الكاتب السويسري برنار كومنيت يؤبن انطونيو تابوكي |
المقاله تحت باب منتخبات لن تلتحق بناد يقبل في عضويته أشخاصا مثلي!
ترجمة خالد النجار أنطونيو، عوض أن أودّعك، الأجدر أن أقول لك اليوم شكرا، شكرا لأنّك كنت الانسان الذي كنته. ولأنك كتبت الكتب التي كتبت، وشكرا بشكل خاص لأنّك كنت الصديق الرّائع. عندما علمنا بالحالة التي وضعك فيها المرض بكينا بكل بساطة كما فعل أصدقاؤك الكثيرون؛ بيد أنّنا أيضا قلنا لأنفسنا أنّه كان من حظّنا الخارق أننا تعرفنا عليك وصاحبناك في السفر وشاركناك كلّ تلك اللحظات. أتذكر أحاديثنا التليفونية، جولاتنا في المدينة أواخر النهار، وأيضا عندما كنت تملي عليّ نصّا، كان في البداية في غرفة شبيهة بغرفة المهرجين السينمائيين الأخوين ماركس، علبة الأحذية، حجرة الخدم تلك الصغيرة جدّا وهي مكتبي حيث كتبت أنت ذاك النصّ الشديد التأثير الكون داخل تفعيلة شعرية. وبعدها في شارع فيسكونتي أو شارع الجامعة حيث كتبت نصوصا قصصيّة، نصوصا غاضبة، ورسائل وبعد ذلك كنا نذهب للعشاء. وفي ساعة متأخّرة، في ساعة متأخرة جدّا كنت تقرأ النصّ الذي خرج منك وقد صرت متخففا فرحا تفتح النوافذ، اذ لا بد لك من قليل من الهواء وقليل من قطع الثلج، فقد كنت تحس دائما بالكثير من الحرارة. وكان يثير شفقتنا أن نراك حافي القدمين باحثا عن البرودة وفي كلّ مرّة كنت أقول في نفسي إنّ رأسك أصغر بكثير من كلّ الأشياء التي تعتمل داخله. كنت أراك أحيانا تقطّب، وكنّا نرى أجل كنّا نرى ذكاءك وهو يعمل. ذكاء حادّ جيّاش وسرعة ربط للأفكار عجيبة، وبصيرة مدهشة وهو ما كان يسمّيه بلزاك الرّؤية المضاعفة. كلّ أصدقائك هنا أو في أماكن بعيدة على وعي اليوم بأن حياتنا ارتقت بفضلك، لأنّنا عرفناك و شاهدناك و استمعنا إليك. كان لديك تلك المهارة النّادرة في تنوير الحقائق وربط الصّلات وتحديد مواقع الجمال وقبل ذلك تحديد الأخطار وطبيعتها. و اذ كنا نغادر المطعم بعد عشاء بصحبتك كنّا نشعر بأننا اكتسبنا شيئا، وأنّنا لم نضيع وقتنا وأنّ صوتك يستطيع أن يغير الأشياء. هنا، أريد ان أحيّي شجاعتك يا أنطونيو، تلك الشجاعة الحقيقية. وليست شجاعة تلك الشخصيات السّفسطائيّة الوقحة المحبة للظهور والتي تعرف الحدود التي لا يمكن تجاوزها، ومخبري القصور الذين يظلون مع ذلك داخل القصر والذين يعرفون كيف يحتفظون بموقعهم في القصر مريحين ضمائرهم. أولئك بهلوانات القصور Les giocchi del Palazzo كما كان يسمّيهم بازوليني. أنت، كنت تدرك ألعابهم فهمهم جيّدا. كنت تفضحهم في وضح النهار، تسلط عليهم نورا مرعبا هو نور ألحقيقة وتندد بهم بقوّة، وهي قوّة تبدو زيادة في آذان وفي عيون بعض من كان يعتقد أنّك تبالغ في اللحظة التي كنت فيها وبكلّ بساطة ترى قبل أيّ كان. لحسن الحظ كانت هناك الى جانبك زي تيريزا ميشال، وكانت هناك ومنذ ثماني سنوات بياتريسا الرائعة وكذلك أيضا الدّائرة المقرّبة من الأصدقاء. ذلك أنّك كنت تهاجم قوى ذات قدرات هائلة، قوى تستخدم أساليب خسيسة. وأنت كنت تتقدم متسلحا فقط بصوتك وبقلمك مثل دون كيخوتي لا يوقفه شيء، لا توقفه لا اعتبارات تكتيكية أو استراتيجيّة. وما كنت أحبّه فيك يا أنطونيو هو قلّة حذرك. أنت يا أنطونيو لا تعرف أن تكون حذرا. ثمّة شيء أكثر قوّة كان يحرّكك. أنت، لم تكن تعرف الحذر، بيد أنّك كنت تعرف التواضع. أقول ذلك بكل بساطة. كانت المرأة التي تقوم على خدمة البيت لديها في نظرك من الأهميّة ما هو مثل أو يفوق أكبر البورجوازيّين، لأنّ البورجوازي هو غالبا ما يكون جبانا. في هذا الشأن كما هو حالك في جميع الأمور كنت ديمقراطيّا بعميق. كنت متحرّرا. فوضويّا بهدوء وديمقراطيّا بعمق. لم تترك نفسك أبدا تنساق نحو أيّ شكل من أشكال المغالاة والتطرّف ولا نحو أدنى شكل من أشكال التساهل إزاء الحماقات النظرية والممارسات المجنونة التي أطبقت على وطنك و أدمته. لقد ولدت في ضجيج القنابل، وكانت طفولتك قد تغذّت بقصص سنوات الفاشية السوداء؛ لهذا السّبب كنت تدرك قيمة السلم والعيش المشترك المراعي لحقّ كلّ فرد. ومساهماتك الفكرية حول مسألة الغجر كانت شجاعة، مؤثّرة مثل مداخلاتك حول الأوضاع في إيطاليا. ذلك أن إيطاليا كانت توجعك كما يحس المرء بألم في رجله أو قلبه. كنت تحبّ إيطاليا. إيطاليا أيام زمان الذي يمر بسرعة، شخصيّة طريفة عجوز إيطاليّة كانت لديها قولة رائعة: 'هل تتذكرون كم كانت جميلة إيطاليا؟'. لأنّك كنت تحبّ إيطاليا ندّدت بقوّة وصبر بانحرافات تلك المهزلة القذرة التي إسمها البرلسكونيّة، بالضّبط، مثلما هو حبّك لأوروبا الذي جعلك تندّد بعجزها عن الردّ على الصراعات المحكومة بالمصالح وعلى انتهاكات التوازن المؤسساتي التي خانت الميثاق. نعم، كنت وحيدا في بعض الأحيان وواصلت. وفي الأخير الجميع أعطاك الحق. ولكن ما يجب قوله، أنّك كنت تستطيع أن تتجاوز هذا عن طيبة خاطر، كان من الممكن أن تفضل قضاء وقتك في الكتابة والقراءة ووأن تتمتع بأقاربك وبجمال الحياة، وبالضحك فقد ضحكنا كثيرا سويّة. كانت لديك فكاهة خارقة للعادة. لديّ أرشيف كبير عنك، علب كرتون كاملة، فقد عملنا مع بعضنا أشياء كثيرة. ولكن هذه العلب و الأرشيفات لا توجد داخلها رنّة ضحكتك التي ستظل رغم ذلك تتردّد في آذاننا لوقت طويل. ستظلّ لنا إذن ذكرياتنا، وهي ذكريات كثيرة، ذكريات طريفة مؤثّرة قويّة منها بالخصوص تلك المتعلّقة بما تسمّيه متاهتك العقلية labirinti mentali أجل متاهاتك العقليّة كما في ذلك اليوم في باريس، عندما هتفت لي من فندقك الباريسي لتطلب منّي أن أتّصل بموظف الاستقبال الذي بالفندق وأن أسأله عن كيفية الاتصال بالاستقبال بدءا من الغرفة، وأن أعود إليك فيما بعد. كان شيئا لا معنى له ورائعا في الآن. لديّ الكثير من هذه النوادر المثيرة. ستبقى لنا ذكرياتنا. وستبقى لنا كتبك. كتب مؤلف عالمي كبير. ما نجحت في انجازه أنت في الكتابة شيء نادر وعسير تحقيقه في الأدب: لقد استطعت أن تكون في الآن قويا ومرهف الذهن. قوي لأنّك أيقظت ريح التاريخ الكبرى وتراجيدياته؛ ومرهف الذهن لأنّك لم تعط أيّ دروس مباشرة، وشخصياتك الروائية ليسوا أبطالا، والحياة ترتسم في أعمالك بكلّ تعقيدها بكلّ هشاشتها وتناقضاتها كما في كتابك الباذخ ترستانو يموت الذي قراءته وإعادة قراءته تظل دائما باعثة على الدّوار. إنجازك هنا. سيظلّ حيّا نابضا لزمن طويل. في مقاطعة توسكانيا ما قبل عصر النّهضة، كانت الرزنامة الميلاديّة تبدأ بيوم 25 مارس عيد البشارة. وكان موضوعا مهمّا بالنّسبة إليك عيد زيارة العذراء. وكنت كثيرا ما تطرح نفسك ببساطة بوصفك كاتبا في حالة إصغاء وأن ملائكة سوداء وغير سوداء كانت تأتي لزيارتك لتوحي إليك بقصص ترويها. أحبّ هذه الرّؤية المتواضعة والمختزلة. إنه صوت مدعوم بشيء ما... هناك اشارة أخيرة إلى إقليم توسكانيا البحريّة، فقد رحلت في يوم 25 مارس يوم عيد البشارة. إنّه اليوم الأوّل لعصر جديد. وبصراحة، سيكون هذا العصر أقل جمالا، وأقلّ قوّة، وأقل طرافة وحدّة. الآن تبدأ موسيقى الجناز، جنازتك يا أنطونيو، هنا في مقبرة البليزير هذه الجميلة جدّا والحزينة جدّا التي خلّدتها أنت وحيث سنصادف في كلّ مكان تقريبا شبحك وفي كثير من الأحيان وسنضحك وسنكون مسرورين لأنّ السرور والضحك كانا رشاقتك الكئيبة. شكرا يا أنطونيو، شكرا وإلى اللقاء. لقد كنت حقيقة وظللت أروع الأصدقاء. لا تنسى قولة غروشو ماركس التي كانت تلذّ لك كثيرا 'لن ألتحق أبدا بناد يقبل في عضويته أناسا من أمثالي'. ابق معنا. * برنار كومينت، كاتب سويسري حاصل على جائزة غونكور الفرنسية للرواية ومترجم العديد من اعمال تابوكي الى الفرنسية. المترجم شاعر وناشر تونسي مقيم في أمستردام |