العراق نموذجا: المالكي وعلاوي وما بينهما الهاشمي

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
15/01/2012 06:00 AM
GMT



على ما يبدو عليه عالم السياسية العراقية من ثبات، بين "عصر" صدام حسين وما بعده، غير أنه اختلف على نحو كلي، بأمر واحد، وهو أن التجربة السياسية، مهما بدت عليه من تشابه مع سابقتها، لم تعد كما كانت، تجري بيد رجل واحد وبمزاجه الشخصي، يباغت الجميع بقرارات تبدأ من اعلان الحرب إلى تزويج الوزراء. فقد أدخل الأميركان بغزوهم " روح شرائعهم" إلى الشرق الأوسط، وكانت بروفة العراق وما برحت، مثل تمارين مضيفة الطائرة التي تستعرض كيفية استخدام حقيبة النجاة لركاّب العالم العربي المقلع نحو المجهول. بعضهم ينظر إليها بإمعان، والبعض الآخر يشيح عنها كسلا أو خوفا، أو لاعتقاد بقلة أهمية ما تقوم به، فمن يستطيع ان يتخيل نجاته والطائرة تهوي من السماء إلى الأرض. وأيا كانت التوقعات لما يجري في العراق اليوم من فوضى وتناحرات، فالأمر الأكثر وضوحا في حالته، هو ما يوحي وضعه من ممكنات تفسير أزماته. فمنهم من يراه ضحية تجاذبات أطراف ثلاثة : الأميركان وايران والسعودية، وآخرون يقولون ان الذي يحدث بروفات حرب طائفية ستشمل العالم العربي، ومنهم من يعزو إشكالياته إلى ما فعله الاحتلال الأميركي من هول وتخريب.

وكل تلك التصورات تبدو على قدر من الوجاهة، بل تبدو متواشجة ومكملة لبعضها. ولكن الأوضاع التي تنعكس على الأرض من تفجيرات وقتل، تقتضي قدرا من الاهتمام يتعدى الشماتة بالأميركان وحلفائهم، او ايران ومن ساندنها، او الدول العربية وامتدادها الداخلي. وكل الاعلام العربي والعالمي يستخدم جانبا من تلك القصص كي يرضي نفسه. ولكن العراق والسياسيين العراقين أنفسهم يقدمون لمن يشاء او لا يريد أن يرى، نموذجا لثقافة تكاد تتشارك فيها الدول العربية بمجموعها. لعل في استعراضات المالكي ومراجله الكلامية، بقايا حلم يدغدغ خاطر العراقيين ومعهم العالم العربي، بعودة الرجل القوي الذي يستطيع القطع والحسم والإملاء. مثلما أدرك طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية خلال دعايته الانتخابية قيمة ان يقدم نفسه رجلا عسكريا يستطيع أن ينهي الصراعات بحزم وقوة على الأرض، كما فعل علاوي الذي تعرضت قائمته إلى انشقاقات دارت كل مشاكلها حول تفرده بالقرار. وقس على هذا بقية الساسة العراقيين الفاعلين في المعركة الأخيرة التي شب اوراها بين المالكي وطارق الهاشمي المتهم بجرائم تفجيرات واغتيالات. أما الهادئون على جبهة العراق اليوم، والماسكون بالأوراق الرابحة، فهم على اعتقاد بانها فرصتهم في الحصول على الغنيمة القادمة من ضعف الجبهتين المتعاديتين علاوي ـ المالكي. لكن كل واحد فيهم يكاد يتمرأى بمرآة طارق الهاشمي ومأزقه، والمالكي وورطة الزعامة والحاشية، حيث التهم بالتحريض على جرائم القتل ومشاركة الحمايات فيها، تكاد تشمل كل الأطراف السياسية. فقد قدم كل طرف حصته من إراقة دماء العراقيين، وهذا الحال لايستثني القادة الأكراد حيث يجابهون اليوم صعوبات في إسكات جماهير الإقليم عن مسؤوليتهم في العنف والفساد. تنظيمات بأكملها ارتبط اسمها بحوادث مروعة في ذاكرة العراقيين وهي الآن في موقع القرار المؤثر. ولعل قيس الخزعلي وأبو درع، المرشحين للتصالح مع المالكي، كانا نموذجين لأسماء اخرى نخاف ذكرها من الشيعة والسنة والمؤمنين والمعميين الذين تطهروا في صلاتهم بدم العراقيين. ومنهم من تولت حماياتهم قتل حراس المصارف وتولى القائد تهريبهم وأموالهم الى ايران.

نحن إذن أمام سلطة مافيات، تفاوض وتساوم بالسلاح وتحاور على حد السيف، متطلعة إلى الكيفية التي تنتزع المزيد من المغانم، ليس من الفصائل الأخرى وحسب، بل من دول الجوار، وتحت الطاولة من الأميركان، حتى بعد قرار خروجهم من العراق. الايرانيون مثل الأميركان لا يفقهون إلى اليوم سر معادلات العراق الصعبة، ومتى يبيعهم الفصيل المدعوم من قبلهم او يكون وفيا لالتزاماته.

كان لابد أن تتشكل هذه المافيات الصغيرة والكبيرة في ظل احتلال تصرّف قادة جيشه بعقلية مليشيات وقطاع طرق. إذن ما الذي بقي للعراق كي يغدوا إمثولة لمن لا يحتاجون إلى إمثولات؟ ربما الثقافة التي تتشابه وتختلف الى حد ما عن ثقافة الدول العربية، ومن ميزاتها: الميل الى التسويات السريعة سواء بالعنف او بالصفقات القذرة، وتغلغل حزب البعث الممثل للنظام السابق، في إداء السلطة على الجبهتين الشيعية والسنية.

لعل انكشاف أوراق القادة في العراق، وعلى رأسهم المالكي صاحب الجهاز القمعي الأساسي في السلطة، الذي يديره ضباط من البعثيين السابقين، يوحي بما تضمره لعبة الديمقراطية العراقية من مآلات، وهي لعبة تقتضي قدرا من الريبة والتآمر والقسوة، ولكنها لن تكون مخفية على أعين الناس. فما من قائد اليوم يستطيع ان يمسك بزمام الحصان الجامح الذي اطلقه الأميركان من الحظيرة. فالعراق باحتياطه النفطي الضخم، وبمساحاته المترامية وديمغرافيته الثرية بالتنوع، أكبر من خيال المستجدين على السياسية من قادته، وفي ظل وضع شرق أوسطي متحرك، لن يسير العراق وفق مشيئة قائد او فصيل أو بلد بعيد او قريب. لعل هذا الكلام يؤخذ على أنه محض تمنيات لأناس حالمين، ولكن دعونا نضع خريطة الصراع على الطاولة لنعرف أسوأ مآلاته :

أولا : تفرد حكم الأغلبية، أي حكم الشيعة، وهو الحل الذي يدعو إليه المالكي تنويها وتصريحا.

ثانيا : التحاصص الطائفي : وهو الحل الجاري على أرضه اليوم، وتدعو إليه بقية الكتل التي تتفرج على معركة المالكي وعلاوي، وتحاول أن تعيد الأمور الى نصابها السابق.

ثالثا : حرب أهلية يشترك فيها الجميع وتمتد إلى مناطق قريبة من العراق.

رابعا : تقسيم العراق وانفراد اللاعبين الصغار بأقاليمه، الأمر الذي يمهد لنفوذ أكبر لدول الجوار.

خامسا : تفسخ السلطة والعودة إلى عهد سبق تأسيس الدولة العراقية عشرينيات القرن المنصرم.

كل هذه الاحتمالات واردة، بل هي في حيز التنفيذ أو في طريقها إلى التنفيذ، ولكن كيف لها أن تدوم في ظل وضع أقليمي متحرك وتحت أنظار العالم، بمنظومة مصالحه الضخمة والمأمولة في العراق والشرق الأوسط عموما. فايران اليوم تحت المجهر الغربي، ودول الخليج ليست بمنجاة عن هذه المراقبة. العراق الآن بسبب علنية حروبه الداخلية والاعلامية، يقدم بروفة لكل الثقافات العربية التي غفل عنها ثوراها عند بدء انطلاقتها، وشعب العراق المتعب من سنوات ممتدة من الحروب والخصامات، يبدو اليوم قد وصل نقطة النهاية، فأما أن يقبل بحرب أهلية محدودة او شاملة يفرط فيها السياسيون بمكاسبهم ويتركون العراق لمحنته، إلى حيث ادخروا أموالهم في بنوك العالم، او يوافقون على دويلات وكانتونات طائفية، تتمظهر الصراعات داخلها على نحو جديد بين العشائر والأحزاب الإسلامية، وبين المليشيات نفسها من فصائل الطائفة الواحدة. هذا هو منطق الحرب الأهلية، التي عودّتنا على أمر واحد، وهو لا رابح فيها إلا لمن يأتي من الخارج ليحسم الصراع، ولعل حالة لبنان هي الأقرب الى الأذهان. من يأتي إلى العراق إذا اندلعت الحرب الأهلية هذه المرة؟ مجلس التعاون الخليجي أم الجامعة العربية، أم الناتو أم أميركا نفسها؟ هذا السؤال فيه الكثير من السوداوية، فهو أقرب إلى سيناريو كئيب لا يتورط فيه العراق وحده، بل سيكون بمثابة تورط للقادم إليه، بسبب مكانة العراق الكامنة في ثرواته، ولأنه مشروع خرج من المعطف الأميركي للتو جزئيا او كليا. فتح ملفات الهاشمي ومحاكمته ستكون لها تداعيات، فأهله من السنة يلوحون بالويل والثبور إن جرت المحاكمة، وأهل المالكي الشيعة يلوحون بالويل والثبور إن أُلغيت المحاكمة، ولعل من الجائز ان يكون للعراقيين الذين لا ينحازون إلى هذا الجانب او ذاك، سينورياهات أخرى تنطلق من لحظة المحاكمة ولا تتخطاها : ماذا لو استطاعت محاكمة الهاشمي أن تكون من نوع مختلف، أي أن بمقدورها أن تفتح الملفات كلها. ستكون أمامنا حرب ملفات علنية ومن نوع جديد، تكون فيها كلمة الفصل أمام القضاء، لا قضاء المالكي، بل قضاء محمي عالميا ومسؤولة عنه الحكومة والبرلمان أمام هيئة دولية . كل ما هو معلن الآن على مستوى الاعلام والصحافة لم يعد كافيا، بل ينبغي أن ينقل إلى فضاء قانوني، أكبر من فضاء محدود يريد الهاشمي حصره في المنطقة الكردية، فمن حقه أن يخاف على نفسه من تصفية محتملة لا يشترط أن يكون فيها الأعداء المنظورين اي المالكي وجماعته، ولكن ما عليه سوى ان يدخل التجربة بشروط، قبل أن يضطر الأكراد لتسليمه. ولكن كيف له أن يملي شروطه وهو في قفص الاتهام؟ سنتذكر محاكمة صدام حسين وصحبه، التي أدانت ضعف القضاء العراقي، و خوف القضاة، وأغلبهم من البعثيين السابقين، وغباء الأميركان وتعصب خصوم صدام وتهورهم، حيث استطاعوا تخفيف وقع جرائمه على الناس، بل محوها وأظهروه بطلا لائقا للعرب المبهورين بقسوته وقوة حسمه. مقتلة القذافي، كانت دليلا على ان المسافة التي يقف فيها العربي من ثقافة القانون والعدالة والرحمة، طويلة وشاسعة. قضية الهاشمي لا تعني المعركة بين علاوي والمالكي، فهي أكبر منها، وهي أكبر من صراع بين السنة والشيعة، على ما يحاول الطرفان استثماره فيها، إنها حرب بين ثقافة الخفاء والعلن حيث دخل الفضاء الاتصالي غرف نوم القادة والزعماء، وهو فضاء ديمقراطي بالضرورة مهما حاولت الثقافة القديمة تحريفه أو استثماره لصالحها.

انها حروب يفعل فيها السياسي العربي ما يشاء، ويبيع كلامه الى جمهور يشابهه أو يختلف معه في طرق الإدراك والتفكير. فالحاكم المالكي والمتهم الهاشمي كلاهما اليوم يتعرضان لامتحان الخفاء والعلن، بل العراق يقف على جسر العبور من دولة ملفات القتل والنهب السرية، إلى دولة العلن. طال الزمان أم قصر، غص العراق بالدماء ام حصل على هدنات مؤقتة، فهو تجربة ستستوي يوما على ما لا يحلم به حاكم أو زعيم من زمننا هذا.