المقاله تحت باب قضايا في
07/01/2012 06:00 AM GMT
علي ابو عراق | البصرة أفقدته ذبابة مشاكسة صوابه، وشغلته عن تزييت ماسورة بندقية الصيد التي لم يستعملها منذ20 عاما، قرصت خده الذي يشبه بقايا قهوة محترقة بإلحاح، فانهمر من فمه سيل من الشتائم وهو يلوح بإحدى يديه غاضبا "لعن الله الذباب.. والنظام الذي هجرنا من ديارنا.. وكل من دفننا في هذه المزبلة مثل طيور ميتة". لم يقتصر غضب جبار حاتم (65عاما)، على الذباب بل تعداه إلى زوجته العجوز، والتي سألت مستفهمة عن سبب غضبه المفاجئ ، وبعد أن استرخت قليلا قالت "أراك تُزَيت (كسريتك) فهل سنرجع إلى ديارنا؟". وهي تعني بذلك العودة إلى الأهوار. السؤال عن العودة بات يطرحه سكان الأهوار بكثرة هذه الأيام والذين عاشوا بعيدا عن موطنهم أكثر من عقدين مضت، ولا زالوا يحلمون بالعودة إلى ديارهم التي هجروها بعد عمليات تجفيف الأهوار التي تمت في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي. إعلان الحكومة الحالية عن سعيها لإعادة إنعاش الأهوار ولّد أملا جديدا في نفوس هؤلاء، لكن مخاوف المراقبين تنذر بكارثة تهدد تلك المناطق بقلة المياه التي تغمرها وارتفاع نسبة الملوحة فيها. عمليات التجفيف التي قام بها نظام صدام حسين بدأت في ثمانينيات القرن الماضي وحتى أواسط التسعينيات، حيث جفت معظم تلك المسطحات المائية بعد تحويل مسار الأنهار التي كانت تزودها بالمياه، تبعها هجرة معظم سكانها. الحكومة العراقية بررت آنذاك هذا الإجراء بملاحقة معارضيها الذين كانوا يتخذون منها مكانا للأختفاء، نظرا لما توفره من بيئة مناسبة حيث المسطحات المائية الواسعة ونبات البردي الكثيف الذي يملأها، لكن تلك البيئة تغيرت تماما بعد عمليات التجفيف واختفت مع الأهوار تلك الطيور البرية التي كانت تهاجر اليها في مواسم مختلفة. الباحث في شؤون الأهوار، عبد الحليم مهودر، يقول إن "أهوار العراق تمثل ثالث مسطح مائي عالمي يجلب الطيور المهاجرة بعد الصين وجنوب إفريقيا، كما أن مياهها الضحلة كانت تشتهر بزراعة الرز، وكان إنتاجها من هذا المحصول يغطي العراق ويتم تصدير الفائض منه الى خارج البلاد". حاتم الذي مضى على هجرته من الأهوار قرابة 20 عاما، يستذكر رحيله من المكان ويصف تلك اللحظات بألم كبير بالقول "حملنا بعض الأغراض بعد أن بعنا ما تبقى من حيواناتنا، وتوجهنا إلى البصرة، لأننا كنا نعتقد أن غيابنا عن ديارنا سيكون مؤقتا، وبعد سقوط النظام عام 2003، كنا على يقين من العودة إلى الديار بعد إعادة إحيائها، لكن هذا اليقين تبخر بمرور الأيام، إذ أن أهوارنا لم تغمرها المياه، ولا تزل حتى اليوم جرداء قاحلة". ذروة الهجرة من الأهوار ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، حينما ارتحل سكان الأهوار الى المناطق المجاورة لها، وفضل بعضهم النزوح الى المدن الجنوبية ومنها مدينة البصرة التي شكل مجلس المحافظة فيها لجنة خاصة اطلق عليها تسمية "لجنة إنعاش الأهوار" عام 2006. اللجنة التي بدأت عملها منذ أكثر من ثلاث سنوات، تم تكليفها بالعمل على إعادة الحياة الى الأهوار لتسهيل عودة الأهالي النازحين منها الى مناطقهم التي هجروها مُرغَمين. وبدأت اللجنة عملها بالفعل عام 2006 ضمن مشاريع وحدة الأعمار، إذ تم تخصيص 50 مليون دولار لكل محافظة من المحافظات الجنوبية الثلاث والتي تتمثل بالبصرة وذي قار وميسان من قبل الحكومة المركزية لمعالجة جفاف الأهوار فيها. حامد الظالمي عضو لجنة إنعاش الأهوار قال إن اللجنة انجزت نحو 90 مشروعا في الأهوار في عام 2006، منها 30 مشروعا للطرق ومثلها للكهرباء ومشاريع لتوفير المياه الصالحة للشرب وبناء المدارس. وأكد أن مشاريع عام 2007 تركزت على توفير الموارد المائية ومشاريع انشاء الطرق المُعبدة، حيث وصل عدد المُنجَز منها الى أكثر من 50 مشروعا، أما العام 2008 فركز على مشاريع التربية والصحة بشكل اساسي وتم خلاله بناء 20 مدرسة و14 مركزا صحيا. ولم تتمكن كل تلك المشاريع من إعادة الحياة الى أهوار العراق وعودة سكانها، فإعادة الحياة الى الأهوار اصطدم لاحقا بعائق جديد يتمثل بقطع إيران للروافد والأنهارالصغيرة التي كانت تغذيها. نقيب المهندسين الزراعيين في البصرة، علاء البدران يشير إلى أن المساحة الحقيقية التي تم غمرها بالمياه من الأهوار لا تتجاوز 30% مما يشكل كارثة حقيقة بسبب ارتفاع نسبة الملوحة فيها، وأن قطع إيران مياه الروافد التي تصب في شط العرب زاد من سرعة تحقق تلك الكارثة. ويضيف "وصلت نسبة الإغمار في الأهوار الى 40% في عام 2003 بعدما أقدم الفلاحون على كسر السدود لإعادة الحياة إلى الأهوار، وارتفعت النسبة الى 80% عامي 2005 و2006، لكنها انخفضت مجددا بعد عام 2007 إلى 24%". البدران يؤكد ان منسوب المياه في نهر دجلة انخفض إلى سبعة مليارات و660 متر مكعب في الوقت الحالي بعدما كان نحو 20 مليار و930 متر مكعب قبل عشر سنوات وهو ما يؤثر بشكل مباشر على الأهوار، فضلا عن ارتفاع نسبة الأملاح بشكل كبير. مصادر في مديرية الموارد المائية في البصرة أكدت ان الأهوار تلاشت بنسبة 97% وتقلصت مساحتها من 20000 كم2 إلى 2000 كم2 فحسب، كما انخفضت نسبة السكان من 400000 ألف نسمة إلى 85000 ألف نسمة. اندثار الحياة في مساحات واسعة من الأهوار أَثر بشكل كبير على الثروة السمكية فيها، حيث كانت الأسماك تمثل مصدرا غذائيا مهما للسكان، لكنها انقرضت تدريجيا بعدما بدأت فراديس الماء بالجفاف لتتحول تدريجيا إلى بحيرات ملحية مستقبلا بحسب تنبؤات المختصين في المديرية. مصادر مديرية الزراعة أشارت هي الأخرى الى أن ما تنتجه الأهوار من الأسماك يبلغ نحو 50 ألف طن سنويا. فسكان الاهوار يعيشون في الغالب على صيد الطيور والأسماك وما تنتجه حيواناتهم مع القليل من الزراعة التي يعتمدون عليها في سد النقص الحاصل في حاجتهم اليومية للغذاء. صورة تلك الحياة الساحرة لازالت مرسومة في ذهن جبار حاتم وهو يروي جزءا من تفاصيل ذاكرته التي تحمل الكثير عن أيامه الآفلة ويقول "قبل تجفيف الأهوار في ثمانينات القرن الماضي، كانت حياتنا أسهل وأجمل، كان كل شيء متوفرا لدينا ونعيش بسلام ونعيم، نصطاد السمك والطيور ونزرع رز العنبر، وحيواناتنا تملئ الأواني بالحليب الطازج وتحيط منازلنا نباتات القصب والبردي العائمة في الماء". تمتم جبار بكلمات مفككة وهو يروض بقايا غضبه ويحاول كبح جماح دمعته التي استفزتها الذكريات "أخشى على البندقية من الصدأ... ولكن لا بد أن نعود في يوم ما". عن "نقاش"
|