المقاله تحت باب منتخبات في
25/04/2012 06:00 AM GMT
جينا سلطان تعيد الروائية التشيليانية إيزابيل الليندي اختراع نفسها من خلال ثوب الجدة نيني، بطلة روايتها الجديدة "دفتر مايا"، ترجمة صالح علماني، (منشورات دال)، مسربلة بيقين ينفي وجود النهايات في الحياة، ويحولها عتبات تجول هنا وهناك، وضمن هذا المدى تنغمس في حبك مؤامرة بارعة ومشوقة تقودنا نحو الوجه الآخر للديموقراطية!
بطلة الرواية مايا بيدال، ولدت في بيركلي بكاليفورنيا، وُدفعت للجوء بصورة موقتة إلى جزيرة في جنوب العالم تدعى تشيلوي/تشيلي. هناك استرجعت ذاكرتها كمراهقة أميركية تورطت في ما يسمّى بثقافة دعارة متكاملة. وما ابتدئ على أنه درس تبسطه ألينيدي لمراهقي قبيلتها، انتهى إلى الوقوف عند طريق الآلام وسفر الإبعاد لمعتقلي الديكتاتورية التشيليانية البائدة، تمهيدا لمسح الندوب ورتق الجروح، مما يجيّر النص الروائي إلى فكرة الانفتاح الكوني على الآخرين، وحتمية التمازج الحضاري الخلاّق بين الأمم والأعراق المختلفة. تناقش ألليندي من خلال شخصية مايا خطورة غياب الحوار بين الأجيال، وتبدد الدعم الأبوي في ظل التسارع الرأسمالي الوحشي لدفع الإنسان نحو دروب الانحطاط. تتيقظ موهبتها الحساسة لالتقاط أدق التفاصيل حول نقاط التلاقي وأبعاد التورط الانحلالي. فولادة مايا، شكلت نقطة تجميع للفضول البشري مع الشهوة الملحة لطيار تشيلياني وسيم ومضيفة أوروبية، هجرت طفلتها الوليدة وهربت عائدة إلى بلادها الباردة، لتتولى الجدة نيني مع زوجها بوبو مسؤولية التربية في ظل انشغال الأب بمغامراته العاطفية. نوهت مايا في مواضع عدة بالحضور الإنساني الفسيح للجد بوبو، بمزاجه الماكر، وحنانه، وكرشه الذي اعتادت أن تلوذ به. على رغم تصميم نيني البطولي على تلقين مايا الوعي الاجتماعي، من خلال الاحتجاجات وتبني قضايا سياسية وإنسانية خاسرة، إلا أن موت بوبو أفقدها مركزية حياتها، فانقلب استقرارها عند بلوغها السادسة عشرة اضطراباً عارماً غلّف عقلها بالضبابية، وأجج إنكار المعاناة رغبة التحدي والانحراف، وشرّع الأبواب لحياة مزدوجة قوامها الكذب والتنافس مع الصديقات على سلوك درب الانحراف: تخريب ممتلكات الغير، بيع الماريجوانا، حبوب النشوة، عقار الهلوسة، تلطيخ جدران المدرسة بطلاء بخاخ، تزوير شيكات، أعمال نشل من المحال التجارية. تتوج هذه السلوكيات بتسلل ليلي من المنزل لحضور حفلة هذيانية في مصنع مغلق، تنتهي بافتضاح أمرها كمدمنة كحول ومخدرات، فتحجز في أكاديمية إصلاحية مع ستة وخمسين مراهقا من المتمردين، ومدمني المخدرات، ومحاولي الانتحار، وفاقدي الشهية، وثنائيي القطبية، والمطرودين من المدارس. بعد انتهاء العلاج تهرب مستغلة حريقا طارئا، على متن شاحنة إلى مدينة الخطيئة، لاس فيغاس، حيث يغتصبها السائق مقابل التوصيلة، لتكون واحدة من عشرات المراهقين والقاصرين من الذكور والإناث، الهاربين من بيوتهم، الذين يعرضون أنفسهم مقابل نقلهم في سيارة. ملامح الضياع البادية على وجهها توقعها بين يدي ليمان، موزع مخدرات صغير، يستغلها لتوزيع المخدرات للنخبة، ويغرقها في الإدمان، ويعرّفها إلى زبائنه الأوفياء لإرهابها، وهم هياكل عظمية يسيل مخاطهم وتغطيهم القروح، يمضون مضطربين، مرتجفين، مسجونين في هذياناتهم، مما يسهل عصرهم حتى الموت، وإجبارهم على السرقة والدعارة، وكل نوع من الانحطاط من أجل حصولهم على الجرعة التالية. كانت المخدرات مجرد تسلية للسائحين الذين يذهبون إلى لاس فيغاس في نهاية الأسبوع هربا من الضجر، لكنها كانت السلوى الوحيدة للمومسات والمشردين، والمتسولين، والنشالين، وأفراد العصابات، وغيرهم من التعساء الذين يتجولون في وكر ليمان، والمستعدين لبيع آخر ملمح إنساني مقابل جرعة مخدرات. كان الموزع يضاعف مداخيله من السيارات التي تسرقها عصابة قاصرين من مدمني الكراك، فيعيد تدويرها وبيعها. حين هربت مايا من وكر ليمان، وجدت نفسها في الشارع، مضطرة لبيع نفسها لأجل جرعة كحول أو مخدرات، مما أفقدها الإحساس بالكرامة الإنسانية وعجّل في وصولها إلى القاع، في ذلك البعد البائس والعنيف والقذر الموازي للحياة العادية في أي مدينة. عالم مجرمين وضحايا، مجانين ومدمنين، عالم بلا تضامن أو رحمة، حيث كانت مخدرة على الدوام أو تبحث عن وسائل التخدير، متسخة، كريهة الرائح، مشعثة الشعر. في الملجأ سرقت أمّاً شابة من آخر نقودها، من دون أن تستوقفها حقيقة كون معظم النزلاء هناك من النساء مع أطفالهن، ممن هُجرن أو هربن من أشكال مختلفة من العنف. كان سقوطها في المرحاض العمومي القذر يوم عيد ميلادها التاسع عشر قمة المهزلة، التي تنتهي بحل درامي منقذ يعيد الشابة الضالة إلى أحضان الأسرة بعد ستة أشهر من الضياع في مدينة الجريمة والخطيئة. تبدأ مرحلة ترميم الذات في تشيلوي، ذات الصوت الخاص، والثقافة الخارجة عن الزمن، مع الجد البيولوجي مانويل، وجارته الساحرة الطيبة بلانكا، التي تحرر مايا، بمساعدة نساء تشيلوي في عتمة الروكا ليلة اكتمال القمر، من الغضب الذي كان ينهشها، من عبء ماضيها، وتعيد إليها احترامها لجسدها. ثم يطهرها حب دانيال، من إثم الفخر بالماضي الملوث، ويبعث فيها الإحساس بالكرامة. ذاكرة مايا الملتوية تنسج في دفترها حكايا النضال الإنساني، التي لا تتوقف عند عرق أو لون، من بوبو الفلكي الزنجي الذي أدفأ طفولة مايا، إلى الإيرلندي مايك الذي تحول ناشطاً اجتماعياً مكرّساً نفسه لإنقاذ فتيان منحرفين من الشوارع والسجون، بعد إصابته برصاصتين في ظهره وهو يحاول حماية صبي متشرد، فاستقر بعدها على كرسي ذي عجلات، مواصلا مهمته، إلى الصبي الهش مدمن الكراك الذي أنقذها مرتين، لتتوقف عند مانويل وتحمله على مواجهة ماضيه كمعتقل سياسي سابق، مفسحة المجال أمام ألليندي" لتلمس الجروح التي خلّفتها الديكتاتورية في تشيلي. كما تمر شخصيات هامشية عدة تتحمل لعنات المجتمعات المعزولة، كتشيلوي حيث إدمان الكحول والعنف المنزلي وزنى المحارم، يظل مستترا بالصمت عليه، بينما لا وقود لمحارق اليأس!
|