قصة: ما وراء البحار

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
19/10/2011 06:00 AM
GMT



تراز أ. الدّويهي
ترجمة ألفراد خوري 

حازت هذه القصّة جائزة "البعثة العلمانيّة الفرنسيّة" (La Mission Laïque Française) في العالم للقصة القصيرة عام 2009 لمناسبة مرور قرن على دخولها لبنان. وهي حازتها بإجماع الهيئة التحكيمية الملتئمة في باريس، من بين مئة قصة قصيرة واردة من القارّات الأربع. ولقي هذا العمل اشادات بارزة من العديد من الكتّاب والنقّاد، من بينهم أمين معلوف، والروائي الفرنسي ألين مابانكو، وألكسندر نجار، وفيليب دولاروش، رئيس تحرير مجلة Lire الفرنسية الشهيرة. وخلال الحفل الذي أقيم في "البيال" في بيروت في أيار 2009، في حضور وزيري التربية اللبناني والفرنسي، قال دولاروش وهو يسلّم الجائزة لصاحبتها: "كأن كاتباً حائزاً جائزة نوبل للآداب قد كتب هذه القصة"
نشرت في "النهار" للمرة الأولى بالعربية.
 

هل تدور الأرض على نفسها دوراناً دائرياً سليماً؟ إنّي أتذكّر بوضوح تامّ تلك السنوات 1880 حين استولى حلم الهجرة الى أميركا على فلاّحي جبل لبنان. كان يُخيّل إليهم وهم يتأمّلون البحر المتوسّط من أعالي قراهم، أن وراء هذه المساحة الزّرقاء، القريبة جدّاً، الأليفة جدّاً، تمتدّ أراضٍ شاسعة ما زالت بكراً، حيث يمكن المرء أن يجني ثرواتٍ طائلةً بلا عناء كبير. وانه يكفي اجتياز هذا اليمّ لبلوغ العالم الجديد.
ورغم تعلّقهم الشديد بوطنهم -هذه الصخرة العجيبة المغروسة بين البحر وصحارى الشرق- فقد نزلوا بالآلاف، على ظهور الحمير أو البغال، الى مرفأ الميناء الصغير على مقربة من طرابلس، منتظرين بصبر في مواكب طويلة، أن يحظوا بمكان على متن سفينة متجهة الى بيروت، ليخوضوا من هناك غمار البحر.
كانوا يجهلون كلّ الصعاب وكل الأخطار التي تنتظرهم في المحيط الأطلسي العاتي الأمواج، طريقهم الوحيد الى الأرض الموعودة.
كيف لي أن أنسى اليوم الذي أبحر فيه سمعان؟ ها هو، في تلك الصبيحة الجميلة من أيّار 1884، يبتعد شيئاً فشيئاً عن شاطئ الميناء ليلتحق بمصيره الجديد. أستجمعت كل قواي كي لا أنفجر في البكاء وانا أحمل بين ذراعيّ طفلنا الوحيد، جبرايل، البالغ من العمر أربع سنوات. بعدها عدت، أنا وطفلي، الى قريتنا إهدن، المتّكئة على كتف وادي قاديشا، فاستسلمت مبكرة للنوم خائرة القوى، على أمل أن تصلني عمّا قريب الرسالة الأولى من زوجي الشاب، الذي سيطفئ خلال رحلته شمعته السادسة والعشرين.
في الأسابيع التي تلت سفره، لم ينتبني اي قلق، الى أن بدأت أولى الرسائل تصل الى القرية مذيّلةً بأسماء من هاجروا معه. لم يكن بينها رسالة منه. والأسوأ من ذلك، أنّه لم يؤتَ على ذكره في أيّ منهاٍ. لكن مثل هذه النصوص التي يخطّها أناسٌ لا يجيدون فنّ الكتابة، تكون عادةً جدّ مقتضبة ومقتصرة على الضروري لا غير.
وسرعان ما وجدت في ذلك بارقة أمل، فقلت لنفسي، إذا كان سمعان لم يُذكَر في هذه الرسائل، فهذا يعني أنه بخير ولم يتعرّض لمكروه. هكذا في البداية، منعني كبريائي من إظهار أي قلق مهما كان بسيطاً أمام النّاس، فلجأتُ الى الانتظار الصامت الذي سيطول أكثر فأكثر ويصبح تحمّله رهيباً.
مضت الأيام، ومعها الأشهر والسنون. لا رسالة او إشارة منه، ولا خبر عنه. كلّ ما قمتُ به من مساعٍ لدى السلطات، وكلّ ما أجريته من اتصالات مع عائلات المهاجرين الى الولايات المتحدة، لم يصلا الى نتيجة. هل سقط عرضاً في البحر وابتلعته الأمواج؟ هل بقي في مرسيليا لدى رسو الباخرة الآتية من بيروت ولم يسلك طريقه الى باخرة الأطلسي؟ هل ذهبوا به، من دون علمه، الى إفريقيا بدلاً من أميركا، وهو امر ممكن الحدوث في حينه؟ أم انها الفرضيّة الأكثر قسوة: ان يكون قرّر، لأسبابٍ لا أعرفها، أن يغيّر اسمه وحياته، وأن لا يعود يتصل بنا او يرانا بعد الآن؟
فوق هذه الاحتمالات كلها، كانت هناك الشائعات التي بدأت تسري حول مصير سمعان في هذه البيئة القروية المغلقة. ولمواجهة الوضع، احتميت في ثلاثة ملاجئ: الصلاة الى "سيّدة الحصن" التي تسهر علينا من فوق تلّتها العالية، الاهتمام بتربية إبني، والانصراف الى الأعمال الزراعية. لكن طوال هذه المرحلة الهادئة الصامتة من حياتي، لم تفارقني صورة سمعان قط. فكم من مرّة تحدّثتُ إليه في داخلي، وكم من مرّة أملت أن أسمعه يطرق الباب فجأةً في اعماق الليل ويضع حدّاً لجلجلتي الطويلة.
كانت الفصول تتوالى، وكان بدء الشّتاء الأكثر إيلاماً لي على الدوام، عندما تتوقّف الأعمال الزراعية فأجدني وحيدةً في مواجهة نفسي. كانت شمس المغيب الباهتة، المفعمة بالأسرار، تنشر أشعتها على جبل لبنان، وقد بدأت الثلوج تغطّي أعالي "القرنة السوداء"، سقف الشرق، قبل ان تطلق بعد حين انحدارها السنوي الهائل، فتجتاح الجبال والسفوح، والغابات والأودية، والحقول والقرى، فتغدو بلاد قاديشا بلاد البياض المطلق، تسهر عليها سماءٌ ليليّة صافية، مرصّعةٌ بنجوم لا تُحصى، او سماء عاصفة، ملبّدة بجحافل الغيوم الداكنة التي لا تعرف الكلل في اندفاعها الجامح نحو وجهاتها المجهولة.
ذات ليلة من ليالي كانون الثاني، بينما كنت أتأمّل عبر نافذتي الحقول المكسوّة بالثلوج، خطرت لي فكرةٌ سرعان ما تشبّثت بها في صورة نهائية: لِمَ لا أذهب بنفسي الى أميركا بحثاً عن زوجي؟ هكذا انفتحت أمامي كوّة أمل جديدة. مع ذلك، كان عليّ الانتظار بضع سنوات أخرى كي أرى ابني يكبر ويصبح شاباً ويتزوّج. صار جبرايل يشبه والده في شكل مدهش. وعندما بلغ العشرين من العمر، فعلت ما في وسعي لأجد له زوجة جميلة. الآن، بات في إمكاني الرحيل.
هكذا، مطلع صيف 1902، سلكتُ الطريق نفسها التي سلكها سمعان قبل ثماني عشرة سنة الى العالم الجديد. عبرتُ المحيط الأطلسي الرهيب ووجدتُ نفسي، وأنا في الثانية والأربعين من العمر، امرأةً وحيدة وسط اميركا الشاسعة. الى أين الآن؟ وما العمل؟
وضعت نصب عينيّ هدفين رئيسيين: العثور على سمعان، وإيجاد عمل يمكّنني من مدّ ابني بالمال. هكذا كان مساري مرسوماً منذ البداية. كان عليّ البقاء على مقربة من الجاليات المهاجرة من جبل لبنان، لأنّها وحدها القادرة على مساعدتي لمعرفة مصير زوجي. لكن تلك الجاليات كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد، مما اضطرّني للتنقّل الدائم وعدم القدرة على الاستقرار في مدينة أو ولاية ما. فوجدتُ أنّ تجارة المأكولات والألبسة هي الأكثر ملاءمة لحياة الترحل التي ستكون حياتي.
هكذا، حلّ البحث الطويل عن سمعان محلّ انتظاره الطويل. لكن مصيري الشخصي ما لبث ان اختلط بالأحداث الخطيرة التي عصفت ببدايات القرن. فسرعان ما اندلعت الحرب العالمية الأولى. ثمّ دخل الأتراك الحرب عام 1915 الى جانب الألمان والنمسويين، فاغتنموها فرصة لمعاقبة أهالي جبل لبنان على مطالبتهم الدائمة بالإستقلال منذ زمن بعيد. نزعوا عن الجبل نظام الحكم الذاتي الذي كان يتمتّع به وفرضوا عليه حصاراً غذائيّاً كانت نتائجه مأسوية للغاية: لقد قضت المجاعة وما رافقها من اوبئة وموجات جراد على ثلث سكّان جبل لبنان بين العام 1915 والعام 1918.
اجتاحني قلق رهيب، مثلي مثل جميع المهاجرين اللبنانيين الى اميركا. كان رُزِق ابني أثناء غيابي ثلاثة أولاد أعمارهم الآن بين الثانية والسابعة: بولس البكر، الذي يحمل اسم بولس الرسول، تراز التي تحمل اسمي، وسمعان الأصغر، اسم زوجي المختفي. أيُّ مصير ينتظر هذه العائلة الصغيرة وسط الاضطراب العظيم؟ بات كلّ اهتمامي منصبّاً على هذا الأمر دون سواه، مما خفّف في سنوات الحرب من بحثي المتوتّر المضني عن سمعان. وبرغم الحصار، تمكّنتُ من إيجاد الوسيلة لمدّ ابني بالمال الكافي لبقائه وزوجته واولاده على قيد الحياة. وكم مرّة شكرت الله على هجرتي الى أميركا التي أتاحت لي انقاذ عائلتي.
جبتُ على مدى ثماني عشرة سنة الولايات المتحدة طولاً وعرضاً بحثاً عن زوجي. ما تركت مكاناً يقيم فيه مهاجرون من جبل لبنان إلا وأتيت إليه، حتى الأصقاع الأكثر بعداً وعزلةً. لكنّي لم أستطع العثورعلى ادنى معلومة عنه قط. فما ان انتهت الحرب العالميّة الأولى حتى عدتُ الى وطني، وقد أضحيت امرأة مسنّة منهكة، لكن سعيدة للغاية لرؤية إبني وزوجته من جديد، وللتعرّف، قبل موتي، الى احفادي الثلاثة. خبرٌ سارّ آخر كان ينتظرني عند وصولي: الولادة القريبة لطفل رابع.
هل تدور الأرض على نفسها دوراناً دائرياً سليماً؟ إنها الساعة التاسعة صباحاً من أوّل تشرين الأوّل 1922. أتأمّل من نافذتي وادي قاديشا المفضي في البعيد على بحر بالغ الهدوء. في هذا الصفاء الخريفيّ، في إمكاني أن أرى من هنا، بالعين المجرّدة، الجزر الصغيرة وحتى السفن الراسية عند شاطئ طرابلس. لقد مرّت أربعون عاماً على رحيل سمعان، من دون ان أحظى بأي معلومة عنه. هكذا أكون أمضيت حياتي مع رجل لا ميتٌ هو ولا حيّ. ولا تزال حياتي نفسها مستمرّة الآن ايضاً. ومع أني أصبحت امرأةً عجوزاً، فما زلت آمل، رغماً مني، أن أسمعه يطرق بابي فجأةً، في آخر هذا الليل الطويل الذي لا يدرك أحد نهايته.