مثلما حفرت الرواية الروسية أثراً عميقاً في الرواية العربية خصوصاً، وفي الأدب العربي عموماً، فإن القراء والمبدعين العرب بدأوا منذ الستينات والسبعينات التعرف إلى الشعر الروسي، فكان بوشكين وماياكوفسكي ويسينين وآنا أخماتوفا ورسول حمزاتوف أسماء تعني الكثير في هذا الشعر، فقد كان هؤلاء وسواهم يمثلون تجارب مهمة في الشعر العالمي، لذا فقد تركوا حضوراً مميزاً في الكثير من أهم تجارب الشعر العربي. وكان الشاعر حسب الشيخ جعفر من أبرز من قدم ترجمة عربية لنماذج مهمة من هذا الشعر عن الروسية مباشرة، وقد صدرت تلك الترجمات متفرقة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
واليوم، وتلك الترجمات تجتمع للمرة الأولى في مجلد ضخم يزيد عن 800 صفحة، ضمن منشورات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، والمجلد يضم ''مختارات'' من ترجمات للشعراء الكبار بدءاً من بوشكين وألكسندر بلوك وسيرجي يسينين ومايكوفسكي وآنا أخماتوفا وانتهاء برسول حمزاتوف، هذا الموضوع يمكن أن يعد حدثاً ثقافياً مهماً يطرح أسئلة الشعر الروسي في القرنين الذهبي والفضي له، حيث شهد القرنان التاسع عشر والعشرون عمالقة هذا الشعر ومنهم هؤلاء الشعراء.
هذا الحدث الثقافي يتطلب الوقوف عند عوالمه لمعرفة ملامحه، خصوصاً أن جهد حسب الشيخ جعفر لم يقتصر على ترجمة الشعر، بل قدم لكل شاعر بدراسة وافية ترسم صورة زمنه ومعالم شخصيته من حيث حياته وشعره، الأمر الذي يجعلنا أمام جهد كبير لم يسبق إليه أحد. وهو يقدم ترجمات لمن أحبهم من الشعراء، لذا فهو يقدمها عبر لغته الشعرية العالية، وعبر إلمامه ومعرفته المعمقة بمناخات هؤلاء الشعراء وفضاءاتهم المتنوعة ولكن التي تنطوي على مشتركات كثيرة. ولا يسع هذه القراءة بالطبع الوقوف على كل هؤلاء الشعراء الذين يحتاج كل منهم إلى قراءات مطولة، وحسبنا هنا أن نتوقف عند محطات أساسية من هذه المختارات.
وإذا كنت قد كتبت في بداية هذا المقال عن أثر الشعر الروسي في الشعراء العرب، فقد كان يجب أن أتوقف قبل ذلك عند تأثر عدد من الشعراء الروس بالموروث العربي (القرآن وألف ليلة وليلة وقصة ليلة القدر وسواها من هذا الموروث)، فظهر هذا في شعرهم على نحو واضح كما أظهرت الكثير من الدراسات التي تناولت هذه القضية.
نتوقف هنا عند هذه المختارات لنرصد -من خلال الدراسات وبعض النماذج الشعرية- أهم ملامحها ومعالمها، ابتداء من رومانسية بوشكين وقروية يسينين وصولاً إلى ما يميز تجربة حمزاتوف ذات الحس الشعبي المغرق في جبليته، وما بينهما من رمزية ميزت عمل عدد من الشعراء.
بؤشكين الثورة الشعرية
منذ بوشكين كان الشعر الروسي على موعد مع ثورة تجديدية تتجاوز التقاليد البالية لهذا الشعر، كما يفيدنا الشاعر المترجم حسب الشيخ جعفر، شاعرنا الذي استوعب التجربة الروسية بتفاصيلها الثقافية عموماً والشعرية خصوصاً، فقد عاش فترة ازدهار هذه الثقافة منذ الستينات، وشهد صعود موجة جديدة من الشعر والرواية، كما شهد ازدهار فن الباليه من خلال فرقة البولشوي وغيرها، لذلك فهو يترجم مستوعباص تراثاً ثقافياً غنياً يفيد منه في ترجماته ودراساته.
وفي سياق تقديمه لبوشكين يرى الشيخ جعفر أنه ''حين بدأ بوشكين أولى خطواته الشعرية في الطريق الأدبي، ناشراً بضع قصائد عام ،1815 كان الأدب الروسي لما يزل رازحاً تحت أعباء الكلاسيكية الثقيلة، وقد تحولت بعد لومونوف وجيله إلى شكلية زائفة. لقد مر القرن الثامن العاشر ولما يزل الأدب الروسي مختنقاً في هذه الوهدة من التقليد والتزمت والتصنع''. فالشاعر المولود في نهاية القرن الثامن عشر جعل من عشرينات القرن التاسع عشر مرحلة جديدة في الشعر أولاً، وفي العلاقة مع سلطة القيصر من جهة ثانية. وكان من الغريب أن يتحمل هذا الشاعر وحده عبء نقلة كبيرة من هذا النوع.
لقد تمثل بوشكين الجذور القومية الروسية، لكنه استوعب التراث الشعري منذ هوميروس حتى بايرون، وبذلك فقد كان أصيلاً وجديداً في آن. يكتب الروائي والقاص العظيم غوغول ''إن بوشكين ظاهرة خارقة، وربما كان هو الظاهرة الفريدة لهذه الروح الروسية.. هو الإنسان الروسي في تطوره الذي يمكن أن يكون عليه ربما بعد قرنين من الزمن''. وقد كان شاعراً شعبياً حتى أن ديستويفسكي كتب عنه ''ما من كاتب روسي لا قبله ولا بعده بقي في يوم من الأيام متحداً بشعبه اتحاداً بلغ هذا المبلغ من العمق''.
وكما خرج الكثير من الروائيين من ''معطف'' غوغول فقد ولد الكثير من الشعر الروسي وتطور من خلال قصائد بوشكين، ومن معطفه خرج ليرمنتوف ويسينين وبلوك ومايكوفسكي وسواهم.
وهؤلاء هم من صنع مجد الشعر الروسي في ذروته، هؤلاء هم شعراء الرومانسية والرمزية والواقعية الشرسة، شعراء الجبال والقرى والطبيعة، شعراء التقاليد والفروسية التي عرفتها روسيا القيصرية، والتي دفع بوشكين ثمنها حين اضطر إلى خوض تجربة المبارزة التي ذهب ضحيتها بطعنة من غريمه. ثم تلته موجة من الشعراء المنتحرين، سواء من انتحر شنقاً لأسباب عاطفية أو سياسية، أو من لم يجد حبراً فقطع وريده وكتب بدمه وصيته الأخيرة، فقد رأى بوشكين نهايته في هذه القصيدة:
قضى الشاعر أسيراً لشرفه
هوى بهامته الفخورة
وسط الإشاعات الكاذبة
لم تطق روحه النبيلة
احتمالاً لإساءة التافهين من علية القوم
فوقف في وجه أقاويلهم الباطلة
وحيداً كما عهدناه.. وقتل.
من معطف بوشكين
تجربة بلوك ويسينين لا تقل عنفاً شعرياً عن بوشكين، فهو من سلالته الشعرية التي تضج بالحياة والتشرد والكآبات وشبح الموت الكامن في كل شيء. بلوك ''شاعر الرمزية الروسية الأول'' الذي كان يرى في زمنه ''قلق العالم الهائل بداية النهاية الشاملة الكبرى'' ويرى أيضاً ''أن الاتجاه الرئيسي في هذا العصر (عصره) الفولاذي هو تراجع العضوي أمام اللاعضوي، والطبيعي أمام الميكانيكي، والإنسان أمام الآلة، والتقليدي الأبوي أمام الاقتصادي الشمولي، والروحي المتسامي أمام الوضعي الرصين''. بهذه الروحانية الصوفية الممزوجة بنبرة أرضية نكتشف بلوك. فالفن بالنسبة إلى هذا الشاعر ''أشبه بجحيم دانتي.. والعبور من خلاله لن يتم إلا بصحبة مرشد وحلم يأخذ بيده إلى حيث لا يجرؤ المرشد أن يدخل كما أخذت بياتريشه بيد دانتي''.
أما يسينن الذي قال ''أنا آخر الشعراء القرويين'' والمولود عام 1895 مشاكساً وكئيباً يعيش بين خرافات جدته وقصائد بوشكين، فقد بدأ رحلته مع الشعر في التاسعة من عمره، لكن رحلته الحقيقية بدأت مع زيارته لموسكو ثم اضطراره للبقاء فيها من أجل العمل، إذ لم تتقبل روحه المدينة، فقد كانت أعماقه مترعة بالريف والكوخ الخشبي قرب الموقد حيث الحكايات والأمثال الشعبية والدراويش الجوالون الذين شكلوا عالمه الشعري، إضافة إلى عالم الطبيعة الذي جعل منه كما يقول حسب الشيخ جعفر ''مغني الطبيعة الروسية العاشق''. لكن نهايته كانت مأسوية، فقد عاد من الحانة إلى الفندق الذي يقيم فيه وأراد أن يكتب شعراً فلم يجد قلماً فجرح يده وكتب بدمه هذه الأبيات، قبل أن يشنق نفسه:
وداعاً، وداعاً
يا صديقي أنت في القلب مني
إن افتراقنا المحدد هذا
ليعدنا بلقاء في ما بعد
أبرز ما في صورة مايكوفسكي -كما يقدمها حسب- هو أن ''في شعره تسمع رنة إنسانية خاصة. وقد ميز المستقبليون في قصائد مايكوفسكي اتجاهاً آخر غريباً عن حركتهم''، فقد رأوا في شعره دمعة لم تنسكب تماماً بعد، ما يعني تلك العاطفة الإنسانية وتصوير آلام المعذبين، لكن حسب الشيخ جعفر ينكر ذلك فيرى أنه كان جاف العينين تماماً''، و''لم يكن يصف الآلام أو يصورها، إنما كان يرفع صوته متحدياً في وجه العالم البرجوازي، مطلقاً شتائم رهيبة''، ويرى أنه قبل أن يتجه إلى الشعر ''كان مناضلاً سياسياً في خلية من خلايا البلاشفة السرية في موسكو منذ بداية 1908 .
وتظهر صورة آنا أخماتوفا من خلال آخر سيرة شخصية لها وقفت فيها عند محطات أساسية، ما بين 1921 وحتى الحرب العالمية الثانية، ويتوقف خصوصاً عند غربتين عاشتهما الشاعرة، غربة الفكر وغربة الزمن، وأنها ما بين 1922 و1940 لم تنشر سوى مجموعة من قصائد مختارة، وإضافة إلى غربتها الروحية فقد عاشت بعد انتصار الاتحاد السوفييتي على النازية غربة أخرى حين جرى اتهامها بالفردية وكتابة شعر ينتمي إلى ما يدعى الأدب المنحط. وشعرياً غالباً ما يشير دارسوها إلى واقعيتها المختزلة، فهي كما في الرسوم اليابانية لا تصور من الجبل إلا القمة والسفح.
ويذكر أنها كانت متعلقة بمصر على نحو ما، حتى أن الفنان مودلياني صورها في رداء ملكة مصرية قديمة، كما أن لها ترجمات عدة عن الشعر المصري القديم ظهرت عام 1965 قبل وفاتها بسنة، ومن شعرها:
إن حزنك الخبيء عن الآخرين
سريعاً ما أمسى قريباً مني
وأدركتِ أنت أية كآبة سامة خانقة
في أعماقي
|