المقهى التي في الزقاق حيث يجلس الأدباء

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
14/11/2012 06:00 AM
GMT



في مقهى عتيق كان بالأصل دار سكن لعائلة بصرية عريقة، وسط الضاحية القديمة بالعشار يجلس الأدباء البصريون، يجلس مثقفو المدينة الكبيرة، متطلعين لغد أجمل، المقهى هذه تتداخل مع مقر الحزب الوطني الديمقراطي.
ومن الحزب هذا يخرج تجمع ثقافي، يقيم أضحية ثقافية كل جمعة، لم تكن المقهى حكرا على أدباء ومثقفي المدينة بل هي تنقسم قسمين، يجلس في الخارج منها العامة من الناس، عمال وكسبة ومارّون عابرون وفي الداخل يجلس هؤلاء، مع نخب من متقاعدين وسياسيين وعاطلين عن الوعي تجذبهم سمعة المقهى هذه، مقهى الأدباء كما صارت تعرف، وإن كانت دونما يافطة تدل، دونما إشعار من أحد، لأنَّ البعرة تدل على البعير، كما في أمثال العرب.
السكة، الدربونة، الزقاق، الفرع الضيّق الذي يدخل رواد المقهى منه تتوسطه ساقيه تفيض منها المياه ساعة تنغلق مجاري المحلة فتنبعث منها رائحة كريهة، لا تختلف عن رائحة مياه نهر العشار، مستودع مجاري المدينة ومكب نفاياتها، والمحال التجارية التي تلاصق المقهى لا معنى لها، فهي عشوائية، أنشأها أصحابها على انقاض بيوت تُركت، هجرها اهلها، وتناوبها المشترون والبائعون.في المقهى هذا يجلس أدباء ومثقفو المدينة، وكانت الحكومة المحلية تفضلت فمنحت مجلس إدارة إتحاد الأدباء والكتاب أحد البيوت التراثية الكائنة في محلة نظران بالبصرة القديمة، وهو منزل قديم، تم ترقيعه في فترة الثمانينات من القرن الماضي تداعى حاله اليوم، يجاهد الأدباء في الوصول اليه ضحى كل يوم سبت، لحضور جلساته القهرية، ذلك لأن مروحة واحدة على حائطه الفقير، في صيف البصرة المشتعل لا تكفي لتهويته، لا لتبريده.
وعلى نهر العشار التالف ذاك، ليس بعيداً عن مبنى إتحاد الأدباء، وعلى قاعة نقابة الفنانين أقام الشاعر والفنان التشكيلي هاشم تايه معرضه الجديد، الذي سمَّاه (حياة هشة) جمع تايه فيه كل ما تناثر من أشيائنا، علب كارتون، قناني مشروبات غازية فارغة، أغطية وسدادات علب مواد غذائية معلبة، لحم، سردين وجبن وباقلاء...، أغلفة مصابيح كهربائية، حافظات ورقية بالية لأجهزة منزلية، أسلاك مختلفة، وأشياء أخرى مما ترميه سيدات البيوت في القمامة ومن حطام مقتنياتنا اليومية .لم يترك للبلدية شيئا ترفعه بحسب تعبير احد الزملاء، يقول عن معرضه هذا، بأنه نزوع شخصي، رؤية مغايرة، وظل يكرر عبارة كنت أريد من المادة هذه أن تعمل معي، تشاركني مُشتغلي، انا اجدها متحركة، فاعلة، تنبض بحياة تشبه حياتنا .هل أراد هاشم تايه بالأشياء هذه رسم جانب من حياتنا، كل حياتنا؟
بين الأماكن التي يتنقل منها وإليها مثقفو البصرة من المقهى الفقير إلى المبنى القديم حتى مقتنيات معرض هاشم تايه أكثر من وشيجة حياتية، يتخللها نهر العشار، مجرى المياه الآسنة، مكب النفايات الكبير، ترى، هل يدرك القائمون على المؤسسة الثقافية، المؤسسة السياسية، أصحاب النفوذ المالي والإداري الذين ينفقون المليارات من دنانيرنا على مفاصل أتفه بكثير مما استعمله الفنان في لوحاته، هل يدرك هؤلاء معنى الحياة بجوار نهر العشار، أو الجلوس في مقهى كمقهى الأدباء والحديث في الشعر والرواية والتشكيل والموسيقى وقيم الجمال، أم هم يرون في الثقافة زادا يعافه الذوق العام، وتلفظه قيم الحياة (الجديدة)؟
المؤسف في القضية أن البعض من النخب المثقفة هذه لا يزال يعتقد أن المؤسسات تلك ستلتفت يوما إلى واقع حال الثقافة والمثقفين، وهذا ما ردده أكثر من مسؤول في الحكومة المحلية، بمن فيهم محافظ المدينة، الذي دعا المثقفين، ولأكثر من مرة إلى اجتماع لمناقشة وضع الثقافة، أو لتفعيل الثقافة في الحياة العامة، والحكومة تقول انها لا تملك من الصلاحيات ما يؤهلها لتجديد مقهى، وهي غير جادة في ما يطرح من آراء، بل هي غائبة تماما عن حاجة الناس للحديقة والشارع النظيف والمبنى الجميل ورؤية الناس سعداء لأن بينهم، ومن أعضائها من يعتقد بأن تأسيس موكب عزاء، وتزويد أصحابه بالسيوف والسلاسل والدفوف والصنوج أهم بكثير مما يكتبه هؤلاء، أهم بكثير مما يؤسسون له، وتتداعى به أحاديثهم.
يقولُ موسيقيٌّ، هو ملحنٌ معروفٌ، غنّى له كبار الفنانين العراقيين، وهو واحد ممن أسهموا بتأسيس الحقبة الذهبية في الأغنية العراقية: 'بأنه يعاني من كونه موسيقيّاً وملحناً، بل هو يخجل من حمل عوده في زقاق ضيّق كالذي يفضي لمقهى الأدباء ويقول بأننا معشر الفنانين أصبحنا عارَ أسرنا وأهلنا، فقد جلبنا الذل والهوان لهم' وكأنه يقول:'عنّست بناتنا، ورفض الناسُ تزويج أولادنا من بناتهم، وهناك من أسمعَ زوجاتنا الكلام الوحشي والغريب، الغريب والوحشي حدَّ الشتيمة.