الشِّعْرُ الياباني: الكتابة حتـَّـى الصمت |
المقاله تحت باب منتخبات ترجمة : محمـد خـماسي
''الثلج يسقط ! هكذا قيل للتّوِّ تحت جنح الصمت'' سيزاي مورو، 1943إن المشكل بخصوص الشعر الياباني يمكن أن يْطَرح كالتالي: كيف أمكن لشعر قوامه الفصاحة والخطاب ( السردي، والفلسفي، والوصفي) أن يحقق تثاقفا في ظل تقاليد يابانية تُعلي (في ما يبدو) من شأن المسكوت عنه والصمت؟ لنلاحظ بدءا أن هذا النوع من الأسئلة كان قد طُرح، بشكل معكوس، وبالاستعجال نفسه بفرنسا في سنوات ما بعد الحرب: كيف يمكن أن يتحقق ثقافيا شعر يعتمد الإيجاز والشذرة والهدف، داخل تقليد يفضل (في ما يبدو) الدفق الذاتي والغزارة؟ مع العلم أنه يجب ألاَّ يغيب عنا عَوضُ هذا الذي يذَكِّرنا به جون ماري غلايز في خلاصة مساهمته ذات ندوة حول '' الهايكو والشكل الوجيز في الشعر الفرنسي''، أي ما مفاده أن اختيار الشكل لا يمكن أن يكون محض حركة تقنية محايدة، بل هو دائما على الأرجح أداة ناقدة، سلاح حاسم.
وإذا كان كل اختيار شكلي هو في البدء أيديولوجي و تصويري، فإن آثار الصراعات، التي أدت إلى ظهور أشكال من الشعر جديدة باليابان، كان لابد أن تُدرَك في ثنايا القصائد الوليدة. وكان لابد أن تنبعث هنا وهناك بقايا التقاليد، بعيدا عن التأثيرات الخارجية والثورات الداخلية. وإذا كان من المؤكد، كما نشير إليه مرارا في هذا المقام، أن التقليد الشعري الياباني توسل بجميع الأساليب الممكنة حذف، تلميح، تعليق المعنى، فصل، تركيز الصورة لبلوغ تواصل غير لفظي؛ وإذا كان صحيحا أيضا أنه فضَّل عبر ترتيل مقاطعه الصوتية القليلة إرساء نوع من الكثافة ونوع من الصمت، فأَلاَ يستمر في بعض المقاطع من الشعر الحر المعاصر، ''الغربي''، ما يشبه أثرا ممكنا دائما لرفض معين للغة ولارتياب منها ومن خطاباتها، ما يشبه تَوْقا دفينا إلى الصمت؟ لكن في البداية، وبالنسبة للجيلين أو الثلاثة أجيال التي ابتليت بالحرب، وحسب الاعتبارات الخاصة بالعمر الذي كانت فيه في موقع الضحايا، قد يكون من الأجدر التخلص من عقبة حذَر من الكلام اجتماعي وسياسي أكثر مما هو متوارث. ورغم ذلك ألا يلتقي النوعان من الارتياب، أحدهما وجودي وميتافيزيقي، والآخر تاريخي ظرفي؟ وقد تكون هذه الحال في قصيدة '' لنا نحن الكلمات'' للشاعر كويشي ليجيما ( المزداد سنة 1930) التي نورد منها هنا بعضا من المقاطع ترجمها جان بيرول(إلى الفرنسية)، في العدد 25 من مجلة أكسيون بويتيك سنة 1964 ، أي أربع سنوات بعد صدور الصيغة الأولى للقصيدة: لم نتعود بعدُ أن نُحَيِّي أمواتا لم نعرف بعدُ كيف نستسيغ الرعب لا نعرف كيف نقيس المدى الذي تعضده كلماتنا. ذاكرتنا تَعلَق بأشياء منكسرة وكلماتنا لا تلتقط إلا انكسارا وشظايا. أي نَعَمْ، هذه القصيدة تعكس ذهنية إنسان قد يكون عاش سنوات مراهقته في فوضى الحرب وأوهام البناء بعد الحرب. لكن وكما كان يشير، عشرين سنة بعد ذلك، تاكاشي هيراييد، وهو شاعر أصغر سنا ومن مواليد 1950 هذا الشعور بخطر محدق وداهم ليس خاصا فقط بطور معين من شعرية ليجيما: إنه يسم كذلك شعر، بل فن، الحقبة المعاصرة برمتها. ألم يستسلم تاكايوكي كيوكا (1922 2006) أحيانا لغواية العودة إلى الإيجاز الشعري، وهو الذي تأثر بالشعر الفرنسي وخاصة برامبو، الذي ترجم له؛ أو بالسريالية، والذي كان أيضا ضليعا في الموسيقى الكلاسيكية الغربية؟ هذا ما نستشفه من هذه القصيدة، '' من أعماق الأذن''، المفتلذة من ديوان رباعيات بعنوان '' اسكيتشات الفصول الأربعة'' والمنشورة سنة 1966 : لَمّا قلبُك يشعر ببؤسه الغامر، تَجَنَّب الموسيقى. ونحو مكان من هواء وماء وحجر فحسب، إذهب لتتزود بهدوء من معين الصمت! فمن بعيد يصَّعَّد حينئذ صدى الكلمات التي تجعلك تَحْيَى. ومهما قال عن ذلك الشاعرُ نفسُه فإن شعرية يابانية تقليدية ترشح من قِصَر هذه المقاطع، حتى أن التعليق عليها يمكن أن يستعير تقريبا ما قاله إيف بونفوا عن الهايكو: '' نقترب فيه على كل حال، داخل الكلام نفسه، من حالة صمت لا تتأخر عن الإعلان عن نفسها منبعا''. ومن جهة أخرى، فإن قصيدة كيوكا هذه لا تخلو كذلك من إشارات إلى غيوفيتش في كتابه ''الفن الشعري'' الصادر سنة 1989 : كَمَا بعضُ الموسيقى تستطرب القصيدةُ الصمتَ، وتُفضي إلى ملامسة صمت آخر، أكثر صمتا. وبطريقة لا تخلو من سخرية ومفارقة، وفي قصيدة من سنة 1968 بعنوان ''سور من رصاص''، يدافع هيروشي كاوازاكي (من مواليد 1930) باستماتة عن هذه الكلمات التي لا تني تتلقى الضربات القاتلة من الناس ومن الشعراء: الكلمات كان من الأفضل ألا تُولَد كلماتٍ. هذا ما تفكر فيه بما هي كلمات كانت ستَودُّ لو وُلدت شرفةً لسور من رصاص هذا ما تفكر فيه ثم بعد ذلك تُصدر زفرة لم تعد من الكلمات في شيء. وهنا أيضا لا يسع المرء إلا أن يتذكر غيوفيتش وفنه الشعري الأخير في كتابه ''الآن'' (1993). بيد أن الفرق شاسع بين الشاعر الياباني، الذي يضع نفسه موضع الكلمات، والشاعر البروتاني (من مقاطعة بروتانيا الفرنسية) الذي يريد الانقضاض والاستحواذ عليها بتواطىء من بعضها! لكل كلمة أجرافها. عَلَيّ بدءا أن أواجه جدرانها. أكتشف أحشاءها أو أقتحمها بتواطىء من كلمات أخرى. وعندما أكون بداخلها، فأنا والكلمة نتناجى. تساعدني هي، لكي أشعر |