الملاحظات على هذا الكتاب بترجمة عنوانه. فالفرنسيّون سموّا هذه القصائد، لدى نشرها (دار «غاليمار»، سلسلة «لابلياد»): Poèmes français، أي «قصائد فرنسيّة»، وهي تسمية تسمح للقارئ بالتمييز بين هذه القصائد وأشعار ريلكه بلغته الأصليّة، أي الألمانيّة. أما تسمية لعيبي لها: «الأعمال الشعرية الكاملة المكتوبة بالفرنسية مباشرةً» فينمّ عن عدم دراية لا بفنّ العنونة وحده بل بالعلوّ الأدائيّ للعبارة العربية. وهذا الافتقار نجد له شواهد كثيرة في مواضع أخرى. فالمترجم يقترح لإحدى المجموعات المتضّمنة في الكتاب عنوان «تتمّات مختصرة» كمقابل لـ «Suites brèves»، في حين أن المفردة suites تدلّ على العمل المتسلسل، سواء في الشعر، فهي «حلقات» أو «سلاسل» شعريّة، أو في الموسيقى، فهي تنويعات استطراديّة على مقام بذاته. وفي الصفحة 309 من الترجمة نقرأ «بالونات الصابون»، بينما الأمر يتعلّق ببساطة بـ «فقاعات صابون». وفي الصفحة 261، يكتب «الطرف المدبّب» مقابلpointe ، بدل «السّنان» أو «رأس الرّمح». وفي الصفحة 121، يترجم «gong» إلى «ناقوس تنبيه» بدل «صنج». وفي الصفحة 124 يكتب «القدّيسات ماريا»، وبسذاجة ينبّه القارئ في حاشية: «بالجمع في الأصل، وليس القديسة ماريا»، وكان يمكنه أن يعود إلى صيغة الجمع الإنجيليّة «المريَمات»، والعرب تجمع أسماء الأعلام كما في «عبادلة» و «فاطمات».
أمّا عن الأخطاء في ترجمة الأبيات، فلضيق المجال نقتطف من ترجمة لعيبي لقصيدتين اثنتين شواهد تدلّ على الرّوح السائدة في مجموع عمله. هنا أبيات من سلسلة مقطوعات عنوانها «الأكاذيب»، يكرّسها ريلكه لفحص ظاهرة الكذب من وجهة نظر شعريّة وفلسفيّة، علماً بأنّ الأكاذيب ترمز لديه إلى زخارف العمل الفنيّ وإغراءاته، وهو ما كان يقلقه كثيراً. نقرأ في الصفحة 1157 من طبعة «لا بلاياد»La Pléiade الفرنسيّة لآثار ريلكه الشعريّة والمسرحيّة:
«Masque? Non. Tu es plus plein, / mensonge, tu as des yeux sonores».
وفي الصفحة 137 من الترجمة، تقرأ: «قناع (واحد)؟ كلاّ. ما أكثرها عندك/ الأكذوبة، لديك عشر عيون صوتيّة». جملة أخطاء. يبدأ ريلكه مخاطبة الأكذوبة في سؤال استنكاريّ مفاده: «هل أنتِ قناع؟»، ويتقدّم بإجابة إضماريّة: «بل أنت أكثر امتلاءً»، والمقصود: «بل أنتِ أكثر امتلاءً من أن تكوني مجرّد قناع». لعيبي ترجم النصف الثاني من البيت بمعنى أنّ للأكذوبة أقنعة عديدة. وغالباً ما تلتبس الدلالات على المتدرّبين أو المتسرّعين في الترجمة بباعث من تشابه المفردات. هكذا كتبَ المترجم: «عشر عيون صوتيّة» بدل «عيون صوتيّة» وكفى، لأّنه خلط بين «dix» (عشرة) و «des» (أداة تنكير الجمع، وهي التي وضعها الشاعر). وعلى «عيون صوتيّة» كنّا سنفضّل القول «عيون صائتة» أو «ذات رنين». ثمّ إنّ المترجم وضع في العبارة مفردة «الأكذوبة» بصورة لا تجعلنا نتبيّن عملها فيها، وفي الحقيقة هي هنا المنادى، والأخير لا يحتاج في الفرنسيّة دائماً إلى أداة النداء. فالصيغة الصّحيحة هي: «لكِ يا أكذوبة عيون لها رنين».
وبين التباسات عديدة في ترجمة بقيّة القصيدة نذكر البيتين (صفحة 1157 من لابلاياد):
«Puisque c’est nous qui te faisons,/ il faut croire que Dieu te consume».
وهو ما يصوغه المترجم (صفحة 138) كالتالي: «طالما نحن من يستخدمك/ فاللّه إذاً أنجزك». كتب الشاعر، مخاطباً الأكذوبة ومتحدّثاً باسم البشر: «طالما نحن من يصنعك/ فينبغي الاعتقاد بأنّ اللّه هو مَن يمحقك». إنّ الفعل «faire ، الذي يفيد الصنع والاجتراح، صار لدى المترجم «استخداماً». والفعل «consumer» الذي يفيد «الحرق» و «المحق» و «الإفناء» صار لديه «إنجازاً». الشاعر ييأس من أن تزول الأكاذيب، صنيعة البشر، إلاّ على يد الخالق، والمترجم يجعل من البشر مستخدميها لا غير، ومن الخالق صانعها. بدورها، قصيدة «إيروس» (ولا ندري لماذا يكتب المترجم دائماً الاسم الأخير بالهمزة المفتوحة) بمقطوعاتها العديدة (صفحة 225 وما يليها من الترجمة) تقدّم بدورها أنموذجاً باهراً لترجمة يُقام بها كيفما اتّفق. تصوّر القصيدة إله الرّغبة العاشقة في الميثولوجيا اليونانيّة هذا كائناً متطلّباً يُلزم باستقباله في إطار باذخ وحيويّ. نقرأ في المقطوعة الثانية:
«Entrant en nous avec son grand cortège/ il y veut tout illuminé».
أي: «داخلاً في (مجالنا) بموكبه الكبير/ يريد فيه كلّ شيء منوَّراً». ويترجمها لعيبي إلى: «داخلاً فينا بموكبه الكبير/ ساعياً للوسوسة في كلّ شيء». تدلّ الصفة «illuminé» على ما هو مغموس بالنور ومتّسم بالإشراق. فمن أين فكرة «الوسوسة» هذه؟ ربّما انخدع المترجم بوجود تيّار أدبيّ في القرن التّاسع عشر كان أفراده يُدعون «les Illuminés»، أي «الإشراقيّون» وكانوا يُتَّهمون بالجنون لانشغالهم بالمعتقدات الباطنيّة. من هنا صارت المفردة تُطلَق على كلّ مَن عقله ممسوس وموسوَس، ولكنّ هذا لا علاقة له ببيت ريلكه الذي يأخذ بالكلمة في معناها الاعتياديّ المرتبط بالنّور. وفي المقطوعة الثالثة، يشير الشاعر إلى « son antique bouche mutilée»، أي فمه (فم إيروس) «الهرِم المشوَّه». فالصفة بحسب السياق، تشير إلى الهرِم والعتيق والقديم، ومنها جاء الاسم Antiquitéالذي يدلّ على العصور القديمة. يترجم لعيبي إلى: «فمه الأنتيكيّ المشوَّه» كأّنّنا أمام صفة نسبة إلى بلد، «المكسيكيّ» مثلاً، أو إلى شعب، «الأزتيكيّ» مثلاً. لو قرأنا عن العراق القديم l’Irak antique ، فهل نترجم إلى «العراق الأنتيكيّ»؟ في المقطع نفسه نقرأ:
«… sa ruse/ qui doucement le berce et l’endort».
أي: «... حيلته/ التي تهدهده وتنيمه». ويترجم لعيبي إلى: «حيَله التي تخترقه وتنيمه». واضح أنّ المترجم خلط بين الفعلين «percer» (يخترق، يثقب) و «bercer» (يهدهد). مثل أخطاء النظر هذه تحدث أحياناً عند المترجمين المبتدئين. ولكنّها هنا متكرّرة. وتعظم إساءات الفهم في مقطع آخر:
«Toi, qui indifférent et superbe,/ humilies la bouche et exaltes le verbe…».
التي يترجمها لعيبي على النحو الآتي: «... أنت يا لا مبالياً ويا رائعاً / تذلّ الفم وتفخّم الفعل (رافعاً إيّاه)...». صفة «رائع» في غير محلّها لأنّ المفردة «superbe» تشير هنا إلى التّيه والعُجب والكبرياء والغطرسة، وليس قيام الشاعر بجمعها مع صفة «اللاّمبالاة» اعتباطيّاً. وعبارة «تفخيم الفعل» لا معنى لها هي الأخرى، لأنّ المفردة «verbe» تدلّ في لغة النّحو أو قواعد اللّغة على «الفعل»، وتدلّ خارج القاموس النحويّ على «الكلمة». هذا ما يعرفه الجميع، فعبارة «سفْر التكوين»: «في البدء كانت الكلمة» هي في الفرنسيّة: «Au commencement était le verbe». هنا أيضاً، الأولويّة يعْقدها إيروس للكلمة (الكلام الشعريّ) على المتكلّمين. النشيد قبل المُنشِد. «ترجمة» هذا المقطع وحدها تبيّن غربة المترجم عن الفرنسيّة، وعن فرنسيّة ريلكه، على أكثر من صعيد.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى ترجمة كاظم جهاد الرصينة لجميع قصائد ريلكه الفرنسية (دار «الجمل») والتي اعتبرها أحد الصحافيين مجرّد مختارات فقط لأن لعيبي تناول في ترجمته قصائد الشاعر المبتورة التي بقيت على شكل مسوّدات ومحاولات عزف عن إكمالها. والحقيقة هي أن جهاد، كما أشار في مقدّمته، اعتمد طبعة آثار ريلكه الشعريّة في سلسلة لابلاياد الشهيرة الصّادرة عن دار «غاليمار». وبأخذه بالعمل المكتمل الناضج وبإهماله المسوّدات التي لم ينقّحها الشاعر، احترم جهاد إرادة ريلكه وعمله الشعريّ، وهو ما لم يفعله لعيبي الذي فضّل العزف على وتر الكمّ وجاءت النتيجة سلبية.
أهكذا يفهم الناقد تعريب قصائد ريلكه الفرنسية؟
شاكر لعيبي
في مقدمتي لترجمة أعمال ريلكه المكتوبة بالفرنسية (دار المدى 2008) نبّهتْ بوضوح إلى وجود قرّاء من طراز الناقد أنطوان جوكي الذي نقب تنقيباً في الـ (477) صفحة التي ترجمتها لأعمال ريلكه الفرنسية، ولم يجد سوى بضع كلمات مشكوك بأمرها وبيت أو اثنين شعريين يمكن أن نقول عنهما كلمة أخرى مُغايرة. يتعلق الأمر هنا بالردّ على مقالة الناقد أنطون جوكي المنشورة في الصفحة الثقافية في جريدة «الحياة» (13-7-2008) بعنوان: «شاكر لعيبي أعاد ترجمتها ... أهكذا تعرّب قصائد ريلكه الفرنسية؟». في البدء أقول إنني لم «أعِدْ ترجمتها» بل أنني كنت أشتغل عليها منذ عام 1999 وربما قبل ذلك، وأنني نشرت مقاطع منها، قبل صدور أي ترجمة أخرى، في «الحياة» » و «السفير» و «المدى» وموقع «كيكا»، وكلها موثقة.
يعلن جوكي منذ بداية مقالته سوء طويته، فيدرجني في خانة الصحافيين الذين أحترم مهنتهم - ولست منهم - وينفيني عن الحقل الشعري الذي كرست له حياتي. كما يجعل معرفة الفرنسية حكراً له ومن يعيشون معه من أصحابه في باريس فحسب، جاهلاً أنني أمضيت 25 سنة من حياتي في مدينة ناطقة بالفرنسية، جنيف، وأنني أنجزت دراساتي العليا كلها فيها. سأبقى في بعض الملاحظات التي أوردها مجتهداً أن أكون أقل عصبية من توتر كلمته المشحونة بالغيظ. نحن، من دون لبس، أمام الأعمال الشعرية الكاملة التي كتبها ريلكه بلغةٍ ليست لغته الأم وهو ما يشير إليه مترجموه إلى اللغات الأوروبية الأخرى.
وسواءً وضعت منشورات «البلياد» الباريسية عليها عبارة «قصائد فرنسية» Poèmes français أم لم تضع فإن الأمر لا يغير شيئاً من حقيقة أن ما ترجمناه هو الأعمال الكاملة التي كتبها الشاعر الألماني باللغة الفرنسية، كما أن الملاحظة تستهدف تنبيه القارئ وتذكيره، بوضوح شديد، بأن ما نترجمه لا يتعلق من قريب أو بعيد بنصوصه الألمانية. إن عقدة «البلياد» ليست عقدتنا وهي ليست، مثلها مثل كتاب سوزان برنار فناراً مقدساً علينا الخضوع لمناطقه. أما زعم انطوان جوكي بأن عنواناً مثل عنواننا: «ينمّ عن عدم دراية لا بفنّ العنونة وحده بل بالعلوّ الأدائيّ للعبارة العربية»، فإننا نتركه لذائقة أو حكم قارئ منصف أكثر علواً وأقل جوراً من جوكي، وهو دليل إضافي على سوء طويته الأصلية. يذكر المعلق في شأن مجموعة ريلكه «تتمات مختصرة» Suites brèves، أن المفردة suites تدلّ على العمل المتسلسل، سواء في الشعر، فهي «حلقات» أو «سلاسل» شعريّة، أو في الموسيقى، فهي تنويعات استطراديّة على مقام بذاته. كيف توصل جوكي إلى ذلك، بخاصة الى الاستنتاج الفذ بأن الشاعر يقصد التنويعات على مقام غنائيّ محدد؟. لو أن جوكي راجع قاموساً فرنسياً مثل لاروس أو «روبير الصغير» لوجد أن المفردة تحتمل، على الأقل في السياق الذي يورده ريلكه، أكثر من تأويل. لنبقَ في القاموس، أنها تعني أيضاً الحشم والحاشية، والتكملة، والطاقم، وفي الموسيقى مجاميع راقصة، وهي تعني نتيجة أو مآلاً، وفي المنهل يُذكر أنها تعني مطاردة الطير، وتعاقب السنين، لكنها تنصب على فكرة التتالي والتعاقب والمآل لا غير. لو أن الشاعر أراد فكرة التنويع على مقام محدّد لاختار مفردة اصطلاحية أخرى دقيقة وهو ما لم يفعل، خصوصاً أن المفردة (Suites) لا ترد في المعنى الموسيقي إلا بالمفرد بالقول مثلاً (Suite pour orchestre) ثم رقم السمفونية أو القطعة، وهذا المعنى لا يخرج عن أطار التتمة بحال. يقول إن المفردة (pointe) تعني سنان أو رمح في البيت: «إنها العذوبة من يخترقهم / بطرفها المدبب الأسمى». وبالفرنسية البيتان هما:
C'est la douceur qui les perce- De sa pointe suprême
وهذا جهل مطبق لدى أنطوان جوكي. لأن كلمة (pointe) تعني حدّ الشيء وطرفه فقط، لذا قد تعني مسماراً دقيقاً، ولا تعني سيفاً إلا عند القول كما هو في القواميس: (A la pointe de l'épée) وليس رمحاً إلا عند التصريح بالعبارة: (pointe de la lance) ومن الواضح تماماً أن المفردة الفرنسية (lance) هي السنان أو الرمح، وهو ما لا ينبغي أن يجهله ناقد مثل أنطوان جوكي محكوم دائماً بسوء النية الزائد عن الحد.
يقول جوكي إننا نترجم «gong» إلى «ناقوس تنبيه» بدل «صنج». ما هو يا ترى الفارق الدلالي الجذري بين المفردتين؟ يتعلق الأمر بخيار جمالي، تدعمه طبيعة الإحالة والمناخ الروحي الذي تحيل إليه كلمة (صنج) التراثية التي ليست من صلب عمل ريلكه ومناخ نصه الكنائسي غالباً، المقصود عن وعي دائماً. ثم يكتب جوكي إننا في الصفحة 124 نكتب «القدّيسات ماريا»، ويضيف بأننا «ننبه القارئ بسذاجة في حاشية: «بالجمع في الأصل، وليس القديسة ماريا»، ويقترح علينا الصيغة الإنجيليّة «المريَمات»، وفي الحقيقة سنعطيه هنا بعض الحق في شأن صيغة المريميات التي استخدمتها في نصي في مجموعتي الأخيرة «عزلة الحمل في برجه»، لكننا نجد أنفسنا أمام النص الريلكوي أمام خيارات عليها أن تكون أكثر جرأة لتقريب روحه وليس الاكتفاء ببدائل جاهزة.
وهذا التأويل من طبيعة ترجمتنا لفقاقيع الصابون «ببالونات الصابون» التي لا أظن أن ناقداً مثل جوكي سيقول إن لا أحد سواه يعرف الفارق الدقيق بينهما. إنه خيار جمالي شخصي آخر، لن يمنع أحدٌ المترجمَ الحقّ به. ثم يقدم جوكي درساً فلسفياً وشعرياً زائفاً عن الأكذوبة والأكاذيب، في حين أن الأمر لا يتعلق إلا بالمفردة الفرنسية (mensonge = أكذوبة) عارية لا غير، وليس إلى زخارف العمل الفنيّ وإغراءاته، كما يزعم جوكي. وهناك العديد من القصائد التي تتحدث عن الأكذوبة هذه في صيغتها الأولية الفطرية بل الإنسانية التي لا علاقة لها بغوايات العمل الفني البتة. ولولا ضيق المجال لأوردنا الدلائل الواضحة على ذلك من شعر ريلكه الفرنسي. في حين أن إضافة الرقم عشرة هي صيغة عربية للمبالغة التي يريدها ريلكه، كأن نقول مثلاً «له ألف ذراع» أو لديه «عشر عيون». يريد الشاعر صيغة من هذا القبيل ولا يتعلق الأمر بعدم التفريق بين الـ (dix) و(des) التي يود جوكي إلصاقها بنا بضميرٍ قليل المؤونة. ثم إن جوكي يفضل القول «عيون صائتة» أو «ذات رنين». لا بأس بذلك ونمنحه هذا الحق عن طيبة خاطر. إن كل الفقرة التي يناقش بها البيتين الشعريين:
أما بالنسبة الى مناقشته للصفة (illuminé) فمن الواضح أن أنطوان جوكي لم يتأمل ملياً الموضوع الذي يعالجه الشاعر في هذا المقطع بالذات من قصيدته (إيروس): أنه يعالج، في الغالب، «الفالوس»، وتدور القصيدة كلها حوله بطريقة ذكية لمّاحة وشاعرية، لذا لا مجال للحديث عن «النور» و «الإشراق» في سياق هذه الصفة. لو أراد النور ببساطة، لاستخدم صفة أخرى وما أكثرها في الفرنسية من تلك التي لن تُوقِع أدنى التغييرات الدلالية في النص. ها هو النص كاملاً أمام باصرتَيْ كل ذي بصيرة: «إيروس 11: آه لنجتهد بإخفاء وجهه/ ذي الحركة الزائغة والصدفوية/ لنبعده إلى أعماق العصور/ من أجل ترويض ناره الجموحة/ يقترب منا كثيراً لكي يفرقنا/عن المحبوب الذي يستعمله/ يريد أن نمسّـ [ـه هذا] البربري/ الذي لامَسَتْهُ في الصحراء الفهودُ/ داخلاً فينا بموكبه الكبير/ ساعياً للوسوسة في كل شيء - Entrant en nous avec son grand cortège/ il y veut tout illuminé/ بعد أن أنقذ نفسه مما يشبه الفخ/ من دون أن يبتلع طُعْماً». من الواضح جداً أن الصفة (illuminé) تفيد في هذا السياق المحدّد الوَسْوَسة أو الإشراق بمعنى الوسوسة. هذا السياق ضروري جداً لخيارات المترجم والشاعر كليهما كما نعرف. أما عن أبقائنا للمفردة «أنتيكي» (antique) مثلما هي بالضبط، فلأن لدينا وجهة نظر في شأنها قلناها في أكثر من محاضرة ومقالة ممّا لم يطلع عليها جوكي، آخرها كتابنا الموجود الآن في مكاتب دار الريس في بيروت،
تمتلئ مقالة جوكي بتعابير لا تليق بقارئ لشعر رفيع وروحاني مثل شعر ريلكه، مثل: «ترجمة ضعيفة تعجّ بالملابسات والأخطاء التي تتجلى لأي قارئ متمكِّن من اللغتين». هنا يتهمنا بعدم معرفة اللغة العربية بضربة واحدة! أو: «عدم دراية لا بفنّ العنونة وحده بل بالعلوّ الأدائيّ للعبارة العربية» و «بسذاجة ينبّه القارئ...» و «غالباً ما تلتبس الدلالات على المتدرّبين أو المتسرّعين في الترجمة بباعث من تشابه المفردات»، و «أنموذج باهر لترجمة يُقام بها كيفما اتّفق» وربّما انخدع المترجم بوجود تيّار أدبيّ في القرن التّاسع عشر كان أفراده يُدعون «les Illuminés»، أي «الإشراقيّون»، «مثل أخطاء النظر هذه تحدث أحياناً عند المترجمين المبتدئين. ولكنّها هنا متكرّرة. وتعظم إساءات الفهم في مقطع آخر...»، «ليس قيام الشاعر بجمعها مع صفة «اللاّمبالاة»... اعتباطيّاً وغيرها من التعابير التي تدلّ وحدها على غيظ وأفكار. إن الظن بأن الترجمة من الفرنسية حكر على بعض الأوساط هي نوع من الرهاب، بل من الإرهاب الثقافي الذي لن يُخضِع أحداً.
سأكتفي بهذا القدر من مناقشتي للقليل المتبقى من مقالة أنطوان جوكي بخاصة عن أدوات النداء، لأنني أجدها من البؤس بمكان معترفاً بخطأ واحد أشار إلي به. وألاحظ عرضاً بأنه يمتدح ترجمة أخرى صدرت للأعمال نفسها قبل أشهر. هل تستهدف مقالته عني في «الحياة» الترويج لتلك الترجمة؟ عيب. ليقرأ القرّاء الترجمتين وليُقارَن بينهما وسأرضى بحكمهم على أريحية تنقص جوكي وجوقته. شعرت بالأسى البالغ والشفقة على جوكي وبعض أصحابه الذين يمتلكون عن أنفسهم تصورات فائقة للعادة لا وجود لها في الواقع.
(تونس 13-7-2008)