المقاله تحت باب منتخبات في
02/01/2016 06:00 AM GMT
يعد إدواردو غاليانو واحدًا من أشرس أصوات الضمير المجتمعى فى أمريكا اللاتينية، لكنه يصر على ان اللغة، بأسرارها وغموضها وأقنعتها تأتى دائمًا فى المقام الاول.
ترجمة أحمد ليثى
يعلن غاليانو فى اول جملة من كتابة "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية" أن هناك بعض ممن هم متخصصون فى الكسب، وآخرين متخصصون فى الفقد والخسارة، وبالنسبة لرجل من أبناء الأوروجواى تم نفيه قسرًا خارج بلاده على يد النظام العسكرى خلال عام 1970، فإن غاليانو يعد نفسه واحدًا من هؤلاء الخاسرين، نُشر الشرايين المفتوحة لأول مرة فى المكسيك عام 1971. إستخدم نثره الرثائى ليروى وقائع خمسة عقود من نهب واستعمار أمريكا اللاتينية. نُشر لغاليانو بعد ذلك ثلاثية النار، التى كتبها فى الفترة بين 1985 و 1988، وبلا جدال فقد كانت عمل غاليانو الأروع، فذاكرة النار كانت نوع من رواية التاريخ السرى لأمريكا اللاتينية، يخبرنا غاليانو فى مقالات قصيرة وكثيفة بعث فيها حياة المزارعين والعبيد، الديكتاتوريون والأوغاد والشعراء. الذكريات والروايات وقليل من الشعر، والفولكلور، وكتب الرحلات المنسية، وتاريخ الكنيسة، كل تلك المصادر هى ما شكلت المادة الخام لكتاب غاليانو. وُلد غاليانو فى مونتفيديو، الأوروجواى عام 1940, عمل فى مطلع شبابه كعامل فى مصنع، وأمين خزنة فى بنك، وعندما بلغ 14 عامًا ساهم بمقالاته فى معظم الصحف والمجلات اليسارية، وأُعتقل مع العديد من رجال بلدته قبل شهور من الإنقلاب العسكرى فى الأروجواى، وهرب بعد ذلك إلى الأرجنتين، لكنه رحل عنها ما أن قام الإنقلاب العسكرى، فذهب لبرشلونة فى أسبانيا، وما لبث أن عاد إلى الأورجواى عندما أُستعيد الحكم المدنى مرة أخرى، ليصبح واحدًا من كتاب أمريكا اللاتينية البارزين، وأنتج العديد من الاعمال التى جمعت بين الأمثال والفولكلور وحكايات الأطفال. أجرى الحوار سكوت شيرمان فى مقاله "لماذا أكتب" قال جورج أورويل أن نقطة بدايتى هى دائمًا الإحساس بالإنحياز لشىء ما، الشعور بعدم العدالة، فما نقطة بدايتك؟ أنا أكتب فقط عندما أكون متلهفًا للكتابة، عندما أشعر أنى أحتاج لذلك، تعلمت ذلك من عازف الدرامز الكوبى الشهير الذى كان يعزف كالاله، هذا سره أيضًا، كان يقول أنا اعزف عندما أكون متلهفًا لذلك، أنا أكتب عندما أحتاج الكتابة، ليس لأن ضميرى يملى على ذلك، لا يأتى هذا الاحتياج من السخط على الظلم، الكتابة إحتفال بالحياة، التى عادة ما تكون جميلة فى فظاعتها، وفظيعة فى جمالها. فى كتابه الذى صدر عام 1993، أمريكا اللاتينية بعد الحرب الباردة، يجادل خورخي كاستانيدا أن مثقفى أمريكا اللاتينية دائما ما يلعبون وظيفة رئيسية، ففى كلماته هم المؤتمنون على الضمير الوطنى، طالبين بإستمرار للمسائلة، حاميى المبادىء والأمانة، ففى العالم الناطق بالأسبانية والبرتغالية يبدو أن الكتاب والفنانين والموسيقيين يلتقطون كل ما حولهم من فقر وظلم، فعلى سبيل المثال نجد أن سارماجو يسافر إلى المكسيك ليعلن تضامنه من متمردو زاباتيستا، لماذا نجد لدى كتاب امريكا اللاتينية وعى سياسى اعلى من الموجود عند كتاب الولايات المتحدة؟ دائما ما يكون لدى ريبة وشك فى التعميمات، ولا أود حقيقة أن أناقش دور المثقف أو وظيفة الكاتب، أنا أؤمن ان هذا يعتمد على الموقع، وسيكون من الظلم أن نستخدم التعميم، ساراماجو كاتب رائع، فهو يستطيع أن يحفر فى عمق أرواح شخصياته، كما أنه مدفوع بدفعة من التضامن، وهو ما يجب أن أشيد به، لكن هناك كتاب آخرين لا يبدون سياسيين بشكل واضح، هناك كتابًا حاولوا كشف الهوية المججوبة لشخصياتهم، ويبدو أن عملهم قارب السياسة وكان ذى قيمة عالية دون أن يعرفوا ذلك، وهذه هى حالة الكاتب المكسيكى خوان رالفو، ففى رأيى هذا هو الكاتب الاهم فى أمريكا اللاتينية خلال القرن العشرون كله، كان واحداً من هؤلاء القادرون على تعرية الحقيقة، ليس فقط الحقيقة الواضحة، ولكن حقيقة الأحلام، وحقيقة الهذيان أيضًا، لكن يجب علينا أن نكون حذرين فى إطلاق الأحكام، فكلنا سياسيون حتى لو لم نكن نعلم ذلك، لكن تحديد هوية سياسية معينة لم يكن هو الخيار الوحيد، هذا التصنيف خطيرًا جدًا. إذن، إذا كان لدينا ساراماجو فى جهة، فإن لدينا رالفو فى الجهة الأخرى؟ لا ليس فى الجهة الأخرى، الكاتبان متورطان فى نفس المشروع، لكن بالنسبة لرالفو، فإنه سيعيش بقدر ما تعيش أعماله، هو لا يزال يتواصل معنا، الإثنان يعملان على كشف الحقيقة، على تعريتها، ليساعدا الناس على أن يروا، وهذه هى الوظيفة الرئيسية للفن. إذا كان الكاتب لديه إنحيازات سياسية، فكيف يعبر عن نفسه دون أن يقع فى فخ الدعاية السياسية لانحيازاته؟ لا أرى نفسى ككاتب لديه إنحيازات سياسية، أنا كاتب أحاول أن أكتشف أسرار الحياة وخبايا المجتمع، المناطق المستورة المحجوبة، لأن الحقيقة يتم دائمًا التعتيم عليها، انحيازاتى السياسية وعملى ككاتب متماثلين، لكنى لا أرى انه يجب على أن أواجه مشكلة الدعاية السياسية، وعامة الدعاية فى رأيى غير مؤثرة، إنها تنتمى للحظة، هذا شىء لطيف ولكنه ليس فنًا، فى بعض الأحيان كان هناك فن ينتمى إلى الدعاية ولكنه لم يفقد وقته، فيلم "كازابلانكا" كان دعاية، أفلام أينشتاين التى صُنعت فى ظل الفترة الستالينية كانت جزء من الدعاية، لكنها أعمال جميلة، ولذلك لم يكن الفن المرتبط بالدعاية السياسية دائمًا سريع الزوال، ولكنه عادة ما يكون كذلك، لكنى لا أعتقد ان هذه الاعمال كان مخططًا لها، الحقيقة أعقد من ذلك. إذن فإن جان بول سارتر أخطأ عندما أعتقد أن الكتاب لديهم التزام ليتصرفوا بطريقة محددة؟ أنا لا أعتقد ان الكتاب يجب أن يكونوا سياسيون، أعتقد أن الكتاب يجب أن يكونوا أمينون فيما يفعلونه ويكتبونه، لا يجب عليهم أن يبيعوا أنفسهم، ولا أن يسمحوا لأنفسهم أن يشتروا، يجب أن يحترموا أنفسهم، وأن يصونوا كرامتهم، يجب أن يقولوا ما يودون قوله، يجب أن تكون الكلمات حقيقية، وتخرج من القلب، لكنها على العكس من ذلك، تكون مصطنعة عندما تكون مطبوعة بطابع سياسى، وهذا كارثى. كتبت بكثافة عن جابرييل جارسيا ماركيز، قيصر باييخو، وخاصة بابلو نيرودا فى كتابك ذاكرة النار، لكنى وجدت إشارة موجزة عن بورخيس، هو يعتبر أنه ليس هناك واقع آخر غير ذلك الموجود فى الماضى، ماضى أجداده، والواقع الموجود فى كتب هؤلاء الذين يعرفون كيفية شرح هذا الواقع، وأى شىء آخر يعتبر غير ذى أهمية، بإختصار بورخيس يحاول أن يخبرنا عن التاريخ العالمى للعار، لكن بالنسبة للعار الذى يحيط به يبدو أنه لا يهتم بالسؤال. عندما كان نيرودا يقوم بواجباته كمقاتل فى صفوف الحزب الشيوعى، أنتج أسوأ قصائده على الإطلاق، كقصائد الولاء لستالين، وهذا النوع من القصائد، لكن نيرودا أنتج أفضل القصائد عندما كان يغنى ببساطة للسعادة والخوف، للفرح والحزن، لكونه واحد من أبناء أمريكا اللاتينية. لكن على العكس من ذلك، لم يكن لبورخيس مكانة مميزة فى قلبى، لم أشعر بكهرباء الحياة فى أعماله، أنا مفتونًا بأسلوبه، بمهاراته، وبراعته، كان مثقفاً حقيقياً، رجل برأس فقط، لكن بلا قلب، صحيح أنه ذكى، فائق الذكاء، لكنه كان نخبويًا، وعنصريًا، ورجعى جداً، وبورخيس قدم فروض الولاء للديكتاتوريات العسكرية كالجنرال بيونشية فى تشيلى والجنرال فيديلا فى الأرجنتين، لم أشعر يومًا أنى قريباً منه، كان مثقف المكتبة، وعلى العكس منه كان نيرودا مرتبطًا بالعالم بطريقة مختلفة، فنحن نجد الاحتفال بالحياة والبحر والحب فى أشعاره. هل توحى أن نيرودا كان كاتباً أفضل، أو إنسانًا أفضل بسبب ميولة السياسية اليسارية، لأن ما كتبته عن بورخيس فى ذاكرة النار لا يبدو كريمًا مثل كتابتك عن نيرودا؟ من الممكن أن يكون ذلك صحيحاً، كنتُ كريماً مع نيرودا عن بورخيس، لكن ليس بسبب ميوله السياسية اليسارية، فعندما أقرأ نيرودا أشعر أن هناك من عاش أهوال وغرائب الحياة، وفشل وبُعث من جديد، وأُصيب بخيبة الحب والوقت والموت، تلك هى كهرباء الحياة التى كنت أتحدث عنها والتى أشعر بها فى أعمال نيرودا، وهو ما يفتقده بورخيس، لكن للحقيقة أشعر بذلك ايضًا فى بعض اعمال بورخيس، لكن بطرية مؤلمة، بنزعة تميل نحو الحزن، لكنها ذات قيمة كبيرة على أى حال. جيل كامل من كتاب أمريكا اللاتينية على وشك الزوال: جابرييل جارسيا ماركيز، ساراماجو، ماريو فارجاس يوسا وآخرين، هل ترى أن الجيل الجديد من كتاب امريكا اللاتينية سيعلنون إنحيازاتهم السياسية؟، هل ترى إنهم سيولون الثورة الكوبية إهتمامًا بالطريقة نفسها التى أولاها ماركيز إهتمامه؟ أعتقد أن هذا خطأ كارثى عندما أنصب نفسى نبيًا وأتنبأ بشىء ما، ولكى أكون نبيًا محترفاً كان يجب على أن أكون شحاذاً يقف أمام الكنيسة وهو يدمى ويقول أرجوك أعطنى دولار، فى الحقيقة لا أعرف ماذا سيحدث للجيل التالى، لكن فى اللحظة الحالية هناك تسييساً هائلًا، الحقيقة أن الوعى السياسى لشعوب أمريكا اللاتينية فى تدنى مستمر لكن هذا ليس بالنسبة للكتاب، ويجب أن نعرف أن التاريخ يتحرك فى دوائر، والأشياء تتغير، والواقع ليس هو المصير الوحيد، أنه تحدى، ولا أعرف ماذا سيحدث للجيل الجديد. لكن ما أعرفه أنه يجب على الكتاب أن يكونوا أمينون مع أنفسهم وأن لا يستخدموا الأدب لأغراض تجارية، يجب أن يعرفوا الطريق الأفضل للتعبير عن الكلمات التى يجب أن يقولوها، وهذا شىء أساسى بالنسبة لى، ذلك أن الكلمات التى تستحق أن تقال هى الكلمات التى ولدت لحاجة شديدة، هذا كل ما أطلبه من الكتاب، أى شىء غير ذلك أقل أهمية، فكثيراً من الكتاب ذوى الميول اليسارية لا يخبرونى بشىء مفيد عن الإنسان، وكثيراً من الكتابات السياسية فظيعة، وكثيرا من الكتاب السياسيين لا يبدو أنهم يفهمون أن كل شىء وأى شىء يمكن حدوثه، أهم شىء بالنسبة للكاتب ان يكون لديه وجهة نظر، أن يعرف أين يقف بالضبط، ومن أى جهة سيرى، ومن أى وجهة سيخبرنا بشعوره وإعتقاداته. لم يكن هدفك عندما كتبت الشرايين المفتوحة لأمريكا اللتينية قبل نحو 30 عاماً وصف جمال الفراشة، لكن هدفك كان توثيق جرائم الامبريالية فى أمريكا اللاتينية. نعم، كان هذا هو هدفى، فقبل 30 عاماً كانت تتصارع لدى الأسئلة وأبحث عن إجابات، متى سميت الدول المتخلفة بذلك الأسم، هذه طريقة ملتوية لنقول أن هذه الدول تنمو كالأطفال، وهذا كذب، هذه الدول متخلفة لأن هناك دول أخرى كانت تنمو على حسابها، فدول العالم الثالث كانت متخلفة نتيجة إستغلال دول العالم الأول، كان هذا هو الجدال الأساسى فى الشرايين المفتوحة، الكتاب يحاول الاجابة على سؤال كيف حدث هذا على مدار خمسة قرون، وبالطبع كانت الامبريالية الأمريكية جزءاً من القصة، وبالمناسبة أعتبر هذا الكتاب من كتب الدعاية، نعم، كان كذلك، لكن بعد ذلك حاولت كتابة أشياء مختلفة، لأنى لا أحب تكرار نفسى، وهذا ما حدث، فكتاب "رأساً على عقب" جاء فى لغة مختلفة تماماً عن الشرايين المفتوحة، ولكن لا يزال ولائى لأفكار كتاب الشرايين المفتوحة، أنا فخور بهذا الكتاب، وأنا غير تائب عن الأفكار الموجودة به. يعتبر كتاب الشرايين المفتوحة من الاعمال الكلاسيكية فى أمريكا اللاتينية الآن، كم نسخة بيعت من هذا الكتاب؟ أنا لا أهتم بمثل هذه الأمور. من تفضل من الكتاب والمثقفون الأمريكيون؟ هذا سؤال لا أود الإجابة عنه، لأنهم كثيرون فى الحقيقة، من هؤلاء الذى أثروا بى فى بداياتى كان مارك توين، أمبروز بيرس، كارسون مككولرز، ويليام فوكنر، وكنت مندهش جداً من حس الفكاهة فى أعمال توين وبيرس. نُشر فى جريدة القاهرة عن أتلانتك
|