فصل من كتاب السماء الثانية

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
03/07/2011 06:00 AM
GMT



كان نزولي على عمّان خريف السنة الف وتسعمائة وأربعة وتسعون ، هو أول فراق اكراهي لبغداد ، أمّي التي أمرضها الحصار ، ومرمرتها الحروب . عبرنا جسر الجمهورية بسيارة كريم شغيدل . كان معي ساعتها ، محمد تركي النصار وحميد قاسم . في كراج علاوي الحلة المشتول بكرخ بغداد العباسية ، ركب حميد ومحمد الباص ، وتخلفت عنهما يوماَ واحداَ . على باب الظهيرة التالية ، استقللت صحبة قوم شاردين ، سيارة كبيرة اسمها " جت " وبيميني حقيبة فقيرة تنام فيها بطانية " جيش " وعشرون نسخة من كتابي الأول " المدفن المائي " ومسبحة من منزلة " سندلوس " وقميص وبنطرون " نص عمر " هما من بركات بائع العتيق عبد اللطيف الراشد - مات - من أثاث الجنطة أيضاَ ، ثمة نسخة ضخمة من كتاب القرآن ، مترجمة الى الأنكليزية وكلوص سكائر سومر من منزلة سن طويل ، وقمصلة " جيش شعبي "  ورواية " الحارس في حقل الشوفان " لسالنجر ، كان ترجمانها ، العموني البديع القدير غالب هلسا - هذا ما أراه منقوشاَ الآن فوق شاشة الذاكرة -  وهذه كانت من أحلى هبات الفتى الشاعر حسين الصعلوك . أكل منا الدرب الطويل بين بغداد العليلة وعمّان ، أزيد من عشرين ساعة ، كانت كفيلة بتحويل المؤخرة الى جذع شجرة في دكان قصاب . ألجيب فارغ ، يغني في بطانته داخل حسن ، وكانت تلك أقسى بيبان الوحشة . في كراج عمان ، تناوشتني سلة من أصوات واضحة . عجوز عراقية كأنها ألف سنة ، سألتني ان كان بجوف حقيبتي سكائر أبيعها ، قلت بلى ، قالت أنا شارية ، أجبتها انني بائع يا وجه الخير والعافية . سائق سرفيس عمّاني قح ، يعتمر حطة أردنية حمراء ، شال حقيبتي المنفوخة بغتة ، وسألني عن وجهتي . قلت مقهى العاصمة ، وسط البلد . ضحك الرجل الكهل وقال أن الوقت ما زال مبكراَ . قلت اذن دعنا نذهب الى فندق رخيص ، قال " على راسي عمي " وعلى مبعدة شمرة عصا من مكان الجامع الحسيني المشهور ، كان فندق الملك غازي العتيق . سعر الليلة بدينار ونصف ، والغرفة المزنزنة التي رميت في جوفها ، كانت تقوم على ثلاثة أسرّة . أستوطنت سريراَ ، وشخرت فوقه حتى أذان الظهر القريب .نزعت جسدي التعبان من دفء الفراش ، فوجدت ثالثنا قد غادر الغرفة ، وثانينا المهزول المسلول ، كان غطى وجهه ولفّه ببطانية ثقيلة . ثمة رجل خشبية تتكىء على أخير السرير . ربما جاء هذا الكائن الملفوف ، شارداَ مثلي ، وخلّف رجله اللحمية ، وديعة أبدية شرق البصرة . عبأت قدميّ الباردتين بفردتي الحذاء ، وشلت حقيبتي بهدوء وخوف يشبه خوف واحد راجع الى داره الهاجعة ، مطيّناَ ببطل عرق ، وخلاف دموي حول قصيدة النثر ، ونسيان مهين لميقات ميلاد الزوجة . غادرت النزل العتيق مودعاَ بتلويحة يابسة لا أدري سرّها . بيسر مبين ، أهتديت الى مقهى العاصمة الذي سيحتشد فيه بعد ساعة أو بعضها ، فلول من أدباء وفنانين عراقيين وأردنيين وفلسطينيين . أرحت ركابي لصق مدفأة تعمل بالسولار ، وما هي الا نظرة بارقة ، حتى انزرع فوق رأسي ، كبير الندل المشهور ، أبو محمود . بعد سنوات من القعود اليومي في المقهى ، لم أر أي أثر لأبتسامة فوق وجه أبي محمود ، تماماَ مثل وجه النادل المشورب اللاذع ، كبير جايجية مقهى حسن عجمي ببغداد ، أبو داوود ، الذي مات ولم يعثر على سر من سرق واوه . نهضت وصافحت أبا محمود ، وعرّفته بنفسي ، وسألته عن أصدقائي وخلاني وصحبي ، فقال سيأتون قريباَ . دفأت بطني بشاي خفيف لم أستسغه أول مرة ، اذ مازالت ذائقتي ، مكبلة تلبط بشاي وأستكان بغداد الأسود مثل ليل . رشفة من قدح الشاي ، وشفطة من سيكارة سومرية من صنف سن طويل ، وحسبة تجرني يميناَ ، وحسبة تسحلني شمالاَ ، حتى انفتح باب المقهى على وجه علي منشد . حضنني علي وعانقني بقوة ، حتى كدت معها أخسر أربعة من ضلوعي ، وخمسة من فقرات ظهري . أظن أن القصة انمطت وصارت أكبر من حجم حرثة " مكاتيب عراقية " سعدت ليلتكم كلكم .
   
alialsoudani2011@gmail.com