كيف ابتكر بورخيس شخصية بورخيس |
المقاله تحت باب منتخبات بقلم: أنيك لوي(Annick Louis) لما كان بورخيس مرتبطا لفترة طويلة بأدب ملغز، متبحر، مكون من رموز وتساؤلات ميتافيزيقية، فقد عملت المبادرة الجديدة لنشر نصوص الكاتب الأرجنتيني أول مرة، على تجديد صورة العمل والإنسان جذريا.
كما هو الشأن بالنسبة لمؤلفه الشهير 'بيار مينار مؤلف الكيخوتيه '، ترك بورخيس خلفه، عند مماته، في سنة 1986، 'عملا مرئيا' و'عملا لامرئيا'. يتكون هذا الأخير من ثلاثة أعمال غير معترف بها وعدد هائل من المقالات، التعليقات، السير، محكيات قصيرة وحوارات في الجرائد والمجلات، دون أن تكون في مجلدات أبدا. ويعتبر جان ـ بيار بارنيس ( Jean Pierre Bern's) هو أول من أعلن انطلاقة نشر تلك الأعمال التي لم يسبق لها أن نشرت، وقد عمل هذا الأخير على إقناع بورخيس كي يضم إلى [ مؤلف ] الأعمال الكاملة الصادر عن لابلياد، مجموعة وقائع تاريخية نشرت في مجلة (El Hogar)، وهو ما قاد النقد الناطق باللغة الإسبانية إلى المطالبة بجعل تلك النصوص مفهومة لدى قراء اللغة الإسبانية. وقد سرعت وفاة بورخيس من تلك الموجة وأطلقت العنان لبحث بوليسي حقيقي لتلك النصوص غير المطبوعة والتي اطلقت إعادة اكتشافها من بين أضلع مؤلف تخييلات بقيت حتى ذلك الحين مجهولة: وقد أعطى هذا الكم الهائل من النصوص الانطباع بأن بورخيس واصل كتابة عمله الذي سيظهر بعد وفاته. إضافة إلى كونه كاتبا صاحب ثيمات كونية، فقد كان أيضا مثقفا منخرطا في السجالات الأرجتينية المحلية. فقبل أن يصبح عدوا لدودا ضد البيرونية ومهللا للديكتاتوريات اللاتينوـ أمريكية لسنوات 1970، فقد كان أولا متحمسا معاديا للفاشستية. اهتم بورخيس بالثقافة الشعبية كما هو الحال في محكياته التي تلجأ إلى تركيب ألعاب فلسفية مع الزمان والمكان. نمور، متاهات، مكتبات، كان عليها أن تعود إلى مكانها في توالد ثيمات وموتيفات (motifs) تنطلق من البيت الموصد إلى استعمال الدعاية والكراهية القومية، مرورا بذرائعية وليام جيمس، التماسيح أو الآداب الألمانية في عصر باخ. بناء الحدث الأدبي برهن بورخيس دائما الانتخاب العنيف الذي تم القيام به من بين نصوصه التي نشرت ضمن مؤلف الأعمال الكاملة مع استدعاء دليل قاطع. غير أن ذلك الانتخاب يرتكز في الحقيقة على تصور خاص لمفهومي المؤلف والعمل، وهو تصور يرتبط بالمبادئ المعروضة في أدبه بقوة. ويعتبر العمل بالنسبة لبورخيس، 'بناء يتموقع في تقاطع بين الإديولوجيا، الاستتيقا وسياق نشر النص ـ بما في ذلك ما هو مادي. يستجيب العمل [الأدبي] إلى منطق مستقل عن مادة البناء التي تشكله، فهو 'كيان مغلق: إنه علاقة، مركز لعدد لايحصى من العلاقات'. أما بخصوص مقولة المؤلف، فقد عمل بورخيس على إفراغها من محتواها مع تشريف سلسلة كاملة من المهام التي لم تكن تعتبر، حسب العرف، أنها ذات صلة بالخلق الأدبي: الترجمة، مجموعة منتخبات، أنطولوجيا، ابتكار الخصائص الافتتاحية والموازية تعتبر بالنسبة إليه ممارسات تتموقع على ذات المستوى التدرجي مثل الكتابة والتي سيتوجب عليها أن تحظى بذات الامتياز. ينضاف إلى ذلك أن الرباط الذي يوحد المؤلف بعمله يكون ممثلا مثل بناء ذي بعد عمومي: وشأنه في ذلك شأن هنري جيمس، فقد كان بورخيس واعيا بالانفصال (الذي بينه في النص الشهير 'بورخيس وأنا') بين الكاتب، الذي يشكل موضوع شهادات واحتفالات، وبين عمله. إن ما يعتبر موضوع خلاف هو إمكانية القبول بالبعد الاجتماعي، التجاري، وأحيانا ذات البعد الاجتماعي للعمل الأدبي، وذلك [البعد ]المتعلق بالكاتب في العالم المعاصر، باعتبارها مظاهر تكوينية للـ'حدث الأدبي'. فمع بورخيس، لا أحد بحاجة إلى تخليد ذكرى موت المؤلف ولا إلى بعثه: ينبغي خلافا لذلك التلاعب بتحول المؤلفين المناسبين، وهو ما يسميه بـالـ'الآثار الأدبية '، موضوعات متقلبة ـ مثلما فعل هو ذاته بكتاباته الخاصة . ولادة ســـارد شاعر شاب منخرط في تيارات الطليعة ومستورد لجماليات أوروبية جديدة، قام بورخيس العشرينات (1920) بالتغني بالثورة الروسية، اتصل بالدادائيين، ثم إنه يركز على الحمولة التجديدية للاستعارة، مع العمل على مفاجأة معاصريه بالاهتمام أيضا بالعصر الذهبي الإسباني، بالأدب الكلاسيكي ورثاث (vieilleries). فوراء هذه الحركة يوجد تفكير منهجي حول إنتاج الشهرة في الثقافة الغربية. وبالفعل فإن بورخيس يقترح فصل الكاتب ونصوصه، نوعية العمل والخلود الأدبي، النص والقراءات التي يعتبر موضوعا لها، ابتكارات نظرية مبينة في مجموعات أبحاثه الأولى، ومع ذلك تم التنكر لها ابتداء من الخمسينات. كل شيء كان يبعث على الاعتقاد بأن بورخيس فهم بشكل سريع جدا من يكون ؛ ومع ذلك، كان يلازمه الخوف لأن يصبح واحدا من المؤلفين الذين لم يبق لهم أثر سوى في منتخبات الطليعة، وقد توصل على وجه السرعة إلى استنتاجين اثنين واللذين سيعملان على تحديد منعطف في مهنته: فمن جهة، فإن نوع المقالة لا يسمح بتحقيق الخلود الأدبي ؛ ومن جهة أخرى، فإن الشعر لا يقود إلى شهرة دولية. وبالرغم من أنه رفع إلى مرتبة الأسطورة الوطنية، فإن شعر بورخيس، الذي شخص ضواحي بوينس أيرس وشخصياتها، يجسد نموذجا مدينيا لهوية ثقافية سيتماهى معها العديد من المثقفين. والحال أن المقالة والشعر يعتبران بالضبط النوعين اللذين مارسهما في تلك الفترة. استدار بورخيس إذن نحو المحكي. ما الذي يعوزه في عالم شعره، الذي يحسه مثل صحراء وخواء مصائر خالدة ؟ ثمة معنى للغز سيملأه الولوج إلى مشهد المحكي البوليسي. ابتداء من سنة 1933، تحولت الصور الثابثة لقصائده الخاصة بالضواحي إلى تحقيقات، تطور يؤول إلى [ المحكي ]الشهير 'رجل مرتكن إلى حائط وردي' 1933. انطلاقا من هنا، تنتظم المحكيات البورخيسية حول ألغاز متعددة: ففي 'الحديقة ذات الممرات المتشعبة '، [تنتظم ] حول معنى أفعال الشخصية ؛ 'الموت والبوصلة' حول هوية المدينة حيث يدور الحدث ؛ وفي 'هيئة السيف' أو في 'مسكن أستيريون'، [تنتظم] حول هوية الشخصية التي تروي قصتها. جاذبية الأنواع المسماة دنيا يترافق إتباث القيمة الأدبية للمحكي البوليسي باهتمام متحمس لأنواع أخرى تعتبر أنواعا دنيا، وخصوصا النوع العجائبي. قبل بالكتابة، في بداية الثلاثينات، في جرائد ومجلات غير متخصصة ـ وعلى الخصوص (El Hogar)، والملحق الأدبي لجريدة نقد (Critica)، التي قام بتسييرها في سنتي 1933 و1934 ـ، وضع بورخيس منهجه: اقتباس عنصر أساسي لنوع ما من أجل دمجه بالخصائص النوعية لنوع آخر. تنطلق محكياته العجائبية من مشروع بناء [ نوع] عجائبي نصي محض، يشكك في الحدود بين الكتاب والعالم الممثل والذي يسعى إلى أن يطبع الواقع بطابعه الشخصي، مثلما يمكن ملاحظة ذلك في [ المؤلفات ] الشهيرة 'الدنو من المعتصم' (1936) و'مكتبة بابل' (1941)، و، فيما بعد، في كتاب الرمل (1975). ففي العوالم البورخيسية، بإمكان المظهر العجائبي أن يتأتى من كون أن خارقة سرية وليست علنية ( 'الخارقة السرية'، (1943) ؛ من مينوتور يعاني العزلة الوجودية، حتى لايدافع عن نفسه أمام ثيسيوس ('مسكن أستيريون'، 1947 ) ؛ من كاهن من أصل شعب المايا، والذي فك لغز العالم لكنه لا يستعمل قوته ( 'كتابة الله'، 1949) ؛ من قلب للقيم الذي يمثله الخلود كعبء وأصل حضارتنا مثل عالم همج ( 'الخالد'، 1947 ). البوليسي، العجائبي. إلى هذين النوعين ينضاف اكتشاف الإمكانيات السردية للسينما، التي اهتم بها منذ 1929. منذ الحرب العالمية الثانية، قامت السلطة السياسية والمنتجين الهوليوديين بإعطاء الحبكات غايات إيديولوجية، ثم إن محاولة السيطرة على المعنى أغرت بورخيس، إلى درجة أنه سيستعيد في محكياته الثيمات والقيم المهيمنة لذلك العصر. كذلك فإن 'ثيمة الخائن والبطل' (1944) و'هيئة السيف' (1942) تفكك التعارض بين البطل والخائن، تفرغ تلك الأشكال من محتواها النموذجي. وهكذا يوضح بورخيس ارتباطه بأدب غير تعليمي، حيث يخرج القارئ من دون أن يتوصل إلى تفسير وحيد واضح للواقع. فعبر مطالبة الأنواع والفنون التي تعتبر في مرتبة دنيا، قام بورخيس بالرفع من المحكي القصير ـ الخرافة ـ إلى مصاف الأدب الوطني المدهش. ليست الكتابة المصدر الوحيد لتلك المعركة: كما يهدف بورخيس أيضا إلى فرض البوليسي والعجائبي بواسطة الترجمات، عبر المجلات، المجموعات والأنطولوجيات، والتي نجد من بينها الأكثر شهرة أنطولوجيا الأدب العجائبي ، والتي تم نشرها بالاشتراك مع أدولفو بيو كساريس ( Adolfo Bioy Casares) وسيلفينا أوكامبو(Silvina Ocampo) في سنة 1940، والتي فرضت شكلا إسبانيا أمريكيا للعجائبي. أهواء عنيفـــة اتهم حين نشر محكياته الأولى بوضع موهبته لصالح أدب لايعبر عن مشاعر ولا عن تصورات أخلاقية، ثم إن بورخيس أعجب بالعمق الفلسفي التجريدي لتلك المحكيات نفسها. ومع ذلك فإن ذلك التجريد لايقصي كل تشخيص للأهواء، كما يعثر المرء في قصصه القصيرة على رؤية متميزة للانفعالات، مركزة حول بعض الأحاسيس: الحقد، الفضيحة والاشمئزاز، التي ستصبح محركات أصلية لأفعال الشخصيات والتي غالبا ما تقود إلى الجريمة. كذلك، في 'الرجل المركون إلى الحائط الوردي'، يجد القارئ نفسه في مواجهة نوع من العنف يتم إدخاله بطريقة مضللة: يتموقع في أحياء بوينس أيريس الفقيرة، يتوجه هذا التخييل الشفهي، إلى مخاطب تتم المناداة عليه أخيرا ـ والذي يجيب باسم بورخيس، يستعيد الموت الملغز لـ(غوابو). يفهم القارئ والمروي له فقط عند النهاية بحيث إن السارد هو القاتل، والذي يتصرف مدفوعا بالاشمئزاز ـ وهو ما يشعر به تجاه نفسه، ونحو الآخرين، نحو موقف بطله المنهزم، بالنسبة للحياة ذاتها. يعتبر الحقد سرا متحركا في 'الموت والبوصلة'، الذي يعمل على تشخيص إيريك لونرو ( Erik L'nnrot)، مخبر مولع بالبرهنة (ولاسيما بقدراته الذهنية الخاصة)، والذي يعمل على ضم سمات المحقق على طريقة بو ( Poe)، متأمل ومثقف، أيضا سمات بطل الرواية السوداء. يتصور لونرو مؤامرة مرتبطة بالتاريخ وباضطهاد اليهود حيث لاوجود هناك إلا إلى انتقام قاطع الطريق القاصر، لايهدف شارلاش فقط إلى إيقاعه في الفخ ثم إنه كاد يغتاله أثناء تراشق بالرصاص. أخلت السخرية المكان لنوع من التفخيم، بينما قام السارد بظهور سريع وأن لونرو قام برحلة إلى جنوب المدينة، نحو الحقيقة ونحو موته الخاص. أسطورة الحكيم الأعمــى لبلوغ الشهرة في الغرب، فإن جودة العمل غير كافية، هذا ما استنتجه بورخيس في وقت مبكر جدا. إن الخلود الأدبي هو بناء وبرنامج، كما برهن على ذلك الشاعر الأرجنتيني في 'المتعة الأدبية' (1927)، كما ينبغي ابتكار صورة للكاتب هي في ذات الوقت تقليدية وأصيلة. سيظل بورخيس إذن بالنسبة لنا مرتبطا بصورة الشاعر الشيخ الحكيم والأعمى، مبدلا بولد مزعج صاحب دعابة لاذعة. وبالرغم من أن فقدانه للرؤية كان متدرجا، فإن بورخيس موضع ذلك ببلاغة في الوقت الذي حصل فيه على وضع كاتب رسمي: وفي سنة 1955، تم تعيينه، من قبل الحكومة العسكرية التي جاءت عقب انقلاب عسكري ضد النظام البيروني، عين مديرا للمكتبة الوطنية، أستاذا بكلية الفلسفة والآداب لبوينس أيرس وعضوا في أكاديمية الآداب. وقد عاد في هذا الوقت بالذات إلى الشعر، ثم إنه انهمك في اكتشاف أشكال تقليدية ('شطرنج 2 '، 'سبينوزا' )، مع مواصلة التجريب الشكلي والأجناسي الذي طبع بداية مشواره ـ خاصة في المؤلف ونصوص أخرى (1960). ينعكس جدول اهتماماته الجمالية على الشعر، وهكذا يلاحظ انبثاق شعر عجائبي ('الغوليم'، 'الكيميائي'، 'حلم') أو بأسلوب فلسفي 'هيراقليطس'، في حين أن سلسلة كاملة من الحوافز (motifs) ستصبح نمطية للمحكي البورخيسي عاملة على اكتساح الكتابة: الظلال ('الليل الدوري'، 'مديح الظل')، المتاهات ('خيط الحكاية')، السيوف والمبارزات ('بسيف في يورك مانستر')، المرايا، الرابط بين شجرة نسبه الشخصية وتاريخ الأرجنتين ('تلميح لموت الكولونيل فرانشيسكو بورخيس'، 'قصيدة حدسية')، الحلم ('ألونصو كيخانو يحلم')، مدينة بوينس آيرس ('في كل الأماسي، حلم')، الكتاب ('حارس الكتب'). عمل شفوي مهـــم ابتداء من الستينات، وهي الفترة التي يمكن أن نموضع فيها بداية تطور تقديسه الدولي، تضاعفت الحوارات والمحاضرات بطريقة مدوخة، إلى درجة أنه يمكن الحديث عن 'عمل شفوي' حقيقي، عمل على نشر سلسلة من الأساطير وسير القديسين حول الكاتب وأدبه. فحينما تتم مساءلته بخصوص سيرته وعمله، اعتاد بورخيس على تنويع الأجوبة ـ تجنبا للملل، يقول، بما أنه كانت تطرح عليه نفس الأسئلة دائما! فقد شجع نشر تلك 'النصية الشفوية' المفارقة الانفصال بين الشكل العام والعمل، إلى درجة أن كل خاصية من تلك الخصائص أفضى بها الأمر الى الاستقلال. إن بورخيس المحاضر هو قبل كل شيء مؤلف تعتبر بالنسبة إليه القراءة، الكتابة وإعادة القراءة (التي يعتبرها أشبه بممارسة تفوق القراءة) تجارب حياتية كاملة. ثمة رؤية ساهمت في نجاحه اللامحدود كمحاضر. داعيا مستمعيه إلى مجاراته في تحسسات فكره وأذواقه الجمالية، كان يقودهم في مسارات حيث يتم الاسترخاء بيسر لاسيما وأن هذا الفرجليوس كان أعمى و مع الاستسلام كلية للتأمل، ما كان يشاهد جمهوره بعينيه المجردتين. كانت الأسئلة تنزلق بلا كلل، نحو موضوعات أخرى منها من عمله: كان بورخيس يجسد رجل الآداب، الذي يشمل الأدب بالنسبة إليه المعرفة الكونية. ثم إنها تقدم نظرة نوعية حول العالم. متحولا إلى شخصية شعبية، كان بورخيس يفتح بابه في وجه كل من يطرقونه. غالبا ما كان يسأل بصدد أسئلة راهنة تنطلق من بناء ملعب لكرة القدم يستضيف كأس العالم إلى الصراعات الحدودية مع الشيلي. وكانت السياسة الثقافية للبيرونية احد أهدافه المفضلة، والتي وظف ضدها كل موهبته الخطابية ودعابته الأسطورية. عن سؤال الصحافي القائل: 'بورخيس، أنت عبقري !'، أجاب ببساطة: 'لا تصدق ذلك، إنها مجرد افتراءات !' عن المجلة الأدبية الفرنسية :(Le Magazine Litt'raire ) عدد: 520. يونيو 2012 |